27 يناير 2022

"الرجاء عدم الإزعاج".. أهذا ما يُخبرنا به مُستخدمو السمّاعات؟

"الرجاء عدم الإزعاج".. أهذا ما يُخبرنا به مُستخدمو السمّاعات؟

ليس من الصعب في هذه الأيّام أنْ يبني أحدُنا عالمَه الخاصّ بعيداً عن الآخرين، وردود فعلهم غير المُتوقّعة. ثمّة طُرقٌ لذلك، منها أن تضع زوجاً من السماعات في كلتا أذنيْك، وتُشغّل الموسيقى في أيّ زمان كنتَ وأيّ مكان، حتّى تصبح بالنسبة للآخرين كما لو أنّك تحمل لافتة تقول: "أرجو عدم الإزعاج". 

لم يعد مشهدُ "ارتداءِ" أحدهم لسمّاعات أذن أمراً مُستغرباً، فكثيرون ممّن ينتمون إلى جيل الألفيَّة- تحديداً- يستخدمونها وهم يقومون بأنشطتهم الاعتياديّة: الذهاب إلى العمل، أو ممارسة الرياضة، في الشارع وفي البيت، أثناء أوقاتِ الفراغ وأثناء العمل. ومع كلّ هاتف ذكي جديد، تدعو الشركة المُصنّعة للهاتف زبائنها لاقتناءِ سمّاعة الأذن. وإن ضاعت السمّاعة أو تلفت، فلا ضير في ذلك، المحال مليئة بإكسسوارات الهواتف وبإمكانك شراء واحدة.

تستعرض دراسة أميركيّة، أُجريت عام 2014 على أميركيين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً، أنّ 53% منهم يملكون ثلاث سمّاعات أو أكثر، ويستخدمون السمّاعات ما يُقارب أربع ساعات يوميّاً. إضافة إلى ذلك، أقرّ 73% منهم أنّه استخدمها مرّة على الأقل لتجنّب التفاعل الاجتماعي مع الناس.

ما فعلته سمّاعات الأذن وسمّاعات الرأس1سمّاعات الرأس Headphones تغطي الأذن كلّها، مقارنة بسمّاعات الأذن التي تشبه السدادات القطنيَّة وتوضع داخل تجويف الأذن. هو أنّها جمعت بين التقنيّات الموسيقيّة المُختلفة. يفسّر الصحفيّ الأميركي ديريك تومسون ذلك، فيقول: "كان للقرن العشرين عدد من التقنيات الموسيقيّة. الراديو جعل الموسيقى قابلة للنقل، والسيارات جعلت الموسيقى متنقلة، وجعلت مكبرات الصوت الموسيقى كبيرة، وشرائح السيليكون جعلت الموسيقى صغيرة. لكن قد تُمثّل سمّاعات الرأس أهم نقطة انعطاف في تاريخ الموسيقى". هي نُقطة انعطافٍ ليس على المستوى التقنيّ فحسب، بل الأهمّ ما فعلته على المستوى الثقافي والاجتماعي، إذ أعادت تعريف الموسيقى، وقدّمت دوراً مُختلفاً لوظيفتها، وما ترتّب على ذلك من تغيير لفهم الناس للموسيقى؛ كيف تُسمع؟ ولأيّ غايات؟ وفي أيّ مكان وأيّ وقت؟

تاريخ إعداد الطبخة

من مدينة سولت ليك Salt Lake في ولاية يوتا الأميركيّة، وتحديداً من مطبخِ رجلٍ يُدعى ناثانيال بالدوين Nathaniel Baldwin، طُوّرت أوّل سمّاعة رأس بإمكانها تكبير الصوت. عام 1910، أرسل بالدوين رسالة إلى القوّات البحريّة الأميركيّة يبشّرهم باختراع أولّ جهاز يُمكّنهم من استقبال الصوت دون كهرباء، ومُتّصل مباشرةً بالأذن. كانت سمّاعات الرأس الطريقة الوحيدة لتكبير صوت الراديو في حينها، لذلك لاقت إعجاب القوات البحريّة الأميركيّة، والتي باشرت بشراء عشرات السمّاعات لموظفي البحريّة الذين يقتضي عملهم الاستماع عبر الراديو.

لم تبقَ طبخة بالدوين المُميّزة حبيسة الشؤون العسكريّة. فبعد أن اختُرعت مُكبّرات الصوت عام 1920، بدا أنّ سمّاعات الرأس في طريقها إلى التلاشي. لكنّ مُكبرات الصوت في جهاز التلفاز، وخاصة في ذروة انتشاره عام 1960 في أوروبا وأميركا، دفعت الناس لاستخدام السمّاعات، تفادياً للصوت المُرتفع في المنازل. واستخدمت شرائحُ واسعة سمّاعات الرأس في ثمانينيّات القرن الماضي من الكبار، و ممّن هم في منتصف الثلاثينيّات، تجنباً للموسيقى الصاخبة التي كان يشغّلها الشباب والمراهقون على مُكبّرات الصوت في الأماكن العامة. 

لاحقاً، وتحديداً عام 1979، ظهر إلى العلن الصديقُ الوفيّ للسمّاعات؛ أوّل مُشغّل شخصيّ للوسائط المحمولة يُسمّى Walkman. هو جهازٌ لتشغيل الكاسيتات، ولا يعمل إلا عبر السمّاعات، فليس فيه مُكبّر للصوت. شكّل مُنتج شركة Sony صرعةً حقيقيّة، لدرجة أنّ الاسم الذي أطلقته على مُنتجها لم يعد يخصّها وحدها، وبات ملكاً للجميع، ويُطلَق على أجهزةٍ مشابهة، حتى ولو لم تكن من إنتاج Sony نفسها.

تصوير: كيفن إيلست

مكّن جهاز Walkman الناس من اختيار قوائم تشغيل للموسيقى التي يودّون الاستماع لها حقّاً، في الزمان والمكان الذي يُريدونه، لا الموسيقى التي يُجبرهم الراديو على الاستماع لها في وقت ومكان محدّد، ناهيك عن الإعلانات التجاريّة التي تقطع الموسيقى بين الحين والآخر. لأجل هذه الميزة بالذات، باعت الشركة 200 مليون جهاز لزبائنها، ومعظمهم من المراهقين، قبل أن تتوقف عن الإنتاج عام 2010، ويصبح السوق شديد المنافسة مع وجود منتج iPod التابع لشركة Apple.

تطوّرت السمّاعات وتعدّدت أشكالها وأنواعها، بين سمّاعات رأس كبيرة وبين سمّاعات لاسلكيّة صغيرة. تطوّر كذلك جهاز الـWalkman، ومرّ في عدّة تحوّلات، كاعتماده على الأقراص المضغوطة (CD)، ولاحقاً على ذاكرة فلاش. لكنّ تطوره الأهم هو حين صارت وظيفته جزءاً من الهاتف الذكي المتصل بالإنترنت. تستطيع في أيّ وقت وفي أيّ مكان أن تسمع من الموسيقى ما تريد حتّى دون أن تخزّنها على هاتفك، فقط من خلال مُشغّلات الموسيقى عبر الإنترنت، مثل: ساوند كلاود SoundCloud، وسبوتيفاي Spotify. 

تعويذة!

عند تصنيع النسخة الأولى من Walkman، جعل المصممون مدخلين اثنين فيه لسمّاعات الرأس من أجل السماع المُشترك، لأنّه بدا لرئيس الشركة المُصنّعة في حينه أنّ من الوقاحة أن يستمع أحدهم لموسيقاه وحده، دون مشاركة الآخرين. لكنّ ميّزة التشارك مع شخصٍ آخر لم تستمر مع الإصدارات اللاحقة من الجهاز. فضّل المستخدمون، على ما يبدو، الاستماع إلى موسيقاهم باستقلاليّة. إنّها "استقلاليّة الذات التي تمشي" كما يصفها البروفيسور شوهي هوسوكاوا Shuhei Hosokawa في مقالٍ له بعنوان "تأثير الـوُوكمان" نُشر على مجلّة Popular Music.

واكمن

لقد أثّرت السمّاعات ومعها Walkman على فكرة الموسيقى الجماعيّة، فبعد أن كانت الموسيقى وسيلة للتواصل الاجتماعي بين الناس، يتشاركونها في الحفلات والأعراس أو من خلال سماعها عبر الراديو، باتت الموسيقى اليوم أكثر خصوصيّة حتّى في الفضاء العام. 

تبدو السمّاعات إعلاناً عن عدم الرغبة وانعدام الفضول بالتواصل مع المُحيط والاحتكاك مع الناس، وتُمكّن مُستخدميها من التحكّم في بيئتهم التي يريدون. نرى ذلك في طبيعة الأماكن التي تُستخدم فيها؛ في المنزل، في المواصلات العامّة، في الجامعة، في السوق؛ أي في الأماكن التي من المفترض أن تكون ذا طابعٍ اجتماعيّ تفاعليّ مع الأفراد. 

عن ذلك، يتحدّث ميشيل بول Michael Bull، محاضر الإعلام والثقافة في جامعة ساسكس University of Sussex في المملكة المتحدة، والخبير في التأثير الاجتماعي لأجهزة الاستيريو، فيقول: "تخبرهم سدادات الأذن أنك منهمك.. إنّها استراتيجية حضريَّة رائعة للتحكم في التفاعل مع الناس". بالنسبة لبول، باتت الموسيقى شخصيّة جداً، فحين يكون الناس وحدهم مع سمّاعاتهم، يستمعون إلى موسيقى مختلفة عن تلك التي يسمعونها مع الآخرين؛ بإمكان الشخص الاستماع إلى أغنية "راب" في البيت دون أن يُبدي أحدٌ من الأهل امتعاضه الشديد من هذا "الفن الهابط"، كما قد يصفونه. 

أمّا عن الأماكن التي يلجأ فيها الناس إلى سمّاعاتهم وموسيقاهم الخاصّة بهم، يُشير بول إلى أنّ كثيراً من الناس لا تُحبّ أن تكون وحدها مع أفكارها، والموسيقى تُجنّبها ذلك. كما لا يحبُّ الكثيرون المكان الذي يذهبون إليه خلال اليوم، فاستخدام السمّاعات هذا بمثابة تأخير للتفكير بمكان العمل- مثلاً- حتّى اللحظة الأخيرة. يقول: "لا يخلع الناس سدادات أذنهم حتى اللّحظة الأخيرة، حتى يدخلون الباب في مكانِ العمل".

لتحصين أنفسهم، يستخدم الناس الوسيلة الأقوى بالنسبة لبول، وهي الموسيقى. إنّها تُشكّل رواية جديدة حول ما يحدث، فما يفعله مُرتدو السمّاعات هو أنّهم يُديرون تجربتهم بالطريقة التي يُحبّون، فيتحكّمون بالفكرِ والمزاج والحركة. إحدى الشواهد على ذلك، هي ملاحظته أنّ الناس تُكرّر الموسيقى التي تسمعها بشكلٍ خاص لما يُقارب الثلاثة أشهر.

عالمٌ من لحن

هناك لائحة طويلة تحتوي على 40 حيلة لزيادة الإنتاجيّة في العمل، من ضمنها ارتداء سمّاعات دون الاستماع للموسيقى، حتّى يُعطي ذلك انطباعاً أمام الآخرين بأنّك مُنغمسٌ في عالمك. وما يُغذّي ذلك من شعور بالراحة النفسيّة، وبسيطرة الفرد على مساحته الخاصة، والتحكم بجوّانيته الثمينة وعزلها عن الأصوات من حوله، كثرثرة الزملاء في المكتب، وأصوات السيّارات والباعة والسائقين والأم في المنزل. 

يخلق مُستخدم السمّاعات هالة مُعيّنة حول نفسه، توحي بتحكّمه وإغلاقه على عالمه الخاص. قد تتركُ في نفوس الآخرين، مشيراً إلى أنّ مرتديها ليس من السهل اقتحام عالمه، وليس من السهل كذلك معرفة هويّته، لأنّه لا يُشارك الآخرين أحاديثهم، وبالتالي لا يشاركهم شخصيّته، ولا يُشاركهم تفضيلاته الموسيقيّة. 

ربّما تكون سمّاعة الأذن أداة انفصال للفرد عن مُجتمعه، أيّاً كان شكل هذا المُجتمع، ولكنّه خلال انفصاله هذا يُجري اتصالاً افتراضيّاً مع مُجتمع مستخدمي السمّاعات لسماع الموسيقى. ستكون عند هؤلاء- الذين لا يعرفون بعضهم البعض- صفات وتجارب مشتركة أكثر مما يتخيّلون.

أن ترتدي السمّاعات يعني أن تُصبح جزءاً من واقع يختلف عن ذلك الذي دونَها. أمّا بالنسبة للأخير، فواقعٌ ينتمي إلى صوت المدينة؛ أصوات الباعة المُتجوّلين، الضجة الصادرة من ازدحام مرورٍ مُفاجئ. فيما ينتمي واقع السمّاعات إلى عالم الموسيقى والأغاني، تبنيه من اللحن والكلمات لتسكن فيه. تكون الأذن فيه مشغولة بالصوت الصادر من السمّاعات، والعين ترى المارّة في الشارع كما لو أنّهم جزء من عمل سينمائي. 



18 مايو 2019
النكبة في المعجم الاجتماعي

ما الذي تعنيه النكبة لنا اليوم؟ ولماذا نؤرّخ للقضيّة الفلسطينيّة منها؟ وما هي السياسات التي مورست على فعل التذكر؟ وكيف…