6 نوفمبر 2018

أسلحةُ المُمكن

الانتفاضة وتجربةُ التصنيعِ العسكريّ المحليّ

الانتفاضة وتجربةُ التصنيعِ العسكريّ المحليّ

ارتكزت الانتفاضة الثانية وقت انطلاقتها على الفعل الجماهيري، قبل أن ينحسرَ لصالح الفعل العسكري. واقتضى تفعيل العسكرة ورفع وتيرتها إلى صرف جهدٍ ليس باليسير على توسيع مخزون سلاح المقاومة. أمرٌ أُنجز تارةً عبر تهريب الأسلحة وشرائها، أو بتطوير عمليات التصنيع المحليّ تارةً أخرى. كما شكّلت عمليات التهريب في حدّ ذاتها رافعةً لتطوير صناعة السلاح المحليّ، إذ وفّرت، من جانب، مواد تصنيع السلاح الأوّلية، ووفّرت، من جانبٍ آخر، مصدراً للأسلحة التي استخدمت كنماذج عملت المقاومة على نسخها وتطويرها.

ستحاول هذه المادّة، وبما توفّر من مصادر -على قلّتها وإشكاليتها؛ لـاعتبارات محدودية التوثيق والضرورة الأمنية-، رصدَ وتحليل الملامح العامة التي وسمت تجربة التصنيع العسكريّ المحليّ خلال الانتفاضة الثانية، مع الوقوف على أبرز الأسلحة المحليّة التي صُنّعت وطوّرت خلالها، وعلى عددٍ من مهندسي المقاومة الذين رفدوا هذه التجربة بجهودهم.

البيوت والشقق كمعامل وورش تصنيع

من الصعب الإمساك بخط بداية، أو رصد حدث ما باعتباره شرارة انطلاق عمليات التصنيع العسكريّ المحليّ في الانتفاضة الثانية. الحديثُ هنا إنّما عن تجربة التصنيع ككلّ، لا على مستوى كل سلاحٍ على حدة. إذ لم تكن تجربة التصنيع المحليّ خلال الانتفاضة منقطعةً عمّا قبلها، بل جاءت امتداداً لجهود التصنيع قبلها، ومحاولةً للمراكمة عليها، وبلا شكّ، متطورةً عنها بشكلٍ كبير.

كان ارتفاع وتيرةِ جهود التصنيع المحليّ وتطوّر آلياته ومنتجاته، نتيجةً حتميّة لارتفاع وتيرة العمل المسلح آنذاك، وازدياد حجم التحدّيات الميدانية المفروضة على المقاومة، خصوصاً مع بدء عمليات الاجتياح الصهيونية داخل المدن والقرى الفلسطينية. لم تكن تجربة التصنيع إلّا ابنةَ حدثِ الانتفاضة، متفاعلةً معها ومراكمةً على نتائجها في كلّ من الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.

عرفت الانتفاضة صعوبات أمنية فرضتها الظروف الميدانية في المدن والقرى الفلسطينية، من قبيل: ازدياد عدد الحواجز بينها، واجتياحات واقتحامات جيش الاحتلال المستمرة، والضغط الذي كانت تمارسه السلطة في بعض أوقات الانتفاضة على أجنحة المقاومة العسكرية. أوجدت هذه الصعوبات وضعاً انعدمت معه فرصُ المقاومة في إنشاء ورش ثابتة، ومعامل تصنيع متطوّرة وآمنة، في ظلّ محدوديةِ حركتها وعملها من جهة، وفي ظلّ العامل الماديّ الذي حدّ من القدرة على شراء أماكن مستقلّة، وتجهيزها لتكون ورشات ومعامل مخصّصة للتصنيع من جهةٍ أخرى، هذا عدا عن عدم توفّر ما يكفي من الآلات والمخارط اللازمة وصعوبة تهريبها آنذاك.

في ظلّ هذا الوضع، تمّت أغلب عمليات التصنيع داخل بيوت المُصنّعين، وفي شُقق وأراضٍ مؤجرة و"براكسات". كما لجأت المقاومة إلى الورش والمخارط التجارية، واستفادت من خبرات أصحابها الحرفيين، وارتكزت على علاقات أفرادها الشخصية أساساً، لما يحتاجه هذا العمل من سريّة تامّة. هذا، إضافة إلى نمط العمل القائم آنذاك، والمعتمد في جزء كبير منه على جهود المُقاوِم الذاتية. أمورٌ جعلت هذه الورشات محلّ استهداف دائم من قبل الاحتلال، سواء بمصادرة معدّاتها وإغلاقها واعتقال أصحابها، أو قصفها وإتلاف آلاتها في كثيرٍ من الأحيان.

غياب ورش التصنيع الثابتة كان يعني تنقّل العاملين في التصنيع بمعداتهم البسيطة ومواد التصنيع خاصتهم، من مكانٍ إلى آخر وخلال فترات زمنية قصيرة، حسب ما تقتضيه الضرورة الأمنية، خصوصاً أنّ أغلب من أشرفوا على تطوير الأسلحة وتصنيعها، كانوا من المطلوبين والمطاردين، عدا عن كون الكثير منهم مسؤولين عن مهمّات أخرى. إضافةً إلى أنّ وحدات التصنيع المتخصّصة لم تكن قد شُكّلت بعد، وهو ما كان يستلزم من المقاومين تحرّكاً وتنقّلاً آمناً ومستمرّاً، حرصاً على سرّية العمل وأمنه. في ظلّ هذا الواقع، اكتسبت ورشة التصنيع، مفهوماً مرناً، مرتبطاً ببساطة الورشة وأدواتها، وبحركة المقاومين وأمنهم. إضافةً إلى ذلك، كان  غياب الورشة الثابتة، يعني أن تتم مراحل تصنيع بعض الأسلحة في أماكنٍ عدّة.

من جهة أخرى، كانت مواد التصنيع والمعدات والقطع الإلكترونية التي ارتكزت عليها الصناعات المحليّة، بدائيةً ومحدودة. وعلى الرغم من توفّر كثير من مواد التصنيع البسيطة في الأسواق المحليّة، وسهولة الحصول عليها في بداية الانتفاضة، إلّا أنّها شحّت، وصار من العسير الحصول عليها. يرجع ذلك إلى فرض الاحتلال لتضييقات، وحظر كبير على المواد الداخلة إلى الضفّة الغربية وقطاع غزة مع تصاعد العمل المسلح، وارتفاع وتيرة العمليات الاستشهادية.

أمورٌ جعلت التهريبَ المصدرَ الأساس للحصول على هذه الموادّ، إضافةً إلى اللجوء إلى تفكيك بقايا صواريخ وقذائف جيش الاحتلال غير المنفجرة، وإعادة استخدام موادّها. هذه النقطة، واجهت صعوبات منها سيطرةُ السلطة الفلسطينيّة على الأرض، وبالتالي سيطرتها على كثير من هذه الصواريخ والقذائف، بالإضافة إلى مستوى الخطورة العالية لعملية تفكيك الصواريخ والقذائف، إذ وقعت العديد من حوادث انفجار بقايا صواريخ وقذائف خلال عمليات تفكيكها.

لجأت المقاومة، أيضاً، إلى استخدام روث الحيوانات لإعداد العبوّات والمتفجرات. لحق ذلك تضيقٌ من قبل الاحتلال على أصحاب المزارع وتدمير بعضها. إضافةٍ إلى ذلك، وفي وقت اشتداد الأزمة المالية وانحسار التهريب في بعض الأحيان، أعادت أجنحة المقاومة إصلاح الرصاص المُطلق مثلاً، وهو ما عُرف حينها باسم: الرصاص المُكَبسل، وكان يُستخدم في التدريب. في مرحلة لاحقة، أصبح تجّار السلاح يعيدون إصلاحه كذلك، لبيعه بسعرٍ أرخص من الطلقات الجديدة.

يُمكن القول إنّ حركة التصنيع اتّسمت بمرونة مُنبثقة عن عاملي: حاجة الميدان المُستعجلة،  ونمط وطبيعة ورشات التصنيع حينها. إلّا أنّ هذين العاملين حدَّا في الوقت ذاته من قدرة المقاومة على إنتاج الأسلحة ضمن نسقٍ يخضع لبروتوكول واضح، يضمن استمرارية عمليات التصنيع وفاعلية مُنتجاتها. إذ كانت فرص تجريب الأسلحة والمواد المتفجرة محدودة جداً بسبب عاملي الأمن والوقت، فلم تكن، بالتالي، فرصة لاكتشاف مواطن الخلل والقوّة في كلّ سلاح قبل استخدامه. فما يُنتج في ورشات المقاومة، يَخرج إلى الميدان مباشرةً، عدا ما كان يُنتج ويُعدّ في الميدان، كالعبوّات والقنابل التي كانت تُجهّز خلال الاجتياحات. فحتّى ما كان يحصل على فرصة تجريبية أحياناً، على صعيد المواد المتفجرة مثلاً، كان يُجرّب بكمياتٍ محدودة.

أحد صواريخ "قسّام"
أحد صواريخ "قسّام"

إضافةً إلى ذلك، جَرَت عمليات التصنيع في ظروف غير آمنة صحيّاً، تغيبُ فيها الإجراءات الوقائية، وهو ما عاد على عددٍ ليس بالبسيط من العاملين في التصنيع بأضرارٍ صحية. فيما أدّت أخطاء عديدة إلى استشهاد عددٍ من المقاومين وإصابة الكثير منهم. كان من أبرز هذه الحوادث، حادثةُ استشهاد مجموعة الشهيد صلاح نصار، إحدى أبرز مجموعات التصنيع في غزّة، والتي قضت في انفجارٍ عرضيّ في منزل نصار في حي الصبرة، خلال تصنيعهم لعبوات ناسفة في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2002. فيما كان وقوع بعض الأخطاء سبباً في الكشف عن عدد من المقاومين، مثلما حدث مع المهندس أيمن حلاوة، إذ أدّت عملية انفجار لعبوة ناسفة كان يُعدّها في إحدى الشقق، ونقله إلى المستشفى على إثر إصابته، إلى كشفه للاحتلال والبدء بملاحقته.

من جهة أخرى، حُفظت مواد التصنيع الخام، والأسلحة المُنتجة بطرق بدائية، دون مراعاةٍ لعوامل الأمن والسلامة. إذ كان يحفظها المصنعون في بيوتهم وغرف نومهم، بدافع السريّة، ولغياب المخازن المستقلّة، والورشات الآمنة الخاصّة بالمقاومة.

أسلحة الانتفاضة: من المدفون إلى المقذوف

عند الحديث عن التصنيع العسكريّ المحليّ، يتمّ التركيز، في كثير من الأحيان، على صناعة وتطوير الصواريخ وقذائف الهاون حصراً. لا شكّ أنّ هذه الأسلحة، كانت لها بصمةٌ هامّة، وثقلٌ ميدانيّ، باعتبارها أبرز الأسلحة التي أُنتجت خلال الانتفاضة، وتمكّنت المُقاومة من مراكمة خبرة كبيرة، وتحقيق تقدّم في عمليات تصنيعها وتطويرها بعد الإنتفاضة. هذا التركيز أدّى إلى تجاهل أسلحة أخرى ساهمت في تقوية المقاومة ميدانياً، وكان لها تأثيرها الكبير. ستحاول الفقرات اللاحقة ذكر أبرزها.

الأحزمة الناسفة

لم تكن انتفاضة الأقصى بداية عهدِ الأحزمة الناسفة، إذ سبق واستخدمت في العمليات الاستشهادية قبل الانتفاضة، كان أبرزها تلك التي قادها المهندس يحيى عيّاش. إلّا أنّ انتفاضة الأقصى شهدت تطوّراً في عمليات تجهيز الأحزمة الناسفة، من ناحية كمية المواد المُحمّلة ونوعيتها، وبالتالي قدرتها التفجيرية، عدا عن تقنيات التفجير، إضافةً إلى انتشار طرق تصنيعها وتجهيزها بين أجنحة المقاومة العسكريّة.

ساهم في  تطوير هذه الأحزمة الناسفة عددٌ من مهندسي المقاومة، الذين استفادوا من الخبرات التي تناقلوها فيما بينهم، وأخذوها عمّن سبقهم. يأتي على رأس هؤلاء أيمن حلاوة، ومهند الطاهر، وقيس عدوان، ومحمود الزطمة. فواز بدران أحد قادة "كتائب القسّام" في مدينة طولكرم، كان من أبرز هؤلاء، فبعد أن عاد من الأردن قبل الانتفاضة بعام، كان قد تعلّم طرق تصنيع المتفجرات عن طريق أحد زملائه خلال دراسته في الجامعة الأردنية، وتمكّن من إعداد مادّة متفجّرة، منحها مهندسو المقاومة حينها اسم "قسّام 19". شكّلت هذه المادّة طفرةً عمّا كان يُنتج حينها من مواد تفجيرية من حيث القوّة التفجيرية ونسبة الأمان. ومثّلت العمليات التي أشرف عليها بدران تحوّلاً نوعياً في العمليات الاستشهادية، كان أوّلها عمليتا الاستشهاديين أحمد عليان ومحمود مرمش.

من جهة أخرى، واصلت المقاومة استخدام السيارات المُفخّخة حين سمحت بذلك ظروف الميدان، خصوصاً في العمليات الهجومية، مثلما جرى في عملية "دوغيت" الاستشهادية التي نفّذها إسماعيل المعصوابي، بقيادته سيارة "جيب" مُفخّخة وتفجيرها في إحدى دوريات جنود الاحتلال، بعد اقتحامه لمستوطنة "دوغيت" شمال قطاع غزّة.

العبوات المضادّة للدروع والأفراد

شهدت الانتفاضة الثانية دخولاً جديداً لسلاح العبوّات الناسفة، واستخدمته أجنحة المقاومة في نصب الكمائن كما حدث في عملية "عمانوئيل الأولى"، وفي الاشتباكات والتصدي لجنود الاحتلال ومدرّعاته خلال الاجتياحات، من خلال العبوّات الأرضية التي تُزرع وسط الطريق، أو العبوّات الجانبية التي تُوضع بعد تمويهها على جوانب الطُرق المُقدر مرور قوات الاحتلال منها.

تطور سلاح العبوّات المضادّة أسوةً بغيره من الأسلحة، فظهرت نماذج متعدّدة من العبوّات الناسفة خلال وقتٍ قصير من بدء الانتفاضة، بسبب الاهتمام الذي انصبّ على تطويرها، نظراً لسهولة إعدادها وتجهيزها وبساطة استخدامها، لما تتميّز به من خفّة وزن وبالتالي سهولة نقل، إضافةً إلى فاعليتها وقدرتها التفجيرية الكبيرة، التي ظهرت ضدّ مدرعات جيش الاحتلال وآلياته.

كانت أوّلى تلك النماذج عبوة "شواظ 1" كبيرة الحجم، التي تحتوي على 40 كيلوغرام من المواد شديدة الانفجار، والتي جرى منها تطوير "شواظ 2" و"شواظ 3"، خصوصاً بعد تطوّر قدرات مهندسي المقاومة في صناعة المواد المتفجرة الأكثر فعالية، إضافةً إلى حصولهم على الأشكال الهندسية لصناعة العبوات، والتي تساهم في رفع قدراتها التفجيرية وزيادة فعاليتها.

عبوّات "شواظ"
عبوّات "شواظ"

القنابل اليدويّة

استندت تقنية النموذج الأوّلي من القنبلة اليدوية المصنّعة محلياً على عود كبريت مع اشتعال القنبلة يدوياً. ثمّ تطوّرت إلى الطريقة الميكانيكية، بعد تمكّن مهندسي المقاومة من صناعة الصاعق الميكانيكي، الذي جرى تصنيعه محاكاةً للنموذج الأميركيّ من القنبلة. جعلت التكلفة غير الباهظة لعملية صناعة القنبلة، إنتاجها غزيراً، وأصبحت سلاحاً شخصيّاً في جعبة كلّ مُقاوم، كما لم يقتصر تصنيعها على جناح عسكريّ بعينه، إذ انتقلت خبرة تصنيعها إلى مُعظم الأجنحة العسكريّة، وهو ما يُشير بوضوح إلى حجم التنسيق العسكريّ المُبكّر بينها. كان محمد الضيف، وعدنان الغول إلى جانب ياسر طه، وزاهر نصار أبرز من ساهموا في تطوير القنبلة اليدوية.

القذائف والصواريخ المضادّة للدروع

صنّعت وطوّرت أجنحة المقاومة، تحديداً في غزّة، عدداً من القذائف المضادّة للدروع خلال الانتفاضة. جاء ذلك لكسر تحدّي آليات العدو ومدرّعاته بالأساس، فظهرت بداية أعوام الانتفاضة قذائف "الأنيرغا" المضادّة للدروع، وكان استخدامها منتشراً بين أجنحة المقاومة. هذه القذائف، وإن بدأت بالظهور بشكلٍ كثيف مع بدء الانتفاضة، إلّا أنّه تمّ تجريب صنعها وإطلاقها أواخرَ التسعينيات، من طرف عدنان الغول وإسماعيل أبو القمصان.

تلا ذلك، ظهور قذائف "البنا" التي اسُتخدمت للمرّة الأولى في استهداف ثكنة عسكرية شمال قطاع غزّة في شهر أبريل/ نيسان 2002، وطُورت لاحقاً نماذج من القذيفة أُطلق عليها "البنا 1" و"البنا 2"، كان ممّن أشرف على تطويرها عدنان الغول ومحمد الضيف. تلا ذلك بعام تقريباً الظهور الأوّل لصواريخ "البتّار" ضدّ دبابات الاحتلال المتوغّلة حينها شمال قطاع غزّة، وكان ممّا ميّزه عن "البنا" أنّه لم يكن يُحمَل على الكتف، إنما يُنصب على الأرض ويُطلق عن بعد بواسطة جهاز سلكيّ، وبلغ مداه ما يقارب الكيلومتر.

بعد ذلك، ظهر "قاذف الياسين" عام 2004، وطُوّر محاكاةً لقاذف "P2"، أحد النماذج القديمة من قواذف "الآر بي جي". جاء ظهوره في ظلّ صعوبات التهريب، والسعر المرتفع لقاذف "الآر بي جي". بلغ مدى القاذف أكثر من 200 متر، بمتوسط اختراق 16 سم في الحديد الصلب، واستخدمه المقاومون بفاعلية في الاجتياحات ضدّ جنود الاحتلال ومدرعاتهم، إضافةً إلى استخدامه في عمليات الهجوم واقتحام المواقع، قبل أن يتم تهميش هذا السلاح -إضافةً إلى سلاحي "البنا" و"البتار"- لصالح سلاح "RPG-7" الذي تيسّرت طرق توفيره في السنوات الأخيرة في قطاع غزّة.

المقذوفات القوسية

شكلت المقذوفات القوسية -الصواريخ وقذائف الهاون- أبرز صناعات المقاومة الفلسطينية خلال الانتفاضة الثانية. ورغم أنّ الصواريخ في بدايات تصنيعها وإطلاقها كان يشوبها بعض الإشكاليات، تعلّق بعضها بالمدى وبعضها الآخر بعملية توجيهها، إلّا أن المقاومة نجحت في مراكمة خبرة كبيرة في عمليات تصنيعها وإطالة مداها وتحسين دقّتها وقوّتها التفجيرية، إضافة إلى تأمين عمليات إطلاقها.

كان لهذين السلاحين ثقلهما الميداني والتكتيكي المهمّ في الجولات التي خاضتها المقاومة ضد الاحتلال في السنوات الأخيرة في قطاع غزة. وعلى الرغم من تركّز عمليات صناعة الصواريخ وقذائف الهاون وانطلاقها في غزّة بجهودٍ قادها كل من: عدنان الغول، ونضال فرحات وتيتو مسعود وغيرهم، إلّا أنّه جرت محاولات عدّة لنقل التجربة إلى الضفة الغربية، قاد أبرزها سائد عواد وقيس عدوان، اللذان نجحا في تطوير وصناعة صاروخ "قسام 2".

نقل سائد عواد خبرته في التصنيع والإطلاق، إلى العديد من المقاومين في مخيّم بلاطة وجنين وطولكرم وطوباس، وفي مارس/ آذار 2002، أُطلق أول صاروخ من مدينة طولكرم تجاه "نتانيا" داخل الأراضي المحتلة، وكان الصاروخ من طراز "قسام 2". إضافةً إلى ذلك، قاد الأسير عماد أبو عواد عملية تصنيع صواريخ في منطقة البيرة، إلى أن تمّ اعتقاله، والسيطرة على عشرات الصواريخ التي كانت في مرحلتها الأخيرة من التصنيع. وطوّرت مختلف الأجنحة العسكرية في قطاع غزة، حزمةً من الصواريخ، وأطلقت عليها مُسميات مُقتبسة من أسمائها مثل: قسام، وقدس، وأقصى، وناصر.

مهندسو الانتفاضة والنحت في البارود

صعّبت الضربات القاسية التي تلقّتها بُنية المقاومة على يد الاحتلال والسلطة نهاية التسعينيات، من مهمّة استرجاع العمل العسكري مع انطلاق الانتفاضة. وباتت العودة للعمل تنظيمياً بنموذجٍ عنقودي في ظلّ محدودية التواصل التنظيمي المركزيّ المباشر، وخطوط التواصل أفقياً عودةً صعبةً ومُكلفة لمجموعات وخلايا المقاومة. إذ أثّر نمط العمل ذلك مع الضربات التي  تلقتها أجنحة المقاومة على قدرتها في مراكمة العمل العسكري ونقل خبراته والبناء عليه.

فعلى صعيد التصنيع العسكري المحليّ، ظهر تأثير ذلك في الإخفاقات العديدة في بعض العمليات بداية الانتفاضة نظراً إلى ضعف خبرات التصنيع، بسبب اعتقال واستشهاد أغلب مهندسي المقاومة. ولم تَشهد عمليات التصنيع تحوّلاً إلا مع خروج الكثير من المقاومين ومهندسي المقاومة من سجون السلطة بدايةً، أؤلئك الذين كانوا قد تعلّموا أو عملوا مع مهندسي المقاومة في التسعينيات، والذين بدأوا في العمل على نقل خبراتهم وتجاربهم وتطويرها.

يُضاف إلى ذلك، المساهمة الكبيرة للأفراد العائدين من الخارج، والمُحمّلين بتجارب ساحات قتالية أخرى، في نقل خبرات تلك الساحات، خصوصاً فيما يتعلّق بتصنيع المواد المتفجّرة والدوائر الكهربائية المستخدمة في عمليات التفجير. يُذكر هنا الأسير المحرّر مازن ملصة الذي قدم من الخارج، وعمل مع أيمن حلاوة على صناعة مادة "الأسيتون بروكسايد" المُتفجرة، أو ما اصطُلح على تسميتها حينها: "أم العبد"، الاسم الشعبي الذي التصق بهذه المادة. أدّى تصنيع هذه المادّة، إلى تطوّر عملية التصنيع المحليّ، وتحديداً الأحزمة الناسفة، وقد ظهر ذلك بوضوح في العمليات الاستشهادية.

على إثر ذلك، شدّد الاحتلال من رقابته على دخول مواد "النترات" إلى الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، على الرغم من أهميتها في الزراعة. إلى جانب ذلك، كان لأصحاب التجربة العسكرية الكبيرة مع "منظّمة التحرير" في لبنان دورٌ في تطوير القدرات التصنيعية، كاللواء عبد المعطي السبعاوي، الذي كان له الجهد الأساس في تصنيع مدفع هاون لـ"كتائب شهداء الأقصى" في غزّة، والذي استشهد أثناء إجرائه لإحدى تجارب إطلاقه. كما أنّ هناك عديداً من العناصر، التي تدرّبت في العراق من أمثال الأسيرين من رام الله: عمار مرضي وأحمد أبو طه. إضافةً إلى مساهمة مُقاتليّ "الكتيبة الطلابية" مروان زلوم وميسرة أبو حميدة عبر عملهما مع "كتائب شهداء الأقصى" و"كتائب القسّام" في الضفّة الغربيّة. وعدا عمّا سبق من عوامل، ساهمت النشرات، وطُرق التصنيع التي كانت تأتي من الخارج عبر أسطوانات مُدمجة في تحسين عمليات التصنيع وتطويرها.

وعلى إثر التجربة القاسية أواخر التسعينيات، انتهجت أجنحة المقاومة في الانتفاضة الثانية سياسة التدريب ونقل الخبرات، منعاً لتراجع قدرات المقاومة في حال تغييب أحد مهندسيها، سواء بالاغتيال أو الاعتقال. أمرٌ أدّى إلى غياب مصطلح المهندس الواحد للمقاومة، حيث تنقّل مهندسو المقاومة بين المدن والقرى الفلسطينية، لتدريب عناصر جديدة ونقل الخبرات إليها، وبالتالي تفعيل العمل العسكري المبني على التصنيع في تلك المناطق. فيما سُجّلت موادّ مُصورة تحوي طُرق إعداد بعض المواد وتركيبها، وتجهيز المتفجرات والأحزمة الناسفة، ووزعت عبر "ديسكات"، ونُشرت على الإنترنت. كما كثّفت الأجنحة العسكرية التنسيق والعمل المشترك فيما بينها، خصوصاً في نقل وتبادل خبرات التصنيع.

أضحت، بذلك، أجنحة المقاومة العسكرية تضم عشرات المهندسين الأكفاء والمختصّين، الذين ساهموا في تطوير أسلحتها المختلفة، منهم من عمل على صناعة الأحزمة والعبوات الناسفة وتطويرها، خصوصاً في الضفّة الغربية، التي انطلق منها غالبية الاستشهاديين خلال الانتفاضة. برز من هؤلاء من "كتائب القسام": فواز بدران، وأيمن حلاوة، ومهند الطاهر، وعبد الله البرغوثي، ومن "كتائب شهداء الأقصى"، إيهاب أبو صالحة، أحد قادة الكتائب في نابلس، والذي استشهد أثناء إعداده لإحدى العبوات الناسفة، إلى جانب فادي قفيشة، وسامر عكوب، وهو أحد أبرز من ساهموا بشكلٍ كبير في عمليات تصنيع العبوات وتطويرها في الضفة الغربية، وياسر البدوي من مخيم بلاطة، الذي يُعتبر من أهمّ مُصنّعي الأسلحة المحليّة، ويُمكن اعتبار مختبره الأوّل في تلك الفترة، إذ اكتسب خبرته أثناء وجوده خارج الوطن حينما كان مُبعداً بعد حصار "جامعة النجاح" في الانتفاضة الأولى.

ومن "سرايا القدس" برز الشيخ علي الصفوري، الذي حوّل ورشته الخاصّة في مخيم جنين، إلى ورشةٍ لتصنيع الهاون والقنابل والأكواع، حتى بات أهل المخيم يَعرفونه باسم "علي الهاون". فيما برز من "ألوية الناصر صلاح الدين": إسماعيل أبو القمصان ومن بعده محمود العرقان، اللذان أشرفا على عمليات تجهيز الأحزمة والعبوات الناسفة، وتطوير القنابل اليدوية وقذائف "الأنيرغا".

فيما شكّلت جهود بعض المقاومين نقلةً نوعيّة في مسيرة التصنيع المحليّ، عبر توليهم لمهمة التصنيع في أجنحتهم العسكرية، وعملهم على تصنيع وتطوير العديد من الأسلحة. يأتي على رأس هؤلاء، المهندس عدنان الغول، الذي مثلت جهوده تحوّلاً نوعياً في الصناعات المحليّة العسكرية. الغول الذي كان مسؤولاً عن صنع القنبلة اليدوية قبل الانتفاضة، صنع مع انطلاقها قذائف "الأنيرغا"، ومن ثمّ كان له الجهد مع آخرين في تصنيع وتطوير الهاون وصواريخ "القسّام"، إضافةً إلى جهده الأساس في صناعة قذائف "البنا"، و"البتار"، و"الياسين" المضادّة للدروع، وجهده في تطوير العبوات المضادة للدروع والأفراد.

إلى جانب الغول يأتي المهندس محمود الزطمة، المتخصّص في الهندسة الكهربائية، الذي كان قد تلقى عدة دورات تدريبية في لبنان وسوريا والجزائر على إعداد العبوات الناسفة وصناعة المتفجرات، أهَّلته لأن يكون مهندس "سرايا القدس" الأوّل، و"قسم" من قبلها. أشرف الزطمة على العديد من العمليات النوعية التي نفذتها "سرايا القدس"، وجهّز العديد من الاستشهاديين، فكان له الأثر الكبير في تطوير الأحزمة والعبوات الناسفة، وتطوير صواريخ "قدس".

وقاد أبو يوسف القوقا ملف التصنيع في "ألوية الناصر صلاح الدين"، وكان له الجهد الأوّل في تصنيع صواريخ الألوية، خصوصاً صاروخ "ناصر 3". فيما كان فادي عويمر، أحد قادة "كتائب شهداء الأقصى" في غزّة، أبرز من عمل على تطوير صواريخ الكتائب وعبواتها الناسفة، واستشهد خلال تجريبه لمناطيد متفجّرة شرق غزّة، برفقة أحد مقاومي "كتائب القسام".

لا شكّ أنّنا ما زلنا نجهل أسماء كثيرة، دارت رحى هذه التجربة على بليِّ أجسادها ودمائها، وعلى ما حملته من نجاحات، وما أصابها من إخفاقات، لم يكن الخوف منها مانعاً في أن تكون الإرادة، وأن يكون الفعل المقاوم، مرتكزين على ما هو ممكنٌ لهم، ومتطلّعين إلى ما هو مأمولٌ لنا.