31 أكتوبر 2021

قانون "تخليد مجزرة كفر قاسم".. القتل مرتين!

قانون "تخليد مجزرة كفر قاسم".. القتل مرتين!

أسقط أعضاء البرلمان الإسرائيلي، الـ"كنيست"، يوم الأربعاء الماضي، 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، مشروع مقترح قانون بعنوان "تخليد ذكرى ضحايا مجزرة كفر قاسم"، وذلك بعد أن صوّت ثلاثةٌ وتسعون نائباً ضدّه في المرحلة التمهيديّة. 1على كل مشروع قانون إسرائيلي يقدّمه أعضاء برلمان من خارج الحكومة المرور بأربع مراحل تشريعية ليصبح قانوناً: القراءة التمهيدية، القراءة الأولى، ويليها نقاش في إحدى لجان الكنيست، والقراءة الثانية والثالثة. مشروع قانون تخليد ذكرى شهداء كفر قاسم رُفض، هذه السنة كما السنوات السابقة، في المرحلة التمهيدية.

يشمل مشروع القانون ثلاث مواد: أن تعترف حكومة "إسرائيل" بمسؤوليتها السياسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة عن المجزرة التي ارتكبتها "قوى الأمن" في كفر قاسم في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، والتي نفّذتها بحجّة أن المزارعين والمزارعات العائدين إلى كفر قاسم وأطفالهم خرقوا أمرَ حظر التجول الذي فرضته سلطات الحكم العسكري عشية العدوان الثلاثي، وأن تُلزم وزارة التربية الإسرائيلية، ضمن المناهج التدريسية، كل المدارس بتخصيص ساعةٍ تعليميّةٍ لإحياء ذكرى المجزرة واستقاء "العبر" منها، وأن تموّل خزينةُ الاحتلال الجمعيةَ المسؤولة عن تخليد ذكرى ضحايا كفر قاسم كي تتمكن من تعميم تلك "العبر".

وفي مشروع القانون "تبرير" لحاجته يقول بأنّ على "إسرائيل" الاعتراف رسميّاً بمسؤوليتها عن المجزرة، وأن تحمل التصريحات العديدة التي خرجت من أفواه بعض السياسيين الإسرائيليين والتي أدانت المجزرة طابعاً رسمياً يتجاوز الآراء الفرديّة، وأخيراً أن تُتخذ خطوات لاستقاء العبر، حسب تعبير واضعي المقترح.

ليست هذه المرّة الأولى التي يناقش فيها كنيست الاحتلال مشروع قانونٍ للـ"اعتراف" بمجزرة كفر قاسم ويرفضه في المرحلة التمهيدية، إذ يدفع منذ عام 2007 أعضاءُ "كنيست" من ممثّلي "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" (المنبثقة عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي) وآخرون من حزب "ميرتس" الليبراليّ الصهيونيّ نحو سنّ هذا القانون. 

قاد هذه المحاولات في السنوات الأخيرة عيساوي فريج ابن بلدة كفر قاسم وممثل حزب "ميرتس". فريج وزملاؤه في "ميرتس" الذين اعتبروا سنَّ هذا القانون أولويةً حين جلس حزبُهم في المعارضة في أعوامٍ خلت وجدوا اليوم أنَّ مصلحتهم تدعو إلى "لفلفة الموضوع"، بعد أن أصبحوا جزءاً من حكومة الاحتلال المدعوة بحكومة "التغيير" والتي أطاحت بحكم الليكود بقيادة بنيامين نتنياهو. عُرض مشروع القانون – كما جرت العادة – قبيل حلول ذكرى المجزرة السنويّة، وطرحته للتصويت هذا العام عضو الـ"كنيست" عايدة توما سليمان من القائمة المشتركة.2عايدة توما سليمان هي صحافية وسياسية فلسطينية نسوية من مدينة الناصرة، مؤسسة حركة "نساء ضد العنف" وعضو في كنيست الاحتلال عن "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" منذ العام 2015.

خلال مناقشة المقترح، شنّ عيساوي فريج هجوماً حادّاً على سليمان وعلى أعضاء القائمة المشتركة اتهمهم فيه باستغلال دم الضحايا وألم عائلاتهم الثكلى، ومن بينها عائلته، لأهدافٍ سياسيّة.3ضم القائمة المشتركة تحت مظلتها ثلاث حركات سياسية: الجبهة والتجمع والقائمة العربية للتغيير وحصلت في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة على ستة مقاعد في كنيست الاحتلال. اختار الإعلام، الفلسطينيّ والإسرائيليّ على حدٍّ سواء، التركيز على المشادّة، ولكن لنضع هذه السفاسف جانباً، فالأخطر، من وجهة نظر فلسطينيّة، هو أن نقبلَ بتحويل نضالِنا للحفاظ على ذاكرتنا الجمعيّة الفلسطينيّة إلى حلقةٍ رمزيّة جوفاء لاستجداء الاعتراف من نظامٍ متمرّسٍ في محاربة ذاكرتنا. الأخطر أن نحوّل مجزرة كفر قاسم إلى استثناءٍ فنتناسى أنَّ ما حدث في كفر قاسم هو امتدادٌ لمجازر النكبة، وأن الشهر الذي استشهد فيه أبناءُ كفر قاسم بنيران الاحتلال هو أحد أكثر الأشهر دمويّةً وقسوةً في تاريخ الشعب الفلسطينيّ على طرفيّ الخط الأخضر.

ما معنى أن يُخلّد القاتلُ ذكرى موتك!؟

ما معنى أن نُطالب دولةً أقيمت عبر مجزرةٍ طويلةٍ من القتل والتهجير الاعترافَ بـ"مسؤوليتها الأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة" عن فصلٍ يتيمٍ من هذه المجزرة المتواصلة منذ أربعة وسبعين عاماً؟ ما معنى مطالبة وزارة تربية تكرّس مناهجها لمحو تاريخنا وطمس هويتنا، وزارة تلاحق وترهب أي معلّمة تتجرّأ على تعزيز وعي الطلبة الوطنيّ والسياسيّ، بالتكرّم علينا بساعةٍ للحديث عن مجزرة كفر قاسم في ذكراها السنويّة؟ 

لنتخيل معاً هذه الساعة: هل سيُسمح للمعلمين والمعلمات بإخبار التلامذة أن مجزرة كفر قاسم هي سليلة مجزرة دير ياسين والطنطورة وعيلبون وقبية والشقيقة الوسطى لمجازر قلقيلية وخانيونس ورفح؟ شهرٌ دامٍ بدأه جيشُ الاحتلال باجتياح قلقيلية في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، وتابعه بقتل ثمانية وأربعين فلسطينيّاً وفلسطينيّة في كفر قاسم في 29 أكتوبر/ تشرين الأول، ثمّ أعقبه بإعدام مئات اللاجئين الفلسطينيين في خانيونس وفي رفح في 3 و12 نوفمبر/ تشرين الثاني على التوالي.. ساعاتٌ وساعاتٌ لن تكفي لتذكّر شهداء تلك المجازر، ولكن هل سيُمنح المعلّمون الإذنَ بإيضاح العلاقة الوطيدة بينها وكيف جَمَعَ الدمُّ المسفوك في الضفّة وأراضي الـ48 وغزّة شعباً قطّعت النكبةُ أوصالَه؟

هل سيناقش الطلبةُ المجزرة قبل أو بعد ذلك الجزء في كتاب المدنيات (كتاب القومية الإسرائيليّ) الذي تجبرهم الوزارةُ على تعلّمه والذي يصف نكبة واقتلاع شعبهم بـ"حرب الاستقلال"، ويحتفي ويشيد بالوثيقة التي هلّلت لهذا الاقتلاع ومجّدته؟ هل سيرافق الحديثَ عن كفر قاسم حوارٌ عن الحكم العسكريّ الذي ارتُكبت هذه المجزرةُ ضمنه، عن الإذلال الذي فرضته أوامر وإجراءات الحكم العسكريّ على أجدادهم، أو عن القوانين التي جرّدتهم من أراضيهم ومواردهم؟ أي موظّف في وزارة التربية الإسرائيلية سيُملي على المعلّمين والمعلّمات المحظورَ والمباحَ ومكانَ وضع الفاصلة والنقطة؟ 

نصب تذكاري يحمل أسماء شهداء مجزرة كفر قاسم، على مدخل البلدة.

الاعتراف طريقاً للمحو..

أيّامٌ خمسةٌ فصلت بين مجزرة كفر قاسم في أراضي الـ48 ومجزرة خان يونس في غزّة، وكلتا المجزرتين بدأت بأمر حظر تجوّل، وفي الحالتين أعدم الاحتلال الفلسطينيين ميدانيّاً، وبعد المجزرتين سعى الاحتلال إلى التعتيم والتستّر عليهما. الأخطر أن نحييَ مجزرةً ونغفل أخرى، وأن نهمّش الجرائم التي ارتكبها الاحتلال أثناء ثمانية عشر عاماً من الحكم العسكري المفروض على فلسطينيي الـ48. ما من شكٍّ أن مجزرة كفر قاسم أظهرت أكثر وجوه الحكم العسكريّ قُبحاً وحطّمت خرافة "الحكم العسكريّ المستنير" التي حاول رئيس وزراء الاحتلال الأول دافيد بن غوريون ترسيخها. 

ولكنَّ أشكالَ الظلم والقهر التي سبقت وأعقبت كفر قاسم ليست ظلالاً أو أخطاءً تقنية: مصادرات الأراضي التي انتزعت الأرض من أصحابها والاعتقالات الإداريّة، واقتحامات البيوت ونظام التصاريح والتنقل المذل وابتزاز وامتهان كرامة الناس يوميّاً، ووضع قرى وبلدات بأكملها تحت وطأة ثلّة من وكلاء الاستعمار المحلّيّين، ومواصلة ترهيب جيل ما زالت جراح النكبة تثخن روحه.

تلك ليست تفاصيل ثانويّة، بل هذا هو السياق الذي أتاح ارتكاب مجزرة كفرقاسم، فهل ستعترف "إسرائيل" بها؟ هل يمكن لـ"إسرائيل" أن تتعرف بها وهي التي أسّست لوجودها أصلاً؟ عن أي اعترافٍ نتحدّث والاستعمار لا يزال جاثماً على صدورنا وعلاقات القوى لم تتبدل قيد أنملة؟ أم هل يحسب أعضاء القائمة المشتركة أن آليات العدالة الانتقالية صالحة للاستخدام في سياقٍ استعماريٍّ مستمر لديه مناعة مطلقة ضدّ العدالة فكرةً وتطبيقاً؟

تفضي المطالبة بالاعتراف إلى قبولٍ ضمنيٍّ وصريحٍ بالتبعية للدولة التي ستمنحُ الاعتراف وبالانتماءِ إليها، وهذا خطاب المواطنة الذي تتخذه القائمةُ المشتركة بكافة أطيافها ركيزةً، ولكن هذا الخطاب عاجزٌ عن الحفاظ على ذاكرة شعبنا أو تخليد شهداء كفر قاسم بما يليق بهم. 

تشكّل سياسات الاعتراف كما عرّفها الفيلسوف الكندي تشارلز تايلر إطاراً فلسفيّاً وسياسيّاً تنشط وتنظّر ضمنه مجموعاتٌ مضطهَدة أو مهمشة وأقلّيات قوميّة أو دينيّة أو جندريّة للحصول على اعتراف الدولة بهويتها الجماعيّة وخصوصيتها. رغم طابعها الرمزيّ والاحتوائيّ يُمكن لسياسات الاعتراف، إذا اقترنت بنضالٍ جذريٍّ لإعادة توزيع الموارد وخلخلة البنى الاقتصاديّة والسياسيّة المهيمنة، أن تحقق أهدافاً تقدميّةً، ولكنّ الدولة النيوليبرالية الحديثة ابتلعت، بالغالب، هذه المساعي التقدمية وأفرغتها، تحت غطاء التعددية الثقافيّة، من أي مضمونٍ تحرريّ. 

نجحت الدول النيوليبرالية، والاستعماريّة تحديداً مثل أستراليا وكندا، في إغراق حركاتٍ اجتماعيّةٍ عديدة في فقاعة سياسات الاعتراف وحرف مسار نضالها من معركة تحرّر واستعادة إلى مجرد "اعترافٍ رمزيّ"، قد يُسمن ولكنه بالتأكيد لا يُغني من جوعٍ ولا يخلو من الدعاية والعبارات الرّنانة (عبارات تشبه تلك التي تفوه بها الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ في زيارته إلى كفر قاسم يوم الجمعة للاعتذار عن المجزرة، كقوله "أطلب منكم الصفح باسم دولة "إسرائيل""..). لم تترك سياسات الاعتراف هذه والعبارات الجميلة التي طرّزتها أثراً يذكر على حيوات السكان الأصليين في أستراليا أو كندا، بل رافقها ارتفاعٌ ملحوظ في مشاريع طاقة وتعدين ضخمة تقودها شركات كبرى وترعاها الحكومات وترمي إلى الاستيلاء على أراضي وموارد السكان الأصليين. 

هذه هي فقاعة سياسات الاعتراف التي تغري أعضاء القائمة المشتركة والتي يدعمها اليسار الصهيوني: من الاعتراف باللغة العربية إلى الاعتراف بالفلسطينيين كـ"مواطنين" متساوي الحقوق، إلى الاعتراف بمجزرة هنا وظلم تاريخي هناك. اعترافٌ واعتذار يؤدي فقط إلى ترسيخ الوضع القائم والقبول التام به والعمل فقط تحت سقفه، بينما يمنحُ المنادين به انتصاراً وهميّاً ويؤكّد أنّ المجزرة استثناء ويوفّر مُسكّناً لضمير اليسار الصهيونيّ المنهمك في تجميل وجه الاستعمار.

هل حقّاً يُمكن لاعترافٍ تقدّمه هذه المنظومة أن يستقي "العبر" من مجزرة كفر قاسم؟ العبرة أن الدولة التي يلهثون وراء اعترافها تأسست على دمّ الفلسطينيين وأنقاضهم وأرضهم المنهوبة، وإرثُ هذه الدولة هو خارطة من المجازر على امتداد التراب الفلسطيني، فهل يمكن لقانونٍ تسنه هذه الدولة نفسها تعميم هذه العبرة المناقضة تماماً لأسس وجودها؟

إنّ تخليد ذكرى شهداء كفر قاسم وحراسة الذاكرة الوطنيّة الفلسطينيّة هي مسؤولية الفلسطينيين، كل الفلسطينيين أنّى وجدوا، ولا يحق لأحد أن يصدّرها للاحتلال ومؤسساته. مناداة "إسرائيل" بالاعتراف بشهداء كفر قاسم لا تقل ابتذالاً عن غرامة القروش العشرة التي فرضتها المحكمة الإسرائيليّة على قائد الوحدة التي نفّذت مجزرة كفر قاسم. كلتاهما إهانة لدماء الشهداء. كما إنّ حصر قضية مجزرة كفر قاسم بما يسمى بـ"الـداخل" وسلخها عن سياقها الفلسطينيّ الأوسع، كما حدث مع قضية شهداء أكتوبر في الانتفاضة الثانية، هو إهانة لدماء الشهداء كذلك. وذكرى شهداء فلسطين لا يمكن أن تُكرَّمَ على منبر الكنيست، كما أنّ الذاكرة التاريخية المضادة المناهضة للاستعمار لا يمكن أن تتشكّلَ بالاستعانة بأدوات الاستعمار وقوانينه.