4 يناير 2020

الأغوار السليبة.. سيرة نهبٍ إسرائيليّ

الأغوار السليبة.. سيرة نهبٍ إسرائيليّ

لم يُنفَّذْ حتى الآن تعهدُ بنيامين نتنياهو بِضَمّ منطقة الأغوار وشمال البحر الميت في حال فوزه بالانتخابات الإسرائيليّة التي عُقِدت في 17 سبتمبر/أيلول الماضي. رغم ذلك، فإنّ الواقع الاستعماري الذي بدأ عام 1967، من نهبٍ واستغلالٍ للموارد واستيطانٍ على أنقاض الوجود الفلسطينيّ، مستمرٌ وتتسارع وتيرته. وتسعى "إسرائيل" جاهدةً إلى تمكين مشروعها السياسيّ الاستيطانيّ في الأغوار وشرعنته قانونيّاً ودوليّاً بما يخدم مصالحها الاقتصاديّة والاستراتيجيّة.

تُعرّف منطقة الأغوار بأنّها المنطقة الممتدة على الشريط الشرقيّ للضفة الغربيّة المحتلة عام 1967. وعلى طول 120 كم، من عين البيضاء جنوب مدينة بيسان شمالاً، وحتى عين جدي قرب البحر الميت جنوباً، ومن منتصف نهر الأردن في المنطقة الحدوديّة مع الأردن شرقاً، حتى سفوح الجبال الشرقيّة للضفة الغربية غرباً، بعرضٍ يتراوح بين 5 كم و25 كم. وتشكّل الأغوار نحو 28% من مساحة الضفة الغربيّة، بمساحة إجماليّة تُقدر بـمليون و160 ألف دونمٍ، يقع 88.3% منها ضمن تصنيف الأراضي "ج".1فادي نحاس، "إسرائيل والأغوار: بين المفهوم الأمني واستراتيجيات الضم" - تقرير بحثي، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، رام الله، 2012، ص13. ويقدّر عدد الفلسطينيين في منطقة الأغوار بحوالي 65 ألف فلسطينيّ، يتبعون إداريّاً إلى ثلاث محافظات وهي؛ أريحا (الأغوار الجنوبيّة) وبواقع 12 تجمعاً سكانيّاً، ونابلس (الأغوار الوسطى) وبواقع 4 تجمعات سكانيّة، وطوباس (الأغوار الشماليّة) وبواقع 11 تجمعاً سكانيّاً.

من خطّة آلون إلى أوسلو

تعود الأبعاد الاستعماريّة في منطقة الأغوار الفلسطينيّة إلى الفترة التي أعقبت حرب يونيو/ حزيران 1967. منذ ذلك الحين، وضعت "إسرائيل" خُطَطاً وسياساتٍ لتلبية احتياجاتها الأيديولوجيّة والأمنيّة والاقتصاديّة في المنطقة، بدأت مع خطة يغال آلون وزير العدل الإسرائيليّ عام 1967، والتي عرضها أمام مجلس الوزراء الإسرائيليّ في يوليو/ تموز 1967. 

تطرح الخطةُ فكرةَ التخلي عن المناطق ذات الكثافة السكانيّة الفلسطينيّة العالية لصالح الرعاية السياسيّة الأردنيّة، والاحتفاظ بالمقابل برقعة جغرافيّة واسعة ذات كثافة سكانيّة متدنية نسبياً تمتدّ بمحاذاة نهر الأردن تحت السيطرة العسكريّة الإسرائيليّة لضمان حفظ أمن "إسرائيل" ضمن "حدودها" الجديدة وقتئذ. وبحسب هذا الطرح، تضمن خطةُ آلون لـ"إسرائيل" السيطرة على الحدود الشرقيّة لها، مع ضمان إنشاء نظام دفاعيّ يحميها، وتحقيق وحدة الأراضي المُحتلة وتأمينها استراتيجياً، وضمّ شريط يتراوح عرضه بين 10-15 كم على امتداد الأغوار، وشريط عرضه بضع كيلومترات بين القدس والبحر الميت، ومن ثمّ ضمّ جبل الخليل بسكانه، أو ضمّ صحراء (بريّة) القدس على الأقلّ، مع إقامة مستوطنات مدنيّة وزراعّية، وقواعد عسكريّة دائمة في منطقة الأغوار2أحمد حنيطي، "السياسة الإسرائيلية تجاه الأغوار وآفاقها"، مركز الدراسات الفلسطينية، سلسلة القضية الفلسطينية وآفاق المستقبل، بيروت، 2016، ص13.. كما تفتح خطّةُ آلون الباب أمام مشاريع استيطانيّة واسعة وبذريعة أمنيّة. 

ولتحقيق ذلك والسيطرة على الأراضي بدايةً، اعتمدت "إسرائيل" آليةً بيروقراطيّةً "قانونيّة" مُعقّدة لسلب الأراضي، يتمثل عنصرها الرئيس في إعلان وتسجيل الأراضي الشاسعة في الأغوار على أنها "أراضي دولة"، وذلك من خلال ثلاث حُجج أساسيّة وهي؛ مصادرة الأرض لحاجةٍ عسكريّة، أو مصادرة الأرض لتأمين الاحتياجات العامّة، ومصادرة الأرض "المتروكة" من قبل أصحابها الأصليين إبان النكبة، وذلك باستخدام "قانون أملاك الغائبين".3 Yehezkel Lein & Eyal Weizman, Land Grab: Israeli's Settlements Policy in the West Bank, in: Yael Stein (ed.) (Jerusalem: B'Tselem, 2002), pp. 47-63.)

وهكذا بدأ استغلال هذه الأراضي لبناء القواعد العسكريّة الإسرائيليّة، أو بناء المستوطنات، في مقابل طرد الفلسطينيّ وإلغاء وجوده ووضع العقبات أمام بقائه فيها. وقد ظهر في حينه نوعان من المستوطنات في منطقة الأغوار، أولاً: المستوطنات العسكريّة؛ وهي عبارة عن مستوطنات تؤدي دوراً عسكريّاً بالأساس للدفاع عن "إسرائيل" من جهة الشرق، وتعمل على تكريس الهيمنة الأمنية، في مسعىً منها لتوفير الأمن والعمق الاستراتيجي للمستعمِر الإسرائيلي، والدفاع عن نفسه في حال تعرضه لأي هجوم عسكريّ من الدول العربيّة. وثانياً: ما يُمكن تسميته "المستوطنات المدنيّة"؛ وهي المستوطنات السكنيّة والزراعيّة التي ظهرت في النصف الثاني من سبعينيات القرن المنصرم، والمخصصة لتوطين المستوطنين اليهود في منطقة الأغوار، وتشجيعهم على الاستثمار الاقتصادي واستغلال موارد المنطقة. 4 See More: Lein & Weizman. pp. 11-13.

هذه السياسة الاستعمارية عنت السيطرة على أكثر من 400 ألف دونم من أراضي الأغوار لأغراض عسكريّة، و330 ألف دونم أخرى لأغراض استيطانيّة زراعيّة، وآلاف الدونمات لمشاريع صناعيّة وسياحيّة في المنطقة نفسها، ما يعني استعمال أكثر من 60% من إجمالي مساحة منطقة الأغوار لغرض تثبيت المشروع الاستيطانيّ.5خلود العجارمة وإيهاب محارمة، "التهجير القسري في منطقة "ج" والأغوار في ظل الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي،" ورقة مقدمة في مؤتمر التهجير القسري: الإشكاليات والقضايا الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 30 تشرين الثاني/ نوفمبر و1 كانون الأول/ ديسمبر 2019. وقد وصل عدد مستوطنات الأغوار حتى نهاية عام 2015 نحو 38 مستوطنة، يسكن فيها أكثر من 10 آلاف مستوطن. 

لاحقاً، عند توقيع اتفاقيات أوسلو سعت دولة الاحتلال إلى تثبيت مشروعها في الأغوار. ففي أوسلو، اتّفقت "إسرائيل" مع منظّمة التحرير على تقسيم الضفة الغربيّة إلى ثلاث مناطق جغرافيّة. بهذا التقسيم، بقيت نحو 60% من مساحة الضفة الغربيّة تحت السيطرة المدنيّة والأمنيّة الإسرائيليّة الكاملة، وباتت تُعرف باسم المنطقة "ج"، وكان هذا التصنيف صاحب حصّة كبيرة في الأغوار، إذ أنّ 88.3% من أراضي الأغوار هي مناطق "ج". ويمنع على الفلسطينيين المقيمين فيها السكن أو العمل أو التملك أو البناء دون الحصول على موافقة إسرائيليّة.6“Israeli-Palestinian Interim Agreement on the West Bank and the Gaza Strip,” The Israeli-Palestinian Conflict: Interactive Database, 28/9/1995

وبعبارة أخرى، أعطت اتفاقيات أوسلو سلطات الاحتلال الإسرائيليّ فرصةً تاريخيّةً لتثبيت مشروعه الذي بدأ مع خطة آلون عام 1967، من خلال تحكمه بحركة الفلسطينيّين وتسجيل الأراضي والتخطيط والبناء والطرق والأرض والمياه والسكن، وذلك في مقابل منحه امتيازات مهمة للمستوطنين اليهود في منطقة الأغوار للتوسع الاستيطانيّ واستغلال موارد المنطقة ونهبها.

يُبنى هذا النموذج الاستعماري على أنقاض هدم مئات المنازل والمساكن والتجمعات الفلسطينية؛ فـ"إسرائيل" تُوّلي منطقة الأغوار أولوية في عملية الهدم، وهي التي هدمت نحو 1500 مسكن ومبنى فلسطينيّ مخصص للسكن والزراعة خلال الفترة الممتدة من 2006 حتى 20177"خلفية عن غور الأردن،" مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسيلم".. كما يقيّد هذا النموذج الاستعماري في منطقة الأغوار النمو الديمغرافيّ الطبيعيّ للفلسطينيّين في الأغوار، فهذه المنطقة التي كانت مسكناً لنحو 250,000 – 320,000 فلسطينيّ قبل حرب يونيو/ حزيران 19678فادي نحاس، ص 15.، تقلص عددُ الفلسطينيين فيها ليصل إلى 10,000 بعد الحرب، ثم يصعد اليوم إلى حوالي 65 ألف. ولولا السياسة الاستعمارية في منطقة الأغوار بتقييد العمل والسكن والبناء والتملك للفلسطينيين في المنطقة نفسها لوصل عدد الفلسطينيين إلى أكثر مما هو عليه اليوم، لا سيما أن سلطات الاحتلال تمنع الفلسطينيّين المقيمين في منطقة الأغوار منعاً شبه تام من البناء، وترفض منحهم تراخيص بغض النظر عن نوع البناء سواء للسكن أو الزراعة أو منشآت البُنى التحتية. 

السيطرة على الموارد

تقع منطقة الأغوار ضمن ما يعرف بـ "الحوض المائيّ الشرقيّ"، وهو الخزان المائيّ الأكبر في منطقة الضفة الغربيّة؛ مقارنةً بالحوض الغربيّ والحوض الشماليّ–الشرقي، ويعدّ مصدراً هامّاً للمياه الجوفية، حيث تستخرج "إسرائيل" نحو 89% من مياه الخزان الجوفي الجبلي في منطقة الأغوار، وهذه الكمية تعادل أكثر من 600 مليون متر مكعب، وهي كمية تغطي نحو 25% من احتياج "إسرائيل" للمياه.9Elisabeth Koek, “Water for One People Only Discriminatory Access and ‘Water-Apartheid’ in the OPT,” Ramallah: Al-Haq, 2013, pp: 22-28. أضف إلى ذلك، تستغل "إسرائيل" مياه نهر الأردن الواقع أكثر من 55% منه تحت السيطرة الإسرائيلية، وعلى البحر الميت الذي يعدّ منطقة جذب سياحيّة هامّة لـ"إسرائيل"، ناهيك عن اعتباره مصدراً رئيسياً لتصدير الملح الإسرائيليّ إلى العالم.

نهب الموارد المائية يعطي المستوطن الإسرائيلي إمكانيّة تطوير زراعته وتحسينها بشكل سنويّ، وهي الزراعة المُخصصة للتصدير المحليّ والدوليّ، وذلك على حساب الفلسطينيّين الذين يُحرمون حتى من حفر الآبار أو بناء مضخات المياه. وتُعد الزراعة مورداً اقتصاديّاً رئيسيّاً بالنسبة لـ"إسرائيل"، لذلك تهتم باستغلال منطقة الأغوار، نظرً لخصوبة أراضيها الزراعية وتوفر المياه الصالحة للزارعة؛ فالمستعمِر الإسرائيلي يسيطر على إنتاج الفواكه والخضروات في منطقة الأغوار، وينهب سنويّاً ما يقارب نصف مليون دولار أميركي من إنتاج منطقة الأغوار الزراعيّ ولمصلحة المستوطنين فقط.

وبهذا، تعمل "إسرائيل" من خلال استغلالها الموارد المائية في المنطقة وتطوير البنية التحتية للمستوطنات السياحيّة والصناعيّة والزراعيّة، لتصبح الأغوار منطقة جذبٍ استيطانيّة هامّة للاستثمار والسكن، وبما يضمن ربطها مع منطقتي القدس ومستوطنة معاليه أدوميم. وبهذا تُشكّل "إسرائيل" واقعاً استعماريّاً تستغل فيه موارد المنطقة، وتمنحها للمستوطنين للاستثمار بمشاريع سياحيّة وصناعيّة وزراعيّة تعود بالفائدة على المشروع الاستعماريّ، بينما يُحرم أصحاب الأرض من أن ينالوا شيئاً من ذلك.

لا بيت ولا عمل

وبعد أن جرّدت سلطات الاحتلال الإسرائيليّ المزارعَ الفلسطينيّ من أرضه وموارده، عملت أيضاً على مجموعة من القيود التي تمنع الفلسطينيين من السّكن والعمل والتملك والبناء في منطقة الأغوار. إذ تفرض "إسرائيل" قيوداً على الفلسطينيّين غير العاملين في المستعمرات الإسرائيليّة، وذلك لمنعهم من الاستفادة من معظم أراضي المنطقة، وتفرض قيوداً على حركة الفلسطينيّين عامّةً في الأغوار لمنعهم من التنقل في مناطق واسعة خالية من السكان ومنعهم من الوصول إلى موارد المنطقة. يؤدّي منع حرية الحركة هذا إلى تثبيت السيطرة على المزيد من أراضي المنطقة وتطويرها لتصبح مؤهلة للتنمية الحضريّة والزراعيّة والاقتصاديّة، وبطبعية الحال بما يخدم مصلحة مشروعها الاستعماريّ الاستيطانيّ فقط.

أضف إلى ذلك، تفرض سلطات الاحتلال قيوداً على الفلسطينيّين العاملين في المستعمرات، فإلى جانب إلغائها القسري لحقوق الفلسطينيين في تطوير أرضهم والاستفادة من إنتاجيتها، فهي تعتدي على حقوق الفلسطينيّين العاملين قسراً في المستعمرات الإسرائيلية، وكذلك تقوم بتبييض بضائع المستوطنات الإسرائيلية؛ بإضفاء طابع فلسطينيّ على المنتجات الإسرائيليّة بهدف تظليل المستهلك المحليّ والأجنبيّ الذي يسعى إلى مقاطعة البضائع الإسرائيليّة.10للمزيد ينظر في: سلسلة أوراق تنموية أصدرها مركز بيسان للبحوث والإنماء خلال الفترة 2012-2013، وتحمل الأرقام التالية: 7، 10، 11، 12.

لا شك أن السياسة الاستعماريّة في منطقة الأغوار مكّنت الاحتلال الإسرائيليّ من فرض تفوقه الجغرافيّ والديموغرافيّ في المنطقة. وقد انتقل المشروع الاستعماريّ في الأغوار من التركيز على الهاجس الأمنيّ للدفاع عن سيادته في المنطقة، على اعتبار أن الحدّ الشرقيّ أصبح أكثر "أمناً" اليوم، إلى التركيز على تشجيع الزراعة والصناعة والسياحة والسكن، وبما لا يلغي مكانة الأغوار أمنيّاً في لبّ المشروع الاستعماري.

ورغم أن سياسات الاحتلال مستمرة بعنفٍ بمعزلٍ عن تقنين "ضم الأغوار"، إلا أنّه من الخطر الاستخفاف بالأصوات الإسرائيليّة التي تنادي بضم منطقة الأغوار الفلسطينيّة إلى "إسرائيل". لكنّ هذا الخطر غير مرتبط بما تلوّح به السلطة الفلسطينيّة على لسان قياداتها بأن "ضمّ الأغوار يعني موت الدولة الفلسطينية"، بل لأن ضم الأغوار يعني تطبيع الواقع الاستعماريّ الذي فرضته "إسرائيل" وتأبيده. وهذا يعني بأن "إسرائيل" تريد من سكان منطقة الأغوار القبول بالواقع الاستعماريّ الاستيطانيّ الاستغلاليّ الذي تفرضه "إسرائيل" منذ عام 1967؛ والتعامل معه بوصفه أمراً طبيعيّاً، ومن المجتمع الإقليميّ والدوليّ شرعنته، أي جعله أمراً مشروعاً ومقبولاً.



29 مارس 2021
الإضراب العام وأولاده

شكّلت فكرةُ الإضراب العام قطعةً هامّةً في صورة النضال الفلسطينيّ عموماً، وفي تصوّر النضال داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 على…