1 ديسمبر 2019

في طريقها للحلّ؟

عن قضية الأسرى المقطوعة رواتبهم

عن قضية الأسرى المقطوعة رواتبهم

بعد أقل من 20 ساعة من إعلان القوى الحقوقيّة والنقابيّة الفلسطينيّة تكليف حنا ناصر، رئيس لجنة الانتخابات المركزيّة، للتباحث مع الرئيس محمود عباس، بهدف التوصل لحلّ مشكلة الأسرى المحررين المقطوعة رواتبهم منذ عام 2007 تقريباً، والمعتصمين منذ حوالي شهر ونصف، أُعلِن أنّهم قرروا وقف خطواتِهم الاحتجاجيّة. فبعد قليل من منتصف ليلة الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2019، أصدر المعتصمون، وجلّهم مضربون عن الطّعام، بياناً يقولون إنّهم لمسوا "روحاً إيجابيّة" من قبل القيادة الفلسطينيّة، وعندهم "الثقة" بأنّ قضيتهم في طريقها إلى الحل. وفي صباح اليوم، وفي الساحة التي اعتصم بها الأسرى المحررون خلال الليالي الثلاثة الماضية، ساحة مركز بلدنا الثقافي في البيرة، كان مربّو وباعة العسل يعرضون بضاعتهم، فيما اختفت مظاهر الاعتصام.

لم يحمل البيان المختصر والمرسل في ساعة متأخرة وغير معتادة من الليل وضوحاً تامّاً بشأن بنود الاتفاق الذي تم التوصل إليه، والذي دفعهم لوقف الاحتجاج بعد أن بدا أنّه وصل مرحلة "اللاعودة". وعند الاتصال صباح اليوم الأحد مع الناطق باسم الأسرى المحررين، علاء الريماوي، قال إنّهم "يثقون" بالجهات التي توسطت لحلّ الأزمة. فيما قالت مصادر مقربة من الأسرى، إنّ الرئيس محمود عباس أحال القضيةَ إلى رئيس جهاز المخابرات ماجد فرج لحلّها وفق القانون خلال الأيام المقبلة، فيما لا يمكن الجزم إنْ كان ذلك يعني فعليّاً أن القضية في طريقها إلى الحلّ أو في طريقها إلى الاستيعاب والإماتة.

عدا عن ذلك، اكتفى الريماوي بمعلومات مقتضبة عن شكل الاتفاق وتفاصيله، فقال إنّه "سيتم فكفكة ملفات الأسرى، والتعامل مع كلّ ملف، والاطلاع عليها خلال الأيام القادمة". في محاولة للاتصال مع آخرين، قال أحدهم، فضّل عدم نشر اسمه، إنّ هناك وعوداً جديّة بحلّ القضية خلال ثلاثة إلى أربعة أسابيع، وأنّ الأسرى يرفضون التعامل الفرديّ مع كلّ ملف على حدة. في ذات  السياق، لم تحمل صفحة الفيسبوك التي تنطق باسمهم واعتادت نشر الأخبار أولاً بأول جديداً طوال اليوم الأحد، فيما يبدو محاولة لتفادي النشر الإعلاميّ حتى وضوح نتائج الاتفاق، أو تحققها، بينما يتساءل البعض: "هل يمكن أن يكون السكوت الإعلاميّ أحد شروط ذلك الاتفاق؟". 

قصة 45 يوماً من الاعتصام

في العودة إلى أحداث الأسابيع الماضية؛ تحديداً صباح الأربعاء الماضي، 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وقف الأسرى المحرّرون المقطوعة رواتبهم، وقد وضعوا فوق ملابسهم أقمشةً بيضاء كنايةً عن الأكفان، ثمّ تلوا وصاياهم أمام عدسات الإعلام، وأمام المارّة. "نوصيكم أن تكون جنازاتُنا بلون الدّم الفلسطينيّ،… نوصيكم أن ترفعوا على كلّ مؤسسة رسميّة علماً أسود.. نوصيكم أن تقولوا لكلِّ مسؤولٍ ظالم بأعلى أصواتكم: لستَ مُمَثِلاً للشعب الذي ضحى من أجل هذا الوطن".

كان ذلك بعد يومٍ واحدٍ فقط من مداهمة قُوّة من الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة في ساعة متأخرة من الليل لخيمةَ الاعتصام التي نصبها الأسرى عند ميدان الشّهيد ياسر عرفات، واعتقال عددٍ منهم لبضعة ساعات. ظهر بذلك أنّ اعتصام الأسرى قد وصل مرحلةً مُتقدمةً، صاغوا فيها، بشجاعةٍ وصلابةٍ، المفاضلةَ بين أمرين: إما حقوقهم وكرامتهم، وإما الموت. وبدا أن وسائل السّلطة في قمعهم تُقابل بوسائل جديدة وإصرار أكبر؛ تلاوة الوصايا، ارتداء اللباس البنيّ - لباس السّجون الإسرائيليّة، وغيرها. 

هؤلاء الأسرى، وكلّهم محسوبون على حركة "حماس"، خرجوا في اعتصام مفتوحٍ منذ 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، للاحتجاج وسط مدينة رام الله ضدّ قطع رواتبهم بصفتهم أسرى سابقين، وهو القطع المستمر منذ عام 2007، بعد أحداث "الاقتتال" بين حركتي "حماس" و"فتح". وحسب قانون الأسرى والمحررين يُصرف لكل أسير اعتقل لدى سلطات الاحتلال بسبب مشاركته في النضال الوطنيّ راتبٌ شهريّ، ويستمر صرفه حتى بعد الإفراج عنه. يصل عدد من يطالهم قطع رواتبهم بصفتهم أسرى 35 فلسطينيّاً، منهم 4 أسرى ما زالوا وراء القضبان، وشارك في الاعتصام نيابةً عنهم أفراد من عائلاتهم.

وتصعيداً لاحتجاجهم، بدأ المعتصمون في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني إضراباً عن الطعام. وفي 26 من ذات الشّهر أعلنوا الإضراب كذلك عن شرب الماء وتناول الأدوية، وهو ما استمر 3 أيام فقط، بعد أن تدخل عددٌ من أهالي الأسرى والشّهداء، وممثلون عن ذات الهيئات النقابيّة والحقوقيّة، لثنيهم عن ذلك في محاولة إيجاد حلّ أمام السّلطة.

أما عن مكان الاعتصام، فقد بدأ بوقفة احتجاجيّة بالقرب من مقرّ رئاسة الوزراء في رام الله، وبعد أن أخلي المعتصمون من هناك، انتقلوا إلى ميدان ياسر عرفات وسط مدينة رام الله. وقد تعرض المعتصمون أكثر من مرّة لتدخل أفراد الأجهزة الأمنيّة ومحاولة فضّ خيمتهم، في إحدى تلك المرات بحجة إتاحة تركيب شجرة عيد الميلاد، مما حدا بالأسرى أنفسهم إلى تزيين الميدان بشجرة صغيرة للميلاد.

ويوم الخميس الماضي، 28 نوفمبر/ تشرين الثاني، ظهر في مكان الاعتصام من قالوا إنّهم جرحى أصيبوا خلال أحداث الاقتتال في قطاع غزّة عام 2007، مدعومين برجال أمن بلباس مدنيّ، ورفعوا لافتات كُتب عليها "أطرافنا التي قُطِعت أهم من رواتبكم". بدت تلك محاولة للضغط على المعتصمين، قال عنها الريماوي في حينه: "هذه ليست محاولة بريئة، هي استدراج لنمط البلطجة، من خلال إدخال حالة بحالة، وخلق ارباك وخلاف في الشارع". دفع ذلك المعتصمين إلى نقل مكان اعتصامهم ليلة الخميس/ الجمعة الأخيرة إلى مدينة البيرة المجاورة، وتحديداً إلى ساحة مركز بلدنا الثقافي، "حقناً للدماء"، مع الإشارة كذلك إلى ضغوطات تعرضت لها بلدية البيرة من قبل الأجهزة الأمنيّة لإخلائهم. استمر الاعتصام في ساحة المركز يومين لا أكثر، حيث أعلن فجر اليوم عن انتهائه.  

بداية القصة

عام 2007، طالت تداعيات "الإنقسام" 250 أسيراً وأسيراً سابقاً، من المحسوبين على حركة "حماس"، فتوقف صرف رواتبهم من "هيئة الأسرى والمحررين"، وقيل إن عدداً منهم كان محسوباً على "القوة التنفيذيّة" التي اتُهِمت "حماس" بالسعي إلى تشكيلها في الضّفة الغربيّة لتنفيذ ما سُمّي "إنقلاباً" على السّلطة الفلسطينيّة.  وبعد سلسلة من الاحتجاجات، شكّلت السّلطة الفلسطينيّة لجنةً أمنيّةً للنظر في الملف، وقد أعادت عام 2008 دفع الرواتب لعدد منهم، تبع ذلك مرحلة أخرى عام 2010 أعيد فيها صرف رواتب لعشرات آخرين، ثم مرحلة ثالثة عام 2013 أُعيد فيها صرف رواتب أربعة أسرى سابقين.  


أما البقية، 35 أسيراً، فلم تُحل قضيتهم إلى اليوم. يقول علاء الريماوي: "عام 2013، أخذنا نحن الـ 35 أسيراً محرراً قراراً من الرئيس الفلسطيني بإعادة رواتبنا، وقد نُفذ القرار وحولت رواتبنا إلى البنك، إلا أنها حُجز عليها في ذات اليوم، وكان الرد أنه يوجد لُبس بالتعليمات". وهكذا، منذ عام 2013 تقريباً يواصل الريماوي ورفاقه من الأسرى السّابقين خطواتِهم الاحتجاجيّة، والتي غالباً ما كانت تُعلق بناء على وعودات من جهات رسميّة بأن قضيتهم "في طريقها للحل". 

في المرّة الأخيرة، تحديداً سبتمبر/ أيلول عام 2018، أضرب الأسرى المقطوعة رواتبهم عن الطعام لمدّة 8 أيام للمطالبة بحقوقهم، وحينها انتهى الإضراب بتقديم وعودات من الرئيس الفلسطينيّ محمود عباس، ومن رئيس المخابرات الفلسطينية ماجد فرج بإعادة صرف الرواتب خلال شهرين فقط. إلا أن ذلك لم يحصل أبداً، فقرروا العودة للاعتصام في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

ومن بين المقطوعة رواتبهم منذ 13 عاماً أسرى ما زالوا في سجون الاحتلال، تشارك عائلاتهم في الاعتصام نيابة عنهم، أحدهم الأسير ابراهيم محمود عبد المجيد الذي قضى حتى الآن 18 عاماَ في السجون. يقول شقيقه عنتر: "الاحتلال داير وراه، والسلطة دايرة وراه.. هو رجل نشيط وسبق أن ترشح للمجلس القروي في قرية عابود، ولكنهم اتهموه أنه ضمن القوة التنفيذية لحركة حماس في الضفة". ويشير عنتير إلى أن شقيقه لم يحضر الأحداث السياسية الكبيرة، إذ كان وما زال مغيباً داخل سجون الاحتلال، حتى أن السّلطة تأسست وهو داخل السجون وما تبعها من تطورات، وحتى في انتخابات 2006 كان ابراهيم  أسيراً.

وخلال السّنوات الماضية، حاول الأسرى المقطوعة رواتبهم حلّ قضيتهم بوسائل مختلفة. سامر الشوا، الذي قضى 10 سنوات في سجون الاحتلال، كان ما يزال في السّجن عندما قُطِع راتبه عام 2007. عند تحرره عام 2012 بدأ يتوجه لمختلف المؤسسات الحكوميّة والحقوقيّة، وحتى الأمنيّة، ولكن "الكلّ كان يقول إن قطع الراتب عني خطأ، ولكن لم يتبنى أحدٌ هذا الخطأ". تقدّم الشوا بملفه إلى القضاء الفلسطينيّ، وبعد عام ونصف تلقى رداً يقول إنّ المحكمة ليست جهة اختصاص في هذه القضية. جرى نفس الأمر مع الأسير السّابق حاتم عمرو، والذي قضى 7 سنوات في السّجون، حيث تلقى رداً من المحكمة بعد 8 شهور يقول كذلك إنها "ليست جهة اختصاص".

تعليقاً على ذلك، يقول عمرو: "الكل يتنصل من مسؤوليته، فيما يشيرون إلى الجهات الأمنيّة كمسؤولة عن قطع رواتبنا دون استنادٍ للقانون ودون وجه حقّ".  وقد ورد اسم رئيس المخابرات الفلسطينية، ماجد فرج، أكثر من مرة في هذه القضية من خلال ترديد عبارة "الملف عند ماجد فرج"، فالتعامل مع هذا الملف، لم يعد من تخصص أيّ جهة قضائيّة أو سياسيّة.

ملف الأسرى.. إلى أين؟

قبل أيام، وخلال مشاركته في وقفة بمناسبة مرور 40 عاماً على اعتقال شقيقه نائل، صاح عمر البرغوثي- أبو عاصف، والذي قضى أكثر من 26 عاماً في الأسر، مستنكراً قلّة التفاعل والالتفاف حول قضيتهم قائلاً: "كلكم بتعيشوا بفضل الأسرى والشهداء". على مدار أكثر من 20 دقيقة خاطب البرغوثي القلّة المشاركة في الاعتصام إلى جانب الأسرى، ومن تناهى إلى أسماعهم صوتُه، والحرقة على ما آلت إليه واحدة من أبرز قضايا المجتمع الفلسطينيّ تسبق كلماته وتبدو جليّة على تعابير وجهه. ابن عمه، فخري البرغوثي، والذي قضى 34 عاماً في سجون الاحتلال، شاركه بعد أسبوع ذات الحرقة: "وين العالم، وين رايحين.. الجاي أصعب من الي رايح".

تعكس هذه الحرقة الخطّ الذي لم يعد أحمراً في التعامل مع قضية الأسرى الفلسطينيّين، والذي جاءت قضية المحررين المقطوعة رواتبهم لتذكّر به. تتزامن هذه القضية مع تصاعد التحريض من قبل دولة الاحتلال والحكومة الأميركيّة ضدّ الأسرى الفلسطينيّين، والتلويح بـ"تهمة دعم الإرهابيّين" أمام السّلطة الفلسطينيّة بين الحين والآخر. كذلك، فإن سلطات الاحتلال قد احتجزت قبل وقت ليس ببعيد أموال المقاصة الفلسطينيّة، وقالت إنها ستدفعها بعد خصم رواتب الأسرى منها، وذلك كأداة ضغطّ على السّلطة حتى تتوقف عن دفع تلك المستحقات. 


في حينه، أكدّ الرئيس محمود عباس أن تلك الضغوطات لن تمرّ، وأنه سيستمر في دفاع رواتب عائلات الشّهداء والأسرى، فيما رفض استلام أموال المقاصة منقوصة. وبعد أزمة ماليّة، تخللها ترديد شعارات عدم التنازل عن الأسرى، عرف الفلسطينيون من خلال تصريح مقتضب من وزير الشؤون المدنيّة حسين الشيخ أن السّلطة تراجعت عن موقفها وتسلّمت دفعةً أموال المقاصة، فيما بقي "الخلاف" على مخصصات الأسرى قائماً.

وبالرجوع إلى الماضي القريب، نجد تخفيض المستوى الحكوميّ الذي يتولى هذه القضيّة؛ تحويل وزارة الأسرى إلى "هيئة"، وتغيير كبير في طاقم المحامين والموظفين فيها. وهي كلّها مؤشرات تدلل على أن السّلطة الفلسطينيّة في طريقها لتصفية قضية الأسرى.
في مقابل ذلك، يبقى التعويل على الوعي الشعبيّ والذي يأمل باتساعه أكثر فأكثر، ورغم أنّ الأصوات المهتمة والمناصرة لقضايا الأسرى، من جهات شعبيّة ونقابيّة وحقوقيّة تتزايد، إلا أنه لا يمكن التغاضي عن كون الأسرى ما زالوا يواجهون، وحدهم، مصير الدفاع عن أنفسهم، وعمّا تمثله قضيتهم من تضحيّة ونضال وطنيّ. البرغوثي لخّص الحال بالمقارنة بين قصة الأسير الشهيد سامي أبو دياك، وقصة المقطوعة رواتبهم، قائلاً: "احتلال يغتال الأسرى داخل السجون، وآخر يكمل الدور بملاحقة الذين يتحررون أحياء من هذه السجون".