28 سبتمبر 2018

تأريخُ الانتفاضة

قراءة أوّلية في مصادر مُحتملة

قراءة أوّلية في مصادر مُحتملة

شكّلت انتفاضة الأقصى (28 سبتمبر/ أيلول 2000- يناير/ كانون الثاني 2005) حدثاً فاصلاً في تاريخ المقاومة الفلسطينية المسلحة. فهذا الحدث الذي انطلق بمواجهات عنيفة في ساحات المسجد الأقصى، تزامنَ منذ لحظته الأولى مع فعل عسكري مُقاوِم ضدّ الاحتلال. إذ سبق زيارة زعيم حزب "الليكود" آريئيل شارون إلى المسجد الأقصى يوم 28 سبتمبر/ أيلول، مقتلُ جنديّ إسرائيليّ في استهدافٍ لمركبة عسكريّة بعبوةٍ ناسفة في قطاع غزة، وتلاه مباشرة مقتل جندي آخر في أحد الدوريات المشتركة على يد أحد أفراد الأمن الفلسطينيين، كمقدّمة لفعل عسكري مُتراكم يوماً بعد يوم.

بعيداً عن الانشغال بدراسة مقولة "عسكرة الانتفاضة"، وتمايز جغرافيا وزمان المقاومة المسلّحة في حدث الانتفاضة، وقبل الحديث عن موضوع هذه المادّة، لا بدّ من توضيح أنّها -المادّة- تنطلق من الاعتقاد بأنّ حدث انتفاضة الأقصى، كان في جوهره انتفاضة للسلاح الفلسطيني بشكل شامل، بعد أن حُيّد بعضه خلال سنوات أوسلو العجاف. إنّه حدثٌ مؤسّس ما زالت تبعاته وآثاره في تاريخ المقاومة الفلسطينية المسلّحة، واضحةً وجليّة.

سيصطدم المنشغل بتاريخ المقاومة المسلّحة عموماً، وبتاريخ المقاومة المسلّحة داخل فلسطين المحتلّة خصوصاً، بالكثير من العقبات عند النظر في المصادر المحتملة لكتابة هكذا تاريخ. إنّها إشكاليةٌ لا تقتصر على تاريخ الفعل العسكري الراهن، بل تمتدّ بامتداد تاريخ المقاومة في فلسطين، بدءاً من مقاومة الاحتلال البريطاني لها، وصولاً إلى اللحظة الراهنة.

أبرز هذه العقبات؛ عدم توفّر الكثير من المصادر المُحتملة لظروف المقاومة الفلسطينية، خصوصاً المصادر الوثائقية. فكما يُظهر حسام عاطف بدران أحد القيادات العسكرية الأبرز لـ"حركة المقاومة الإسلامية - حماس" شماليّ الضفّة الغربيّة خلال الانتفاضة، فإن طبيعة النشاط العسكري -وحالة "كتائب القسام" تنطبق على كل فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة- منعت توفّر "أرشيف" للعمل العسكري المقاوم، خصوصاً في الضفّة الغربيّة، لعدم توفّر مناطق آمنة يُمكن أن يُحفظ فيها مثل هذا الأرشيف، ولوجود سوابق في تجربة المقاومة الفلسطينية المسلّحة، انكشفت فيها الهياكل التنظيمية لقوى المقاومة، بعد وقوع أرشيفها في يد العدوّ.

رغم ذلك، تتوفّر الكثيرُ من المصادر التي يُمكن أن تستخرج منها شذراتٌ، تُسهم جميعاً في التأسيس لتأريخ جديّ للفعل المقاوم الفلسطيني المسلّح خلال حدث الانتفاضة. ستقدّم هذه المادّة قراءةً أوّلية، ستقتصر على مصدرين، إذا ما نوقشا بشكلٍ نقديّ، سيكونان مقدّمةً لأيّ كتابة جادة لتاريخ المقاومة الفلسطينية المسلّحة: الخبر اليوميّ، ولوائح اتهام أسرى المقاومة الفلسطينية في سجون الاحتلال.

عدم دقّة الأخبار والخوف من تضليل العدو

المصدر الأوّل هو الخبر اليومي، وهنا نتحدّث عن الأخبار المنشورة لتغطية فعل المقاومة المسلّحة لحظة وقوعه أو إثره. تشمل هذه التغطية الصحف المطبوعة والمواقع الإلكترونية الإخبارية، والقنوات التلفزيونية المحلية أو الفضائية، سواء كانت عربية أو صهيونية أو أجنبية. وفيما يتعلّق بحدث انتفاضة الأقصى، فإنّ أرشيف معظم هذه الأخبار مُتاح لعموم الباحثين.

يُسهم هذا المصدر في تكوين صورةٍ أوّلية للباحث المتأخّر عن فعل المقاومة الفلسطينية المسلحة بعمومه، خصوصاً عند السعي لتأسيس قراءة كليّة لهذا الفعل. لكن هذا المصدر إشكاليٌّ، ومدخلٌ للكثير من الخلل في الكتابة التاريخية الجزئية الـ"مايكرو" حول هذا الفعل. وأسهمَ في وقوع بعض الدراسات المبكّرة لحدث الانتفاضة في أخطاء تحليلية، لتأسّس التحليل على تغطيات إخبارية غير دقيقة.

الفعل المقاوم في عمومه كان فاعله مجهولاً، وهذا ما أثّر على دقة التغطيات الإخبارية للمصادر المختلفة. إذ اعتمدت التقارير الإخبارية المصاحبة لهذا الفعل في مجملها على تقديم تغطيات سطحية له. ونادراً ما قدّمت روايات تفصيليّة، تُسهم في بناء رواية تاريخيّة مُتكاملة للفعل.

بالإضافة إلى سطحيّة هذه التقارير ومحدودية مصداقيتها، صيغت الكثير من الأخبار المتعلّقة بفعل المقاومة المسلحة في انتفاضة الأقصى بيد العدو. أوّلاً، لتحقيق أجندات أمنيّة سياسية؛ فزوّرت الأحداث والوقائع عن سبق إصرار وترصد، خدمةً لصانع القرار الصهيوني، أو إسناداً لمواقف المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة. وثانياً، بحثاً عن معلومات أمنيّة تهدف لاستدراج المقاومين إلى أخطاء قاتلة.

مثلاً، نشرت التقارير الإخبارية يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، عن مصادر أمنية صهيونية أنّ "سيارة جيب يستقلها فلسطينيون، اقتربت من حاجز للجيش بالقرب من مستوطنة "بيت إيل" الإسرائيلية، وأطلق ركّابها النار قبل أن يتوجهوا بها عائدين إلى قطاع خاضع كلياً للسلطة الفلسطينية"1"مقتل جندي إسرائيلي وإصابة آخر في الضفة". القدس العربي. ¾ نوفمبر/ تشرين الثاني 2001. ص5.. فيما نفّذت العملية التي قادها الأسير المحرّر جاسر إسماعيل البرغوثي بسيارة "أونو". ووفقاً لـشهادة البرغوثي التي بُثّت عبر فضائية "الأقصى" في برنامج "شاهد على الأسر" يوم 28 مارس/ آذار 2013، فإنّ العدو كان بنشره خبر تنفيذ العملية بسيارة جيب، يهدفُ إلى نشر إشاعات مخالفة للوقائع، بهدف تمكين عملائه من البحث عن المجموعة المنفّذة حال نشر أحد أفرادها للخبر الصحيح.

مطبّات لوائح اتّهام الأسرى

المصدر الثاني هو لوائح اتّهام أسرى المقاومة الفلسطينية في سجون الاحتلال. استخدام هذا المصدر كما عموم المصادر المقدّمة من العدو، حالَ قراءته قراءة نقدية قد يُسهم في إرفاد المؤرخ المهتمّ بالكثير من المواد والبيانات التفصيلية، خصوصاً حال رغبته في تتبّع هياكل وتفاصيل متعلّقة بنشاط المقاومين. لكن هذه القراءة النقدية تتطلّب معرفةً أوّلية بهذا المصدر ومحدوديته.

الإشكالية الأبرز لهذا الصنف من المصادر، تكمن في أنّ لائحة الاتهام هي رواية العدو؛ تُقدّم رؤيته لفعل المقاوم، اعتماداً على نتيجة التحقيق معه أو مع آخرين. وكما هو معلوم، فإن محقّقي أجهزة الأمن الإسرائيليّة المختلفة، وعلى رأسهم محقّقو جهاز "الشاباك"، يهدفون في غايتهم النهائية لأخذ اعترافات من الأسرى بوسائل مختلفة، وقد لا يهم المحقّق في بعض الأحيان مقدار مصداقية هذه الاعترافات، بمقدار أهمية الاعتراف ليسجّل إنجازاً شخصياً جديداً للمحقّق أو لجهازه، يحتفى به إعلامياً وسياسياً.

مثالُ ذلكَ، لائحةُ اتّهام قُدّمت ضدّ الأسير "ك."، ضمّت اعتراف الأسير بأنّه كان يُخطّط بمساندة "م." أحد كوادر "سرايا القدس" المطاردين آنذاك، لعمليّة استشهادية ضدّ هدف صهيوني قريب من مكان سكنه. تأسّست هذه اللائحة بعد التحقيق مع الأسير "ك."، الذي كان آنذاك طفلاً صغيراً يختبر زنازين الاحتلال لأوّل مرّة، وكان اعتقاله جزءاً من عملية صهيونية، استهدفت اعتقال شقيقه الناشط في صفوف المقاومة الفلسطينية المسلحة. أثناء التحقيق عُرض اسم المطارد "م." على الأسير "ك."، لوجود صداقة بين الأسير "ك." وبين أحد الشبان "ع."، ممّن شكّ الاحتلال بصلتهم بالمطارد "م.". نتيجةً لضغط التحقيق، اعترف الأسير "ك." بأنه خطّط والمطارد "م." لتنفيذ العملية.

لم يمض على هذا الاعتراف الكثير من الوقت، حتّى اعتقل الصهاينة المطارد "م." والشاب "ع.". نفى المطارد "م." أثناء التحقيق أيّ معرفة مُسبقة له بالأسير "ك."، كما أكد انعدام هذه الصلة الشاب "ع." أيضاً. اقتنع المحققون بذلك، لكن تمّت إجراءات المحاكمة وفقاً للائحة الاتهام المُقرّة مسبقاً. حال وقوع لائحة الاتهام هذه أو أحد التقارير الإخبارية التي غطّت اعتقال الشاب "ك." بوصفه استشهادياً محتملاً، في بد القارئ غير المدرك للحيثيات المصاحبة لعملية التحقيق، فإنّه سيقع في شراك المحققين الصهاينة الراغبين بتثبيت إنجازات شخصية، وإنجازات للجهاز الأمني.

إشكالية أخرى في لوائح الاتهام، تتمثّل في أنّ الكثير من الاعترافات التي تُؤسّس عليها لوائح الاتهام، تُبنى من قبل المقاومين لحفظ بقيّة فعلهم، أو لمنع انهيار البناء التنظيمي الذي كان في معظم لحظات انتفاضة الأقصى بناءً عنقودياً. فكثيراً ما يسعى المقاومون لتزوير الوقائع والأحداث، بهدف التخفيف من أضرار التحقيق والاعترافات، كنسبة بعض الوقائع لمعارفهم من الشهداء أو من المطاردين الذين سينقطع التحقيق عندهم. كما أنّ الكثير من الاعترافات كانت تقف عند قضايا محدّدة ولا تصل لعموم فعل المقاوِم، الذي قد يكون اتّضح لاحقاً بفعل تحقيقات صهيونية جديدة.

ختاماً، في حالة التأريخ للحدث الراهن خصوصاً، يتوجّب الاهتمام بكلّ المصادر المُمكنة، لغياب الكثير من المصادر التقليديّة. لكن يتوجّب أيضاً قراءةُ هذه المصادر قراءة واعية مدقّقة، بالإضافة للقراءة المقارنة لما تقدمه المصادر المختلفة، وعدم الارتكان إلى مصدر واحد، سواء كان البحث مهتمّاً بتوثيق دقائق الفعل: "تأريخ جزئي"، أو بتوثيق الحدث عموماً: "تأريخ كلي". فتأسيس التوثيق على بيانات غير دقيقة، قد يؤدّي في كثير من الأحيان، إلى تحليلٍ وخلاصات غير دقيقة أيضاً.