25 يونيو 2020

مع أو بدون "قانون التسوية".. سرقة الأراضي مستمرة!

مع أو بدون "قانون التسوية".. سرقة الأراضي مستمرة!

في 9 يونيو/حزيران 2020، أصدرت المحكمة الإسرائيليّة العليا حكمها النهائيّ بإلغاء قانون التسوية، وذلك بعد عاميْن من نظرِ المحكمةِ في التماسيْن ضدّ القانون، أحدهما قدّمه مركز عدالة بمشاركة مركز القدس ومركز الميزان، نيابةً عن سبعة عشر مجلساً قرويّاً فلسطينيّاً، والآخر قدمته مجموعة من مؤسسات حقوق إنسان إسرائيليّة. 

اعتبر مقدّمو الالتماس قرار الإلغاء انتصاراً قانونيّاً وإنجازاً مهمّاً، يمكن استغلال نتائجه في قضايا مستقبليّة، غير أنّ هذا الشعور بالرضا لم يقتصر عليهم، أو على بعض الفلسطينيين الذين مثّلوهم. لأسباب مختلفة تماماً، تنفّس الكثير من مؤيّدي السياسات الإسرائيليّة الصعداء. إذ يرى ليبراليّون إسرائيليّون المشروعَ الاستيطاني بالضفة خطراً على أمن الاحتلال، وتهديداً لمكانته الدوليّة، ويشاركهم الرضا مؤيدون لالتهام المزيد من الأراضي الفلسطينيّة، ولكن بأدواتٍ أقلّ شراهةً وبلطجةً، خاصةً أنهم لا يُعدموها.

وفي قرارها هذا، ضربت المحكمة الإسرائيليَّة العليا أكثر من عصفوريْن بحجر، فهي أبطلت قانوناً عرّض "إسرائيل" لانتقاداتٍ شديدة، وبعثت لمحكمة الجنايات الدوليّة برسالة مفادها أنّ في "إسرائيل" جهازاً قضائيّاً يراقب ويحاسب، بينما أبقت الباب مفتوحاً أمام سلطات الاحتلال والمستوطنين لسرقة الأراضي الفلسطينيّة، شريطةَ أن يستخدموا وسائلَ أكثر مراوغةً، وأقلّ فظاظةً من قانون التسوية. فإنْ كان قرار الإلغاء هذا انتصاراً لطرفٍ ما، فهو لا شك انتصارٌ جديد لخرافة سيادة القانون وفصل السلطات التي تسوّقها سلطات الاحتلال.

قانون التسوية وتاريخ من المصادرات

يهدف "قانون التسوية"، الذي سُنّ في فبراير/شباط 2017، إلى تبييض سرقة أراضٍ فلسطينيةٍ بملكية خاصّة، كانت قد سُرِقت لغرض بناء المستوطنات. بواسطة هذا القانون سعت "إسرائيل" إلى تسوية الوضع القانونيّ وإضفاء الشرعيَّة، بأثرٍ رجعي، على قرابة 3500 بؤرة ومستعمرة إسرائيلية بُنيت على أراضٍ خاصّة في الضفة الغربيّة، إما بـ"حسن نية" أو بموافقة سلطات الاحتلال. بالمحصلة، فإنّ هدف القانون "شرعنة" آلاف الوحدات الاستيطانيّة التي بُنيت على أراضٍ تعود ملكيتها لفلسطينيّين وليست مُعلنةً كـ"أراضي دولة".

يخوّل القانون في مادته الثالثة "حارسَ أملاك الغائبين" بتسجيل الأراضي التي لا يتواجد مالكُها في فلسطين- قد يكون لاجئاً مثلاً- ونقلها لملكيةٍ حكوميّة، وبالتالي مصادرتها فعليّاً وقانونيّاً. أمّا بالنسبة للأراضي الموجود مالكُها، فيتيحُ قانون التسوية مصادرةَ حقّ استخدامها، ويُضفي الشرعية، بأثرٍ رجعيّ، على المستوطنات المُشيدة عليها، رغم أنّ المصادرة تقتصر على حقّ الاستخدام، ولا تشمل نقل تسجيل الملكية. كما تمنح المادة الثامنة من القانون مالكَ الأرض الفلسطيني تعويضاً سنويّاً بنسبة 125% من قيمة الأرض، أو أرضاً بديلةً. 

اقرأ/ي أيضاً: الأغوار السليبة.. سيرة نهبٍ إسرائيليّ

ويمكننا اعتبار هذا القانون امتداداً لقانونيْ اقتناء الأراضي عام 1953، وقانون أملاك الغائبين 1950، واللذين مكّنا دولة الاحتلال من السيطرة على 93% من الأراضي داخل الخطّ الأخضر. ومن ثم سُخّرت تلك التجربة المتراكمة، بالإضافة إلى عدد من الأوامر العسكريّة، لمصادرة نسبٍ هائلة من الأراضي في القدس والضفّة الغربية والجولان السوريّ المحتل بعد العام 1967.

وكانت حكومات الاحتلال المتعاقبة قد أصدرت بعد النكسة عدداً من الأوامر العسكريّة التي أدّت إلى زيادة رقعة مصادرة الأراضي في الضفّة الغربيّة والاستيطان فوقها. في العام 1979 مثلاً، أُصدِر المرسوم الحكوميّ رقم 145، والقاضي بإقامة المستعمرات على كل ما يعرّف بأنه "أراضي" دولة"، وباستغلال شبكة من قوانين الأراضي العثمانيّة والبريطانيّة والأردنيّة والأوامر العسكريّة الإسرائيليّة لتوسيع مفهوم "أراضي الدولة".

أعقب هذا المرسومَ في سنوات الثمانينيات والتسعينيات الإعلانُ عن مساحاتٍ شاسعة في الضفة بأنّها "أراضي دولة" بزعم الاعتماد على مسح هوائيّ للمنطقة. 

سيدة فلسطينيّة تمرّ بالقرب من بيت فلسطينيّ في قرية بيت عوا غرب الخليل. في الخلفية، البؤرة الاستيطانية "ميتسبي لخيش". حازم بدر\ AFP

ورغم أنّ البناء لأغراضٍ "سكنيّة" إسرائيليّة غير ممكنٍ إلّا على "أراضي دولة"، إلّا أنّ هذا التمييز بينها وبين الأراضي الخاصّة ليس إلّا تصنيفاً وهمياً واعتباطياً، لوضعِ ضوابطَ معيّنةٍ على الاستيطان، مع ضمان استمراره وتسويغه. ناهيك عن أنّ الإعلان عن الأراضي وتصنيفها لم يخضع لأي رقابة طيلة عقدين، ما سمح بإقامة الآلاف من المباني الاستيطانية، بتشجيع أو تمويل السلطات الإسرائيلية، على أراضٍ اتّضح فيما بعد أنها بملكيّة فلسطينيّة خاصّة.

وبكلّ الأحوال، هذا التمييز الذي يخلقه الاحتلال بين أراضٍ خاصّة وأراضي دولة غيرُ ذي أهمية في القانون الدوليّ الإنسانيّ، إذ يحظر الأخير، في اتفاقية جنيف الرابعة، كلّ أشكال الاستيطان، بصرف النظر عن تصنيف الأراضي.

بدائل لا تعدمها "إسرائيل"

إذن ألغَت المحكمة الإسرائيليَّة العليا قانونَ التسوية، لكن هل سيؤدّي قرارُها هذا إلى لجم سرقة الأراضي الفلسطينيَّة أو إلى إخلاء المستوطنات التي بُنيت فوق أراضٍ بملكية خاصّة؟

أيّ محكمة، يهمها الحفاظ على ماء وجهها، كانت ستلغي قانوناً بهذه العموميّة. وقد أدرك المستشار القضائيّ للحكومة الإسرائيلية ذلك، ما دفعه لرفضِ تمثيل الحكومة والـ"كنيست" في المحكمة، في موقفٍ نادر الحدوث. لكنّه استبق المحكمة وقرارها بأن قدّم بدائل أخرى لتبييض سرقة الأرض، وتبنّت رئيسة المحكمة العليا، إستر حيوت، موقفه. 

واحدٌ من هذه البدائل هو اللجوء إلى أوامر عسكريّة موجودة أصلاً لإضفاء "الشرعية" على تلك المستوطنات والبؤر، فقد اقترح المستشار توظيف المادة الخامسة من الأمر العسكريّ بشأن الممتلكات الحكوميّة.1الأمر الخاص بالممتلكات الحكوميّة: أمر عسكري أصدره الحاكم العسكريّ الإسرائيلي في العام 1967، مُنحت بموجبه سلطات الاحتلال التفويض بالتصرّف بكل الأراضي غير المصنّفة كأراضٍ خاصّة. 40% من الأراضي في المناطق ج مصنفة اليوم على أنها أراضٍ حكومية. كما توضح القاضية حيوت في الفقرة 16 من قرارها، لم يُخصّص من الأراضي المصنفة أراضٍ حكومية منذ العام 1967 سوى 1625 دونماً للبناء الفلسطيني، بينما خصّص المسؤول عن وحدة الاستيطان  450 ألف دونم للتوسع الاستيطاني اليهودي منذ منتصف السبعينيات وحتى بداية الألفية.تقضي المادة بعدم إلغاء أي صفقة تُبرم بـ"حسن نيّة"، بين حارس الأملاك- الذي تعينه الإدارة الإسرائيليّة المدنية- وشخص آخر (مستوطن إسرائيلي). مثلاً، ينطبق ذلك على صفقة بيعٍ لأرضٍ ظنّها الطرفان "أراضي دولة"، ولكن اتّضح بعد الصفقة أنّها ليست كذلك.

ومن المتوقع أن تصدر المحكمة الإسرائيلية العليا قريبا قراراً في جواز استخدام هذا البديل في قضية بؤرة "متسبي كراميم" بعد أن كانت المحكمة المركزيّة قد صادقت على البؤرة، ورفضت دعوى الفلسطينيين لإخلائها، مُستندة في حينه إلى المادة الخامسة من أمر الممتلكات الحكومية. في الاستئناف الذي قدمه الفلسطينيون للمحكمة العليا ضد هذا القرار، ستحظى الحكومة، هذه المرة، بتمثيل المستشار القضائيّ. 

كما اقترح المستشار القضائي بدائل أخرى، كاستخدام قواعد التقادم التي ينصّ عليها القانون العثماني. لم تحسم القاضية حيوت سؤال قانونية هذه البدائل ولكنها بدت متحمسة لاستخدامها. وقد لا تكون البدائل المقترحة بنجاعة قانون التسوية وشموليّته، وستتطلب معالجة كلّ قضية على حدة، ولكن، يُتوقَّع أنْ تحمي المادة الخامسة من ذلك الأمر العسكريّ معظم المستعمرات المبنيَّة على أراضٍ فلسطينيَّة خاصة، لا سيما في ظلّ انتقال الضمّ من طوره الفعليّ إلى طوره القانونيّ الرسميّ. 

ورغمَ إلغائها قرار التسوية، لم تَحِد المحكمة قيد أنملة عن نهجها في التعامل مع القضايا الجوهريّة المرتبطة بالأرض أو بالأمن في الضفّة الغربيّة. ورغم اعترافها بالإشكاليات القانونيّة في تشريع الـ"لكنيست" لقوانين ذات أثر مباشر على الضفة، وانتقادها لهذا الأسلوب، بنَت المحكمة كلّ استنتاجاتها على افتراض أنّ الـ"كنيست" يملك صلاحيّةً كهذه.

وبما أنّها افترضت وجود الصلاحية لسنّ قوانين تتعلق بالضفة الغربيّة، فإنّ استخلاصها ضرورة رفض القانون اعتمد جُلّه على القانون الدستوري الإسرائيلي، لا على القانون الدولي الإنسانيّ. ما حسم الكفّة فعلاً كان استنتاج القاضية أنّ القانون ينتهك حقّين دستوريّين يحميهما قانون أساس "كرامة الإنسان وحريته"، وهما الحقّ في التملّك، والحقّ في المساواة المستقى من الحقّ في الكرامة. 

إذن هل نعتبر قرارَ الإلغاء إنجازاً قانونيّاً، أم "قبّة حديديّة" لقطع الطريق على محاسبة "إسرائيل" في محكمة الجنايات الدوليّة؟ بحجة أنّ المحكمة "المحليّة" تؤدّي دورها في التحقيق والمحاسبة. وهل يلعبُ جهاز القضاء في المنظومة الاستعمارية الإسرائيليّ دورَ حارسٍ لديمقراطيّتها المزعومة؟ أم أنّه أخصّائي تجميل يكرّس الهيمنة الإسرائيليَّة بألعاب الخفّة القانونيّة تارةً، وبشيء من التقليم تارةً أخرى؟