13 سبتمبر 2018

يتامى أوسلو

"غلطة وندمان عليها"

"غلطة وندمان عليها"

صارت ذكرى توقيع "أوسلو"، بالنسبة للسياسيين و"المستشارين" الفلسطينيين ممّن شاركوا في الوصول إلى الاتفاقيّة، موسماً سنوياً لتلاوة تعويذات التطهّر: "خُدعنا، كانت غلطة".

سنوياً، وخاصةً حين تصل الذكرى عمراً احتفالياً مثل 20 عاماً أو ربع قرن، تصدر مقالاتٌ ومقابلات للصحف وخُطب في مؤتمراتٍ يقف فيها من أطعموا الاتفاقيّة للشعب الفلسطينيّ ودافعوا عنها، بذات الثقة والأبويّة، ليصرّحوا بأنّها كانت خديعة وخطأ، ثم يستمرّون مباشرةً في إبهار محدّثيهم بالنصح والرؤى السياسيّة. في عالمٍ يحطّم الحياة المهنيّة "لعمالقةٍ" في كلّ المجالات بسبب "أخطائهم"، يُحتفى محليّاً وعالمياً بمن حضّر لشعبٍ كارثةً دمويّة بحجم "أوسلو"، وتُفتح أمامهم المنابر، رغم إبقائهم على كلّ ما اكتسبوه من مكانةٍ وموارد بفضل "غلطتهم"، ودون أن يتحمّلوا مسؤوليّة أو يُجرّوا إلى مساءلة أو محاسبة.

لا يتحمّل هؤلاء مسؤوليّة أخطائهم. لكنّهم كذلك لا يعترفون ولا يقدّمون أجوبة عن مضمون الخطأ: لا أحد يقول: "كان خطأً أن نتنازل عن العمل المسلّح"، ولا يقولون إنهم أخطأوا في التنازل عن كامل التراب الوطني، ولا يقولون إنهم أخطأوا في الاعتراف بـ"إسرائيل" كشرطٍ ابتدائيّ للتفاوض، ولا يقولون إن الخطأ كَمُنَ في التفكير التكتيكيّ، ولا يجرؤون على الإشارة إلى ياسر عرفات باعتباره من يتحمّل المسؤولية الكبرى على هذا الخطأ.

الأنكى، أنّهم يشوّهون الحقائق التاريخيّة، ولا يتكلّفون بردّ الاعتبار لمن عارضوا الاتفاقيّة بشراسة قبل توقيعها. فقد باتت عمليّة "أوسلو" توصف كأنها جرت في فضاءٍ خارجيّ: كأنّ "حركة فتح" لم تشهد أصواتاً مناهضة للاتفاقيّة، وكأن فصائل "منظّمة التحرير" لم تعارض الاتفاقيّة بحدّةٍ وشراسة، وكأن المقاومة الإسلاميّة لم تقدّم مرحلة مفصليّة وتاريخيّة من النضال من أجل إسقاط هذه "الخدعة".

من جهةٍ أخرى، فإن مدبّري "أوسلو" الفلسطينيين، وقبل أن يصارحونا بأنّها كان خدعة، كان عليهم أن يكشفوا لنا سببَ ذهابهم إلى "أوسلو". عمليّة التسوية كانت، منذ يومها الأوّل، قائمة على التلوّن السياسيّ والاختلاف بين الرسائل التي وُجهت إلى الشعب الفلسطينيّ، وتلك التي وُجهت إلى الحكومات الغربيّة. مثلاً، سوّقت قيادة "منظّمة التحرير"، "أوسلو" للشعب الفلسطيني في حينه (ولاحقاً لتبرير فشله) على أنّها خطوةٌ تكتيكيّة ومرحليّة لتحرير كامل التراب. إن صح هذا، فمعناه أنها هي الأخرى دخلت إلى عمليّة "أوسلو" لخداع الإسرائيليين، فمن أين يأتي، إذن، الاستهجان بأنّ تكون الاتفاقيّة قد انطوت على خديعة؟

لم تكن "أوسلو" لا خدعةً ولا خطأً. كانت تتويجاً لتدهورٍ ظهرت بذوره الأولى في النقاط العشر (1974)، ومحاولات التقرّب من الإدارة الأميركيّة مع بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وصولاً إلى اجتياح بيروت. هذا نهج سياسيّ. أما "الخديعة" فهي ممكنة لسبب واحدٍ ووحيد: أنّ "منظمة التحرير" تنازلت عن جميع مفاتيح القوّة الفلسطينيّة، ورهنت كل خياراتها وإمكانيّاتها وتطلّعاتها لثقبٍ أسود مُنفلت يُسمّى: الدبلوماسيّة الغربيّة.

دخلت المنظّمة هذه المفاوضات دون ضمانات وطنيّة نضاليّة؛ أي دون إمكانيّات مقاومة ومصادر قوّة وتخطيط بديل في حال فشل العمليّة السلميّة - ضمانات غير مرتبطة لا بالتزامات العدوّ ولا بالتزامات الوسيط. أُهدرت كل مكامن الفعل الوطنيّ. أُهدرت القواعد الاجتماعيّة لحركة التحرّر، ولم يلتفت أحد إلى استعادة البنية التحتيّة للمقاومة المسلّحة بعد الانسحاب من بيروت. كما أُهملت منظومة التضامن الأمميّة لصالح صفقات الحكومات. أُهدرت حركة التحرّر الشعبيّة لسدّ جوع الدبلوماسيّة الغربيّة؛ هذا نهج وليس "غلطة". أمّا المطلوب الآن، فيتلخّص في استعادة المقدرات الشعبيّة للنضال، لا "تعويذات" الندم هذه.