29 يناير 2020

"فلسطين الكبرى".. عن استحالة التسوية

"فلسطين الكبرى".. عن استحالة التسوية

عرف العربُ مقولة "إسرائيل الكبرى"، وربما بالغوا في أسطرتها إلى حد اعتبار هزيمتهم في 1967 ملحمة صمود بما أن "إسرائيل" لم تحقق خلالها كامل مشروع "إسرائيل" الكبرى" من النيل إلى الفرات. وبقدر ما كان ذلك الوعي أسطورياً، فإنّه يحوّل تلك المقولة الأيديولوجية الصهيونيّة -التي ربما كانت في طريقها إلى الضمور ذاتياً- إلى مشروع سياسي واقعي يتخيله العربي ويحاربه كطواحين الهواء، بقدر ما كان الارتداد عنها إلى وعي زائف يتبنى نقيضها ممكناً؛ وهكذا أمسى العرب يرون إمكان الوصول إلى تسوية مع "إسرائيل" لا يدفع ثمنها سوى الفلسطينيين، باعتبار "إسرائيل" كياناً عاقلاً لن يسعى إلى إيذاء الجيران طالما بقي الجيران أليفين بما فيه الكفاية.

لم يحوّل العرب المقولة/الأسطورة إلى مفهوم يمكن أن ينبني عليه تصور عقلاني للصراع مع "إسرائيل"، فـ"إسرائيل" الكبرى" ليست بالضرورة إقليماً ممتداً من النيل إلى الفرات، بل هي مفهوم للشرط التاريخي للوجود الإسرائيلي: إلغاء العربي من خلال بسط النفوذ الإسرائيلي على كامل النطاق الحيوي العربيّ، بقصد تحديد آفاق التنمية في ذلك النطاق لإبقاء العرب تحت خط الانصياع اللازم لأمن "إسرائيل" ومصالحها. 

بهذا المعنى، فإنّ "إسرائيل الكبرى" هي الوجه الآخر لفلسطين الكبرى، فلسطين لا تمتد من البحر إلى النهر، وإنما من المحيط إلى الخليج، وسكانها ليسوا الفلسطينيين فحسب، وإنما مجمل العرب. فلسطين الكبرى هي التعبير عن مشروع فلسطنة العرب جميعاً، بما أن تلك الفلسطنة شرط وجود الإسرائيلي الذي لا يمكنه أن يتغاضى عنه.

تنامي وعي الاستحالة… بالاحتكاك المباشر

هذه الفلسطنة هي صيرورة عربية قائمة بالفعل وليست مجرد خطر لائح فحسب. نزع سيادة العربي الوطنية وإلغاء إرادته السياسية، أي المشروع اليومي لأغلب الأنظمة العربية الحاكمة، هو الشرط التاريخي الذي سمح باستمرار "إسرائيل". وهو المشروع المشترك الذي تشعر تلك الأنظمة جراءه بأنها مرتبطة ب"إسرائيل"، حتى وإن كان هذا الارتباط من خلال الممانعة اللفظية، الذي تحضر فيه "إسرائيل" كخصم كلاميا فحسب، بينما تحضر عمليا كحليف ضد الإرادة الشعبية، على نحو ما تجلى في القضية السورية.

لم تُخفِ "إسرائيل" امتعاضها إزاء الثورات العربية. وهو موقف لم ينبع من مجرد انزعاج من الشعارات التي رفعتها تلك الثورات إزاء القضية الفلسطينية فحسب. وإنما من وعي بأن محيطا ديمقراطيا، يملك فيه العرب أن يشاركوا بقدر أو بآخر في صنع قرارهم السياسي الوطني، هو محيط خانق لـ"إسرائيل"، الكيان الاستيطاني الذي يقوم على نفي شعب بأكلمه، ويحتاج إلى مساحة واسعة من البلادة الدولية والإقليمية ليواصل حياته اليومية القائمة على التهام الآخر. 

من هذه الناحية، لا تمثل "إسرائيل" خصماً رمزيّاً فحسب للشعوب العربية، ولا تمثل القضية الفلسطينية محض قضية ثقافية، إسلامية أو عروبية، وإنما تتحول المسألة برمتها إلى مسألة مادية تطال الحياة اليومية للعربي، من النظام السياسي والاقتصادي الذي يعيش فيه وآفاق نموه، إلى نظام المعنى الذي ينتظم روحه وعقله.

لا يمكن أن تعني تسوية ما على حساب الفلسطيني شيئاً جادّاً عربيّاً، ولا فلسطينيّاً بطبيعة الحال، فالتنافي بين الإسرائيلي والعربي سيظل قائماً، بل ربما تفضي التسوية إلى تنامي وعي استحالة التسوية عند العرب، بعد أن يتضاعف الاحتكاك المباشر مع الإسرائيلي ويمسي أعنف بحكم المباشرة بعد أن يختفي الوسيط الفلسطيني، فالقمع والنهب وتقويض السيادة الوطنية، وكلها ممارسات يومية إسرائيلية في فلسطين، ستتحول بفعل تلك التسوية، إلى ممارسة يختبرها كل عربي بعد أن كان يكتفي بمتابعتها تلفزيونياً في الأراضي المحتلة بما سمح بتنامي وهم فلسطين الصغرى و"إسرائيل" الصغرى كذلك، وحينها ستفشل آليّات التسكين الفصامية التي اخترعتها الجماهير العربية لمداواة ضمائرها .

تقاطعات القمع

إذا كان العربي والفلسطيني على هذا النحو هما شركاء المأساة نفسها، بتعبير توفيق زياد، فهم كذلك شركاء المقاومة. ربما أدركت البشرية منذ وقت مبكر في القرن العشرين أن الثورة لم يعد من الممكن أن تبقى شيئاً قطرياً. إن الثورة تبقى متعلقة في صيرورتها وآفاقها بمحيطها الإقليمي وتفاعلاتها العابرة للحدود. عربياً، تبدو الأمور على نحو أكبر من التعقيد بحكم العلاقة الجدلية المذكورة بين العربي والفلسطيني. لا يمكن أن تعني ثورة عربية شيئاً إن لم تكن تبحث عن استعادة القرار الوطني العربي إزاء العدو الذي يحاول أن ينتزع سيادته وينفيه، كما لا يمكن أن يتحقق قرار تحرر من دون أن يملك الشعب قراره السياسي.

لقد نشأ الاستبداد السياسي العربي الحديث عبر تقاطع موقف تطبيعي ينفي أهمية التحرر الوطني، مع موقف نيوليبرالي ينفي أولوية التنمية على الاستهلاك، مع موقف استبدادي ينفي الديمقراطية ويحاول أن ينزع أنياب الدين الاجتماعية دون أن يسهم في إنجاز تحرر ثقافي كما حلم بعض المثقفين العلمانيين. هكذا، صار فعل المقاومة الفلسطينية جراء ذلك هو في حد ذاته فعل ثوري ديمقراطي عربي، كما صار الفعل الثوري الديمقراطي العربي هو في حد ذاته فعل مقاومة فلسطيني. 

لا يمكن أن تتحرك المقاومة الفلسطينية اليوم منفردة، فهي بحاجة إلى البحث عن أصدقاء لها في محيطها العربي كما خارجه. كما تمثل لامبالاة القوى العربية تجاه فلسطين، وإن عن غير قصد بحكم الانشغال بصراعها المحلي، إضعافاً لتلك القوى بقدر ما يستقوى خصومها، حلفاء "إسرائيل" بالفعل أو بالقوة، بتلك التسويات الجائرة. إن مفصلة المطلب التحرري الفلسطيني ضمن الخطاب الثوري العربي كفيل بدعم اتساق ذلك الخطب وتعبئة جماهيره وإحراج خصمه الذي لا يكف عن المخاتلة في تلك المساحة. ولنتذكر أن تصدع الأنظمة العربية في 2011 كان وراءه سخط شعبي على الخيانات الرسمية لفلسطين.