7 يناير 2021

موسم التطبيع العربيّ.. أرخص وطنيّة ممكنة!

موسم التطبيع العربيّ.. أرخص وطنيّة ممكنة!

يتعامل المثقفون غالباً مع السياسة بمنطق من يشتري جهازَ تلفزيون جديد. يفتحُ كتيبَ الإرشادات ويتوقعُ أن يعملَ الجهازُ بشكلٍ سليمٍ طالما سارَ مستخدمُه على الـ"كتالوج" بحذافيره. السياسة كذلك لها كتيبُ إرشادات، هو تلك الترسانة من المفاهيم الموروثة من ثقافتنا السياسيّة الحديثة: الليبرالية والدستوريّة، والديمقراطيّة، والعدالة الاجتماعيّة. إذا أسّسنا البرلمان ستكون لدينا ديمقراطية، وإذا أقصينا التياراتِ الدينيّةَ فستكون لدينا علمانية، وعندما تكون لدينا علمانية ستتحققُ المواطنة.

يُفاجأ المثقفُ بعد سنواتٍ بأن التلفزيون، أو السياسة، لا تعمل وفق كتيب الإرشادات الذي لديه. يُلقي القلم ويرتدي نظارةَ الخبير. يلعن مثاليتَه ويُقسَم من اليوم أن يصيرَ واقعيّاً تماماً ولا يخضع لإغراء النقد. للخيبة وقودها الذي يحرّك مثقفَنا المهزوم كما كان الأمل لديه من قبل، وهو وقود ليس أقلّ اشتعالاً.

عرفت الثقافة العربيّة منذ السبعينيات ذلك النوع من المثقفين التائبين من اليسار، أو أولئك الباحثين عمّا يُمكن أن نسمّيه سلفيّةً علمانيّةً بالعودة إلى مواقف الليبرالية العربيّة المبكّرة كما تبدو عند أحمد لطفي السيد وطه حسين. فالمثقف الماركسيّ، وهو الذي لم يرَ في الماركسيّة، كما شرح عبد الله العروي، سوى كتالوج لإنجاز مشروع الحداثة الأوروبيّة، يرى مع احتراق الـ"كتالوج" أنّه من الضروري الانطلاق أو العودة، أيهما تيسّر، إلى نقائض هذا الكتالوج. إذا كان علينا في الكتالوج أن نعتز بثقافتنا العربيّة والإسلاميّة، فسيتحول مثقفنا إلى مستشرقٍ محليّ يرى في تلك الثقافة جوهراً واحداً هو عائقُ أمام أي تقدّم وسبب في كلّ تخلف.1يمكننا أن نرى شيئا من ذلك في بعض آراء فرج فوده في مصر، أدونيس في سورية، حازم صاغية في لبنان، الباقر عفيف في السودان. 

علينا أن نغيّر الثقافة، لكن الثقافة تمنعنا من أن نغيّر الثقافة، لذا سيكتفي مثقفُنا أو مستشرقُنا المحليّ بِلَعن الثقافة، بإلصاق كلِّ نقيصةٍ بها مقابلَ إعجابٍ فيتشي بالآخر. مركب نقصٍ معتاد في تلك الحالات. الأمركة هي البديل الناجع، الاحتفاء بالثروات المتراكمة لدى شرائح ضيّقة جداً من المجتمع، بالاستهلاك والرفاه الماديّ، والفردانية. يكتفي ذلك المثقفُ بالليبرالية دون مفصلتها بالضرورة مع الديمقراطية، فهو في الحقيقة محضّ نيوليبرالي لا يبغض المَلَكيات الرجعيّة ولا الأنظمة العسكريّة إلا عندما تكون ضدّ النيوليبرالية. أخيراً، هو يضعُ وطنيتَنا وحدودنا نقيضاً لأُطر الثقافة والانتماء العابرة للحدود، فأن تكون وطنيّاً فهذا يعني ألا تعبأ بقضايا عربيّة أو إسلاميّة، وتحديداً بتلك القضية النقيضة للأمركة والنيوليبرالية: فلسطين.2انظر كمثال لذلك: محمد زكي الشيمي: "إسرائيل ليست هي العدو"، دوت مصر، 28 نوفمبر 2013. 

من هنا وُلِد اليمين العربيّ المعاصر: يمينيّ ثقافيّاً يرى على غرار أساتذته من اليمين الغربيّ أنّ هناك ثقافةٌ إسلاميّة لا بدَ أن تصطدم بالثقافة الغربيّة، ويرى أنّه لا يُمكن أن تتغير أي من الثقافتين لأنّ الثقافة ثابتٌ جوهريّ؛ ويمينيّ سياسيًاً واقتصاديّاً يرى على طريقة بينوشيه وصبيان شيكاغو في تشيلي أنّ الرأسمالية والنيوليبرالية أهمّ للناس من الديمقراطية، حتى وإن كان الناس لا يرون هذا، فما قيمة رأي الناس إذا كان الأساتذة يرون ذلك؟

مع فلسطين.. وفي سبيل الوطنيات العربيّة

منذ السبعينيات أصبح العداءُ لفلسطين والإعجاب بـ"إسرائيل" عَلَماً على هذا اليمين العربيّ. فالالتزامُ تجاه فلسطين لا يتضمن فحسب التزاماً أخلاقيّاً وإنسانيّاً تجاه شعبٍ مظلومٍ ولديه مطالب عادلة، وإنما تذكيرٌ كذلك بالحاجة إلى ديمقراطيةٍ عربيّة تُمكِّنُ الشعوبَ العربيّة من تحويل مواقفها الثقافيّة والأخلاقيّة إلى سياسات، وإلى اصطفافٍ عربيٍّ لاستعادة الأمن الإقليميّ والاستقلال السياسيّ، وإلى تنميةٍ عربيّةٍ تُمكَِنُ تلك الإرادة العربيّة من فرض نفسها؛ وكلُّ ذلك يتناقض مع الاندفاع نحو الأمركة والنيوليبرالية والعداء للذات العربيّة.

أمام هذه القضية يلجأ اليمينُ العربيّ إلى حيلةٍ معتادة، وهي الادعاءُ أن جذريّة الفلسطينيّين ومطالبهم هي سبب تعقّد القضية. لكن تلك الحيلة تفشل في إثبات نفسها. يُفشِلُها أولاً تاريخٌ من التنازلات المتتالية التي قدّمتها الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة عن المطالب الجذريّة. بدايةً من البرنامج المرحليّ في 1974 الذي ارتضى بدولةٍ على أيّ قطعة أرض من فلسطين، ثم عبر أوسلو الذي لم يَعِدْ الفلسطينيين بأكثر من حدود 1967، إلى مشاريع مطالبة "إسرائيل" بمواطنةٍ متساويةٍ بين العرب واليهود عبر التخلي عن يهوديّة الدولة، إلى تعديل "حماس" لميثاقِها للقبول بهذا الشّرط، إلى صفقة القرن التي وبعد كثير من الرطانة الصهيونيّة تفشل في أن تقدِّم للفلسطينيين وعداً بدولةٍ كاملةِ السّيادة. 

اقرؤوا المزيد: "يتامي أوسلو..غلطة وندمان عليها".

إنّ هذه الحيلة هي أحد مظاهر الجمع بين التفكير اللانقديّ المُتذرِع بالواقعيّة والانحطاط الأخلاقيّ لدى اليمين العربيّ، فالسؤال عن حلّ القضية الفلسطينيّة ينبغي أن يوجه إلى الطرف الأقوى وهو "إسرائيل": ماذا تريد "إسرائيل" بالضبط للفلسطينيّين، أم أنّها لا تود لهم في الواقع سوى الإبادة؟ في حال طُرِحَ السّؤال بتلك الصيغة، سيكون على اليمين العربيّ أن يعترفَ بأن استعادة توازن قوى عربيّ إسرائيلي هو السبيل الوحيد أصلاً للتفاوض مع "إسرائيل".

هنا تأتي الحجة التالية التي يسوقها ذلك اليمين: القضية الفلسطينيّة تدفع العرب إلى تضحيات لا تفيد الفلسطينيّين وتضرّ بمصالحهم الوطنيّة. يُمثّل المثقف اليمينيّ العربيّ هنا دور الواقعيّ الذي يقول لك: بلى؛ أعرف أنّ موقفي غير أخلاقيّ، لكن مصلحتي الوطنيّة تضطرني إلى ذلك؛ أو كما قال أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد: "إنّها سياسة المنافع لا سياسة العواطف" عندما رأى أن على مصر أن تؤيد الاحتلال الإيطاليّ لليبيا. لكن تلك الوطنيّة الرخيصة تتناسى بأن مزيداً من التطبيع لم يعنِ سوى مزيداً من الخضوع للهيمنة الإسرائيليّة على المنطقة بما تفرضه تلك الهيمنةُ من حدودٍ على التنمية في العالم العربيّ باعتبار التنمية العربيّة في حدّ ذاتها تهديداً لـ"إسرائيل".

لم تخسر البلدان العربيّة في الحقيقة شيئاً من التزاماتها تجاه القضية الفلسطينيّة، فالسياسات التوسعية الإسرائيلية بدأت مبكراً وقبل أن تفكر الدول العربيّة في الدخول في أية مواجهة مع "إسرائيل". فعلى الرغم من القبول الظاهري بقرار التقسيم 1947، أصرّت العصابات الصهيونيّة على الاحتفاظ بما تحت سيطرتها من أراضٍ تفوق ما يعطيه لها القرار. وبعد ثورة يوليو 1952، سارعت دولة الاحتلال إلى الإغارة على قطاع غزّة الخاضع للإدارة المصريّة آنذاك، إذ استشهد 38 جندياً مصريّاً، ثم أتبعت ذلك بهجومٍ أوسع على المواقع العسكريّة الحدوديّة المصرية راح ضحيته أكثر من 80 جندياً مصريّاً، وأُسر 55 آخرون. ثمّ عادت فكرَرت مبادرتها بالهجوم في حرب 1967.

وعلى الرغم من الإنفاق العسكريّ وأثره الاقتصاديّ على مصر وسورية، إلا أن كلا البلدين قد استفاد من المساعدات المالية العربيّة التي خُصِّصَت لهما كبلدي المواجهة مع "إسرائيل"، ولم تكن القضية الفلسطينيّة، بل الفساد السلطويّ، هو السبب في إهدار تلك المساعدات، خاصّةً في الحالة السوريّة.3كمال ديب: تاريخ سورية المعاصر. بيروت: دار النهار، ط2 2012، ص424 وما يليها. 

الأهم من ذلك، أنّ التطبيع المصريّ مع "إسرائيل" وخروج مصر تماماً من أي صراعٍ مُسلّحٍ في المنطقة لم يسمح للاقتصاد المصريّ بالتحسن كثيراً في الثمانينيات، بل دخل الاقتصاد المصريّ نفقاً مُظلماً من الديون كاد يفضي بمصر إلى الإفلاس. أظهرت تلك التجربة أن المواجهة مع "إسرائيل" لم تكن هي السبب في تعثر الاقتصاد المصريّ قبل ذلك، كما أظهرت أنّ الهيمنة السياسيّة للمؤسسة العسكريّة في البلدان العربية لا تعود إلى القضية الفلسطينية؛ بل إن الخروج من المواجهة مع "إسرائيل" تسبّبَ في ابتعاد الجيوش العربيّة أكثر فأكثر عن الطابع الاحترافيّ الذي كان يمكن أن يجعلها، على غرار الجيش الإسرائيلي، إحدى محركات التنمية التقنيّة في بلدانها، بجانب إبعادها عن الشأن السياسيّ والاقتصاديّ.

إنّ اليمين العربيّ عندما يتحدث عن أهمية التطبيع للمغرب أو السودان لا يخدم المصالح الوطنيّة لتلك البلدان على حساب القضية الفلسطينيّة، بل هو يخون مصالح أوطانه في نفس اللحظة التي يخون فيها القضية الفلسطينية.

التطبيع المستحيل

إنّ المفارقة الكبرى في السياسة الإقليمية تكمن في أن الخصم الحقيقي للتطبيع هو "إسرائيل" نفسها. بالنسبة لـ"إسرائيل" يُمثّلُ العرب جميعاً، وليس الفلسطينيين فحسب، تهديداً وجوديّاً تجب مراقبته باستمرار، ثم محاولة السيطرة عليه أو المبادرة إلى ضربه حال بدا أنه في الطريق إلى الخروج عن السيطرة.

من هنا، فإن التطبيع هو تحويل كافة البلدان العربيّة إلى "فلسطين كبرى" بإدخالها تحت شروط الاحتلال الإسرائيلي. التطبيع عملية نزع للسيادة الوطنيّة وإلغاء للذات القوميّة لصالح قيام "إسرائيل كبرى" سياسيّاً عبر الهيمنة، فـ"إسرائيل" تعتبر تحقّق السيادة الشعبيّة عربيّاً خطراً بحكم الميل الشعبيّ العربيّ الطبيعيّ لفرض حدود لسياسات "إسرائيل" التي لا تعرف الحدود، وهو ما يجعلها خصماً لأي ديمقراطية أو استقلال أو تنمية عربيّة.

اقرؤوا المزيد: "فلسطين الكبرى.. عن استحالة التسوية".

لا يمثل التطبيع الجديد في حالات الإمارات والبحرين والسودان والمغرب سوى اندفاعاً في نفس الاتجاه: ارتهان كامل للهيمنة الإسرائيليّة في المنطقة، وهي هيمنة تعني أمرين: تحول الطرف العربيّ إلى عميل يجري استزلامه لخدمة السياسات الأمنيّة الإسرائيليّة في المنطقة، وتحوّل اقتصاد تلك الدول إلى اقتصاد تابع للمصالح الإسرائيليّة والأميركية مقابل إبقائه معلّقاً بالديون وبأنشطةٍ غير إنتاجيّة كالسياحة؛ وعاجزاً عن تحقيق أي طفراتٍ نوعيّةٍ في البنية (تنوّع القطاعات الاقتصاديّة وأحجامها) والإنتاج (جودته وقيمته).

فالمغرب التي تدّعي أنّ تطبيعها مدفوعٌ بالرغبة في الاحتفاظ بمنطقة الصحراء لن تستفيد من التطبيع كثيراً في هذه القضية، بل سيتم تحويل تلك القضية إلى الخاصرة الرخوة التي تستخدمها الولايات المتحدة و"إسرائيل" بمناسبة وبدون مناسبة لليّ ذراع المغرب. أما السودان الذي ربما تتحسن قليلاً أحواله شديدة التردي عبر قروض من صندوق النقد الدوليّ، فإنّ عملية تعويمه تلك ستبقى محسوبة جيداً لإبقائه دون القدرة على السباحة منفرداً.

الأهم من ذلك هو الحالة الإماراتيّة. تحاول الإمارات، على غرار حلم السادات سابقاَ ومحمد بن سلمان حالياَ (وكلاهما فشل في حلمه كما هو متوقع) أن تتحول إلى "إسرائيل جديدة"؛ دولة وظيفية تقدم خدماتٍ أمنيّة وسياسيّة للدول الكبرى في المنطقة مقابل منحها دوراً في قيادة تلك المنطقة يحميها من جيرانها. ينبغي أن يقول أحدٌ للإمارات بتعبيرات العامية المصريّة: "العب غيرها" أو "كان غيرك أشطر". فاختلافات الإمارات عن "إسرائيل" من نواحٍ كثيرة، كبنى المؤسسات والديموغرافيا والنظام السياسيّ والاقتصاد في البلدين، تجعل الإمارات غير مؤهلة لأن تكون أكثر من ذراع لـ"إسرائيل" في الخليج العربيّ. وهي فوق ذلك، من ناحية الجغرافيا، دولة رخوة خاضعة رغماً عنها عند المنعطفات الحساسة لجارين لن تتدخل "إسرائيل" لحمايتها من أيّهما: السعودية وإيران.

لقد خاضت مصر تجربة طويلة من التطبيع لم تحصد منها أي نجاحٍ اقتصاديٍّ يُذكر، بل كشف الحساب هو محض خسائر من الغاز الذي بعناه لهم بخساً واشتريناه بالخسارة، إلى الكويز (اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة الإسرائيلية المصريّة) التي فشلنا من تحقيق أي أرباح منها. هذا اللهم إلا إذا عددنا فنادق وقرى شرم الشيخ السياحية هي الإنجاز الذي دفعت مصر ثمنه دماء آلاف من أبنائها، وعانت جرائم الحرب الإسرائيلية التي لم تعتذر عنها "شريكتنا في السلام إسرائيل" إلى اليوم. 

إنّ القضية الفلسطينية وفق تلك الرؤية ليست مجرد مسألة التزام أخلاقيّ أو إنسانيّ تجاه الشعب الفلسطينيّ، بل قضية تتعلق بالرؤية الجيوسياسية العربية، وهي من هذا المنطلق قضية وطنيّة لكل شعبٍ عربيٍّ تمس مصالحه وحياته لا مجرد عبء تاريخيّ ملقىً على عاتقه، كما يُحاول اليمينُ العربيّ أن يقدّمها.