28 ديسمبر 2022

مسجّل البلد الكبير.. هكذا غنّوا للشهداء

مسجّل البلد الكبير.. هكذا غنّوا للشهداء

نسمة جديدة في صباحٍ بارد نقلت إلى المقعد الخلفي مقطعاً آخر من الأغاني التي يبثّها مسجّل الحافلة: "وانظري كيف أُقاتل.. كيف أُمطرهم رصاص". الآن، أصبحتُ متأكدة بعدما كنت أحاول تذكر الألحان التي بالكاد التقطها: إنّها إحدى مقاطع أغنية "أحلمُ بالشهادة". كانت الحافلة في ذلك الوقت تمرّ بنا بمحاذاة مخيّم الجلزون شمال رام الله، وعلى الجهة المقابلة تتوارى مستوطنة بيت إيل خلف جدارٍ أمنيّ بناه الاحتلال مؤخراً ورفعه عالياً بعد تكرار عمليات إطلاق النار تجاهها.

نزلتُ من الحافلة، إلا أنّ المسجّل ذاته - على ما يبدو - ما زال يرافقني مُقلِّباً من أغنيةٍ إلى أخرى، فها هو مقطعٌ آخر يأتي عبر سمّاعة عربة الذرة: "ضفّة عرين أسود واحنا رجالها". إنّها أغنية "ثورة عرين"، واحدة من أكثر الأغاني حماسيّةً، والتي أُنتجت هذا العام، ويبدو أيضاً أنّها أكثرها استماعاً. مقطع آخر من الأغنية ذاتها يأتي من سيّارة تعبر الطريق: "وكمين محكم على العدا يطبق طبق".

 لم أعُد بحاجة لسماعة الهاتف لتشغيل موسيقاي الخاصّة هروباً من ضجيج المدينة وأصوات الباعة، وأحاديث الناس. فبين الخطوة والأخرى أسمعُ أغنيةً مختلفةً من ذات الإنتاج الفنيّ الجديد الذي يرافق حالة المقاومة المتصاعدة في الضفّة الغربية مؤخراً، واندمجُ مجدّداً كفردٍ ضمن هذه الجموع. كلنا نسمع الأغاني ذاتها، نردّدها في أذهاننا ونتفاعل معها، نتذكر أسماء الشهداء وأفعالهم، ويُعاد شريط الذاكرة ليدور حول أبرز الوقائع وما دار في مناطق المواجهة والاشتباك.

اقرؤوا المزيد: "الأمواج التي لم تُكسر: ملامح الحالة النضاليّة في الضفّة الغربيّة".

خلال العامين الأخيرين، 2021-2022، صدرت عشرات الأغاني الفلسطينيّة التي احتكمت لحاجةٍ واحدةٍ؛ الحاجة الوطنية وما يراعيها، ويواكبها، ويوثّقها أيضاً. وكانت هذه الأغاني بمجملها إنتاجاً فنيّاً، في بعضه عفويّ وسريع، من أفراد وفرق داخل فلسطين المحتلة وخارجها.

لغرض هذا المقال، راجعتُ عينةً مكوّنةً من 46 أغنية أُنتجت معظمها عام 2022. لن أتوقف عند كل واحدةٍ منها، وإن ضربتُ بعض الأمثلة، وسأحاول خلال هذه السطور تقديم مراجعةٍ سريعة لملامحها، وقراءة عناصرها وتفاعلاتها. وذلك وعياً لكون هذه الأغنية وما تحمله واحدةً من أدوات بناء الذاكرة الجمعية.

طفلة فلسطينية تقف أمام لافتة تحمل رسماً للشهيد إبراهيم النابلسي، أحد مناضلي البلدة القديمة في نابلس. (جعفر اشتية/وكالة الصحافة الفرنسية).

الطريق مرسوماً بكلمات الأغاني

لا يمكن الاكتفاء بوصف الأغنية بالوطنية، بل ربما الأجدى اعتبارها بياناً ثورياً، خُطّ ثم لُحن ثم غُني. إذ كانت الأغاني في عام 2022 انعكاساً لما نُريد كتابته في التاريخ، كتابة رواية المنتصر، وإن لم نحقق انتصارنا بعد. كان الملمح الأساسي لهذه الأغاني أنّ معظمها أغانٍ حماسية تعيد سردَ الوقائع وتتغنّى ببطولات الشهداء وأفعالهم. ومن جهةٍ أخرى، فهي تحوّل الجغرافية إلى أحد عناصر المعركة الحيّة، إذ تمدحها باستمرار وترسم سياقاً تاريخياً مختصراً لنضالها.

 في البلدة القديمة في نابلس، لا تتوقف الأغاني. تصدح من سمّاعات عربات الذرة والقهوة، ومن المحال التجارية، ومن هواتف الفتية والشبان الجالسين في باب الساحة أو في ساحة الشهداء، أو هؤلاء الجالسين على أطراف الطريق. تجدها أصبحت جزءاً أساساً من تفاعل أهل البلدة القديمة الروتيني. 

خلال الخروج من بيت عزاء الشهيد محمد حرز الله في بلدة نابلس القديمة، مروراً بساحة الشهداء، علت أغنية "أقمار نابلس" من سمّاعة عربة القهوة المركونة هناك، بمقطعٍ يخاطب نابلس: "أبكي لأنك خير من يبكيهم". هي ذاتها كرّرتها رشا شقيقة الشهيد محمد حرز الله: "إذا ما بكيت على أبو حمدي.. على مين أبكي؟".

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

 

بين خطوةٍ وأخرى، تسمع أغنيةً جديدة في اتساقٍ مع وجع البلدة القديمة في نابلس وما شهدته هذا العام على وجه الخصوص، وما يشعر بها أهلها وزوارها. حتى احتفال المولد النبويّ الشريف لهذا العام، والذي تشتهر به بلدة نابلس القديمة، وتتمسك به كواحد من أبرز تقاليدها، فقد تسرّبت إليه تلك الأغاني، وأضفت عليه السمة السياسية، إذ تحوّل الاحتفال الدينيّ إلى تظاهرةٍ تُغني وتشيد بعرين الأسود، وبصمود حاراتها كحارة الياسمينة

عودةً إلى استكمال سيرنا وصولاً إلى باب الساحة، إحدى الساحات الفاعلة بالحركة الاجتماعية، حيث يتجمع الناس ليستريحوا أو لينتظروا بعضهم البعض، أو ربما لإكمال صحن كنافة من محل الأقصى الشهير. يواصل المسجّل ذاته ترديد الأغاني ذاتها تباعاً، مرّةً من عربات البيع، ومرّةً أُخرى من هواتف الجالسين على المقاعد. وكأنّ هناك اتفاقاً ما، ألا تسكت الأغنية. وبينما أُغادر المكان، علت أغنية "على الشهادة تبايعنا" بدعوتها التي تفتتح بها: "ثبّت يا رب الأقدام". تمتدح هذه الأغنية مقاومة مخيّم جنين وكتيبتها وتسرد قصص شهدائه. فهنا لن تسمع ما يخصّ البلدة القديمة فقط، وإنما كل أغنية تغذّي نفس المقاومة والبطولة في أي مكان. وكيف لا وهي تركب ذاكرة جمعية حول جغرافية فلسطين الكاملة سعى كل هذا الركب من الشهداء لاستعادتها.

اقرؤوا المزيد: ""لا تُطلقوا رصاصَكم في الهواء".. من هي كتيبة جنين؟"

الدعوة المستمرة للانخراط في حالة المقاومة هي ملمحٌ آخر من ملامح الأغنية، مثل الدعوة التي وجهها الأسير أيهم كممجي في أغنية "نشيد المرحلة" والتي كتبها من سجنه. فيما برزت اللغة التهديدية كما في أغنية "أوعى تقرب"، وأخرى أكدت الاستعداد المستمر للمواجهة والدعوة إليها، وهو ما تكرر في "حمم اللظى"، و"طلت الكتائب" اللتين كانتا جزءاً من مجموعة أغاني للفنان الأسير المحرر رمزي العك وفريق الثورة.

كما برزت في الأغاني الإشارةُ إلى السلاح الناريّ كأداةٍ أساسيةٍ في المقاومة، وهو انعكاسٌ تلقائي لبروزه في الاشتباكات مع جيش الاحتلال، وعمليات إطلاق النار المتكررة، والعمليات الفرديّة النوعية هذا العام. كما تكرّرت أوصاف السلاح وأسماؤه، وهو ما كان رائجاً في أغاني انتفاضة الأقصى. مثلاً، استُعيد مُسمّى "السمرا"، والمرتين، والبارود، وكيتسار، وأم 16، والعوزة، والكلاشن. ووُصف الشهداء: بالمُسلّح، والمشتبك. كما وصفت الأحداث بـ: المعركة، والملحمة، ويوم الوغى، ويوم النزال. ويأتي ذلك خلافاً لأغاني هبّة القدس 2015 التي ركّزت على التغني بالطعن، والذي كان سلاحاً أساساً فيها.

 سير الشهداء المحفوظة 

ما زال المسجّل يدور ويقلّب أغانيه. في إحدى الأزقة المزدحمة في البلدة القديمة يصل إلى الأذنين مقطعٌ من رثاء الشهيدين عبد الرحمن صبح ومحمد العزيزي، وما أن ينتهي حتى يبدأ آخر لابراهيم النابلسي، ثم ثالث لشهداء اقتحام حوش العطوط الخمسة.1في 25 تشرين الأول، ارتقى خمسة شهداء في نابلس خلال عملية اقتحام لجيش الاحتلال استهدفت الوصول إلى أحد قياديي عرين الأسود الشهيد وديع الحوح. إضافةً له استشهد كل من: مشعل البغدادي، وحمدي القيم، وعلي عنتر، وحمدي أشرف. هذه الأغاني جزء من سلسلة رثائيات وأغانٍ تغنّت بالشهداء، ومثلها أغانٍ للشهداء جميل العموري، وضياء حمارشة، وسيف أبو لبدة، وعبد الله أبو تين، والقائمة تطول. 

يعتبر الرثاء أحد أشكال الأغنية السياسية، ونكاد لا نجد شهيداً في الأعوام الأخيرة، وخاصّةً بعد هبّة القدس 2015، إلا وكُتب وغُنّي له رثاء خاص. إلا أنَّ ما يُميّز رثاء الشهداء عن غيره، أن سمته الغالبة حماسية، تدعو دائماً للثأر وسلوك درب الشهيد وتمجّد فعله، وتؤكد على قيمة الشهادة. 

والدة الشهيد جميل العموري تحمل صورته، خلال اعتصام عند دوار المنارة في رام الله للمطالبة بالإفراج عن جثامين الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال، تشرين الثاني 2022. (عصام الريماوي/ وكالة الأناضول).

 

وما يلاحظ أيضاً أنّ هذه الأغاني، تبدأ كلها بافتتاحية إهداء من دوائر الشهيد الاجتماعية، كأصدقائه ورفاقه بالأسر، أو أبناء حارته، فمثلاً، افتُتح رثاء شهداء حوش العطعوط بإهداءٍ من شباب شارع أبو عبيدة، أما رثاء الشهيد عبد الله الحصري فكان إهداءً من الأسيرين الشقيقين محمد ومازن الغزاوي، وهو ما تكرر في مرثيات عديدة، كما أُهدي الشهيد الحصري أغنية أخرى من "إخوانه ومحبيه في مدينة طولكرم". 

وقد أُهديت الكثير من الرثائيات والأغاني للشهيد الحصري، ما يشير لدوره وتأثيره على الشباب حوله الذين اتخذوه قدوة، ولوحظت صُورُه مُلصقةً على أسلحة المقاتلين بشكلٍ متكرر، ومن تلك الأغاني: عبد الله الحصري نادى، أسد مخيم جنين

فنٌ معاد تدويره، وفرق تنهض من جديد

تميّزت مجموعة من أغاني 2022 أنها حملت جزءاً من إرث أغاني انتفاضة الأقصى، مستعيدةً كلماتها وألحانها. كما استعادت قالب الأغنية الطويل الذي يمتد لنحو 6-7 دقائق، ويتكرر به مقطعٌ واحد أو اثنان تأكيداً على المعنى. وربما جاءت هذه الاستعارة من الأغاني السابقة في محاولة لسدّ ثغرة غياب بُنيةٍ فنيّةٍ تُنتج الجديد مستعينةً بأدوات موسيقية حديثة.

وعلى هذا النحو، جاءت أغنية "شيلو هذا الوطن" لفرقة الفن الإسلامي والتي تسرد أبرز أسماء الشهداء وأفعالهم، وهي استنساخ لأغنيتها القديمة "قولوا هي يالربع" والتي تذكر فيها أسماء عدد من الاستشهاديين وعملياتهم خلال انتفاضة الأقصى. كما استحضرت أغنية "شيعوا للكتائب" من إرث حركة "فتح"، في أغنية "رعد خازم".

اقرؤوا المزيد: "كيف مشينا الدرب؟ أغاني العاشقين من سجن عكا إلى دولة رام الله".

من ناحيةٍ ثانية، فإنّه في ظلّ كثافة الأحداث وتسارعها، استدعى الواجبُ الفرقَ الفنية وأحيا دورها، فعادت فرق لم تنتج فناً منذ سنوات، مثل فرقة العاشقين التي تأسست عام 1977 في مخيّم اليرموك، واشتبكت بأغانيها مع مراحل الثورة المختلفة، وتراجعت بتراجعها، عادت للنهوض بدماء جديدة، ولكن بالمحافظة على ذات الإرث من الغناء، وذات النسق من الرموز، فاستعادت جفرا والدلعونا متغنية بمجموعة "عرين الأسود"، وكررت مصطلحات أغانيها الثورية  القديمة: الفدائي، والمرتين، والثورة. وكذلك الأمر بالنسبة لفرقٍ أخرى انخفض إنتاجها مع انتهاء انتفاضة الأقصى وما تبعه من محاصرة للفصائل الإسلامية وفعلها في الضفة، مثل فرقة الفن الإسلامي. 

أما الإنتاج الحزبيّ، كما تعودنا عليه في انتفاضة الأقصى، فقد غاب بشكل كبير، وربما كان ذلك انعكاساً للتراجع الميداني للأحزاب أيضاً، والذي له ظروفه وأسبابه، في مقابل تقدّم مجموعات عسكريّة توصف بكونها عابرة للفصائل كـ"عرين الأسود"، وبالتزامن كذلك مع اتخاذ العمليات الفردية منحىً جديداً زاد من فعاليتها واستراتيجيتها. من جهةٍ أخرى، ما زالت الأغنية العربيّة في غيابٍ متواصل وممتد منذ انتفاضة الأقصى، نتيجةً للفصل الثقافي العربي، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية ومستجداتها، ولذلك أيضاً تفاصيله الكثيرة. 

طفل يرقب شباناً مسلّحين من "كتيبة بلاطة" يمرّون في إحدى أزقة مخيّم بلاطة في نابلس، تشرين الثاني 2022. (جعفر اشتية/ وكالة الصحافة الفرنسية). 

أعراس بنكهة ثورية 

توسّعت دائرة التأثر بالحالة النضالية لهذا العام لتطال أغاني الأعراس الشعبية، كالدحية، فأُنتجت من هذا الفن البدوي الفلسطينيّ أغانٍ تمتدح حالة المقاومة والمجموعات العسكرية والأحداث الأخيرة، فكانت دحية "عرين الأسود وكتيبة جنين ومخيم شعفاط" للفنان محمد البرغوثي والتي تكررت في حفلات عديدة، إحداها في بلدة سلوان بالقدس المحتلة. وأخرى تعرج على كل حالة مقاومة وجغرافية وتعلق عليها تباعاً، مثل أغنية "اضرب على البارود". وتعتبر أغنية "يما عرين الأسود قاموا بعملية" واحدة من الأغاني الشعبية الحماسية الأكثر تردداً وانتشاراً في الحفلات أيضاً، كما تُسمع كثيراً من مسجلات المركبات.

لا تسكت الأغنية أبداً، هي الأغنية ذاتها في الفرح والحزن. المسجّل ذاته ما زال يدور، هذه المرة يتوسط جامعة بيرزيت وحوله مئات الطلبة ينتظرون تشييع زملائهم الشهيدين الشقيقين جواد وظافر الريماوي في 29 تشرين الثاني 2022. الآن، نسمع المسجل يكررها ويعيدها مرة ومرتين: "يا صاحبي معك عالموت"، وكأنها رسالة خاصة لكل من يقف هنا، تتبعها "شفتو البطل" وكأنها كُتبت وغُنت الآن للشهيدين. ويتدفق بعدها سيل من الأغاني الحماسية الجديدة التي يسمعها كل هذا الجيل. هو امتداد لدور هذه الأغنية وأثرها الممتد، لصوتها العالي، ولكثافة ما تحمله من مشاعر، من ناحية، ومن رواية وتاريخ من ناحية أخرى.