2 أغسطس 2020

مسرحُ المُضطَهدين.. اقتحامُ الجمهورِ للمنصَّة

مسرحُ المُضطَهدين.. اقتحامُ الجمهورِ للمنصَّة

مقدّمة

مسرح المضطَهَدين هو شكلٌ مسرحيّ وضعَ أدبيّاتِه المسرحيُّ البرازيليّ أوغستو بوال. يعبّر مسرح المضطَهَدين عن الصّراعات التي يخوضها المقهورون في العالم، عبر تحويل الجمهور، أو المتفرّجين، إلى فاعلين وأبطال، فهم لا يتفرّجون فقط، بل يقتحمون منصَّة المسرح لتغيير الأحداث. يبتغي هذا الشكلُ المسرحيّ أنْ تتحوّل هذه البروفات المسرحيَّة إلى مصدرٍ لاستلهام أعمال المقاومة في الواقع.
في هذا المقال المُترجم، يناقش الكاتب أندرو روبنسون أدبيّات "مسرح المُضطَهَدين"، وأساليبه الأساسيَّة ومضامينه. نُشر المقال في المجلّة الدوريَّة "Ceasefire"، وترجمه إلى العربيَّة حمزة بن جعفر.

-----------

إنّ مسرح المنتدى Forum Theater هو أشهر أشكال مسرح المضطهَدين وأوسعها انتشاراً، حتّى أنَّ اسميْهما غالباً ما يختلطان. يقومُ هذا النمط المسرحيّ- مسرح المنتدى- على تقديم مشهدٍ تُؤدَّى أحداثُه من البداية حتى النهاية على النحو المعتاد. بعد ذلك، يُعادُ تمثيلُ المشهد من البداية، على أن يكون للمتفرجين الحقُّ بمقاطعة مجريات المشهد من خلال الهتاف بكلمة "قف"، ليستأنفَ أحدُهم الدورَ مكانَ مُمثلٍ معين.

عادةً ما يكون المشهدُ المستوحى نموذجاً عاماً لشكلٍ من أشكال الاضطهاد، مثلاً: عمال مضربون في مواجهة مديرهم أو مقابل ضباط شرطة، أو مشرف عنصريّ على أحد المسابح وهو يطالب أفراد أسرة سود بعرض وثائقهم، أو أبٌ سلطويّ يطرد ابنتَه من البيت بسبب حملها، إلى غير ذلك من الأمثلة. يتقمصُ المتفرجون-الممثلون (Spect-actors)، أي أولئك الذين يأخذون أدوارَ الممثلين، يتقمصون دور المضطهَد ليشرَعوا في تجريب ردودٍ بديلةٍ على وضعية الاضطهاد.1Spect-actors: الدور الثنائيّ الذي يضطلع به المتلقي في مسرح المنتدى، والذي لا يقتصر فقط على المشاهدة السلبية للمتفرّج، بل يتعداه إلى المشاركة الفعليّة كممثل مؤدٍ. أيْ أن ينتقل المتلقي من طور مستهلك الفرجة إلى صانع الفرجة. 

لنفترض، على سبيل المثال، أنّ المشكل المطروح هو الاستغلال في أحد المعامل. يمكن لأفراد من الجمهور أن يختبروا بعض ردود الأفعال الممكنة، مثل الاستقالة، أو الإضراب عن العمل، أو التفاوض مع ربّ العمل، أو تفجير المعمل، وتعطيل آلاته، أو تبنّي استراتيجية تخفّض من مستوى الإنتاج، وما إلى ذلك من خيارات مطروحة، فليس ثمة سقف نهائيّ لما قد تتمخض عنه مخيلة الجمهور من ردودِ أفعالٍ مُحتملة.

حين تُنفَّذ ردود الأفعال على وضعية القهر المعروضة تبرزُ غالباً بعض التبعات أو الصعاب غير المقصودة. لذلك فإنّ العرض المسرحيّ يضعُ ردودَ أفعال الجمهور، وما تُفضي إليه من تبعات ونتائج، على محك الاختبار. إذا أقدم العمالُ على تفجير المعمل، فإنّ ذلك سيتركهم عرضةً للبطالة، وإذا اختاروا التوحد في منظمات نقابيّة، فإنّ عليهم الاستعداد لمواجهة أرباب العمل، فيتعامل الممثلون مع تلك التبعات الناتجة. من الوارد أيضاً أن تظهر ردود أفعال بديلة، لم تكن في حسبان المسيّرين، لكن يظلّ الهدف هو تجريب مختلف المسارات، لا عرض المسار الصحيح الأوحد.

بعد نجاح تكتيك أو مقاربة معيّنيْن، يكون على متفرجين-ممثّلين آخرين أخذ دور المضطهِد، لإعادة فرض الاضطهاد. يخلق ذلك وضعاً ديناميكياً مفتوحاً على التجريب والتفاعل، فيكشف هذا النهجُ المتبع ترسانةَ التكتيكات المتاحة في متناول كل من المضطهِدين ومضطهَديهم، وتكون إذاك الممارسةُ المسرحيّةُ بمثابة بروفة على مناهضة الاضطهاد في الحياة اليوميّة.  يتم مبدئياً إزالة آثار التطهير (catharsis)، بشكل كلّي، حتى لا يكون العرض ثورةً بالوكالة، تُغني عن الثورة الحقيقية، بل توفر هذه البروفات المسرحيّة مصدراً لاستلهام أعمال مقاومة على أرض الواقع.2التطهير هو استعارة لأرسطو، لوصف آثار المأساة على المتفرّج، إذ تستثار مشاعر الخوف والشفقة لدى الجمهور بعد تتبع المسار المأساوي للبطل، ليتحرر المتفرج من مشاعره السلبية الدفينة من خلال المشاهدة فقط، دون تجريب الأمر واقعياً.

إنّ مبتغى كلّ أشكال مسرح المضطهدين هو تحويل المتفرّجين إلى فاعلين وأبطال، عبر نقلهم من وضعية الفرجة إلى وضعية تحفِّزُهم على المشاركة الفاعلة، فتَبتغي هذه العملية استثارة الجماهير من أجل تغيير مجتمعاتهم، لا التسليم بالوضع القائم.

بِلُغة أوغستو بوال، إنّ الهدف هو تشجيع النشاط المستقل، والإبداع التحويليّ، وتغيير الذات باستمرار لتكون ذاتاً فاعلة، وحينئذ يخلق مسرحُ المضطهدين صيرورةً لا متناهية تتوسع باستمرار، ليبلغ أثرها حيوات المشاركين وأنماطَ عيشهم، ولتوفّر لهم مصدراً للفاعليّة الذاتية.

التدخل هو المطلوب

بينما يقوم المسرحُ الكلاسيكي على قاعدة عدم تدخل الجمهور، يقترح مسرح بوال مبدأيْ التدخل والاقتحام. يعني ذلك أنّه عِوضاً عن الموقع الكلاسيكي للتطهير(catharsis)، يجد المتفرجون أنفسَهم في غمار عمليةٍ تفاعليّةٍ تجعلهم ينظرون إلى أنفسهم كممثلين محتملين، يحقّ لهم اقتحام المشهد حتى لو لم يُقدِموا على الأمر. لا يكفي تجنّب عنصر التطهير، بل لا بدّ من توافر عملية التفاعل الديناميكيّ حتى تُتاحَ للجماهير مواجهةُ الظلم والقهر. بالنسبة لبوال، يجب أن يكون المسرح ديناميكياً، وأن يحفّزالجماهير على العمل والإقدام على الفعل في الحياة الواقعيّة، أيْ أنّ على المسرح الاضطلاع بمهمة خلق وعيٍ ذاتيٍّ لدى الناس، يجعلهم أكثر إدراكاً لما في مقدورهم من إمكانات.

يمكن لكلّ شخصٍ أن يغدو بطلَ المسرحيّة، فلا يُسلّم المتفرج زمامَ الأمور للمُمثل، ولو أنّ بعض الأفراد قد يُفضِّلون عدم اقتحام منصة المسرح، إلا أنّ قرارهم بالامتناع يشكّل في حدّ ذاته نوعاً من الفعل و التمثيل.3تُستعمل كلمة "منصة" هنا تجاوزاً بحيث لا يستلزم مسرح المضطهدين خشبة أو منصة، فقد يتخذ حيزاً في الفضاء العام مثلاً.

اقرأ/ي أيضاً: "موسيقى للتمرّد على إيقاعات السّلطة"

من تقاليد مسرح المضطهدين تحفيز المتفرجين على اقتحام منصة المسرح، بحيث لا تُتاح للممثلين فرصةُ احتكار الحديث عبر المونولوجات، ما يؤدي إلى تقويض الجدار الفاصل بين المُمثل والمتفرج، كما في العديد من أشكال مسرح المضطهدين، كمسرح المنتدى والمسرح اللامرئي. وقد كانت الأشكال السابقة من هذا الشكل المسرحيّ تُشرِك المتفرجين في كتابة السيناريوهات للممثلين على الفور، ثمّ تُعيد صياغة المشاهد.

يصف بوال هذه المقاربة بعملية تمكين الجماهير من وسائل الإنتاج الفني، فمسرح المضطهدين، على النقيض من المسرح البرجوازي، ليس مسرحاً ناجزاً- منتهياً- بل هو عملٌ مفتوحٌ على إمكانات التحول والتغير. من هذا المنطلق، يمثل هذا الشكل المسرحيّ نموذجاً تبرز من خلاله ملامحُ العالم الذي يرتجيه بوال في تنظيره لدور الجماليات؛ العالم الذي تصاغ فيه الإنسانية والحياة في صيرورة فسيحة الأفق.

يفضّل بوال اقتحام "خشبة المسرح"  لأنّ في ذلك نوعاً من مقاومة الاغتراب، ويعني بالاغتراب، في هذا السياق، الانحدار إلى مرتبة أدنى من الإنسان المكتمل. يحكم المتفرج التقليديّ على نفسه بالاغتراب بتفريطه بقوام إنسانيته، عندما يفوّض سلطة الفعل والممارسة لأفراد آخرين. لذلك، فإنّ مسرح المضطهدين يؤنسنُ المتفرجين من خلال العمل على بعث قدراتهم على الفعل في مستوياتها القصوى. بهذا ينتشلُ المتفرجَ من اغترابه حتى يكون على قدم المساواة مع الممثل، بدلاً من استسلامه، كمتلقٍ سلبيّ، لرؤية قهريّة ناجزة.

إنّ مسعى بوال في مقاربته ليس تقويض الفضاء المسرحيّ، وإنما دمقرطته. يتأتى ذلك في مسرح المضطهدين عبر خلق حوارٍ تفاعليّ بين المتفرج والممثل بدلاً من الاسترسال في المونولوجات. ويظلُّ دور المتفرجين فائقَ الأهمية في خلق فضاءٍ جماليٍّ للمشاهدة، وينشأ هذا الفضاء عندما تتوجه أنظار الآخرين نحو زاوية واحدة محددة، لتتركز أكثر كلما اتسعت رقعة المشاهدين. حيز المشاهدة هذا هو هدف مرغوب لا ينبغي تجاهله وهو ما يحقق سلطة الإمتاع، إضافةً إلى أنّه يصير بمثابة حيزٍ منفصلٍ تم اقتحامه.

من الفرديّ إلى الجمعيّ

مواجهة الاضطهاد هو ما يصبو إليه مسرح المضطهدين، كما هو واضح من اسمه، ويجب أن يستقر في الوعي أنّ الاضطهاد فرديٌّ وعامٌّ معاً. يتصدى مسرحُ المضطهدين للمشاكل التي يُعرِض الجمهور عن تقديمها علناً، باعتبارها مشاكل فرديّة، ففي صميم اشتغال هذا الشكل المسرحيّ أن يُبيّن أنّ تلك المشاكل تتعدى النطاق الشخصيّ إلى مستوى جمعيّ في واقع الأمر، أي أنّها آثارٌ اجتماعيّةٌ لمشاكل تواجه أناساً آخرين أيضاً، وهكذا يتوجه مسرح المضطهدين في مقاربته من الفرديّ نحو الجمعيّ وليس العكس.

إنّ مقاصد هذا النهج هي تجاوز المشاكل العينية إلى مسبباتها الاجتماعيّة، ثمّ تناول هذه المسببات ومعالجتها، فتوضع المشاكلُ الفرديّة ضمن سياقها الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ الأوسع. تحملُ هذه المقاربات والتمايزات النظريّة نفسَ سمات المناهجِ التثقيفيّة الشعبيّة التي راجت في سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مثل الحركات التثقيفيّة النسويّة، والبحث العلمي الملتزم، وتعليم المقهورين، والذي نظّر له باولو فريري.

كانت أشكالُ الاضطهاد في السابق جليةً واضحة، وكان  بوال في أعماله السّابقة يقارعُ أنظمةَ استبدادٍ يقودها مضطهِدون مرئيون، مثل الأنظمة العسكريّة الديكتاتوريّة أو أصحاب الأملاك الإقطاعيّة الكبرى، أو أماكن العمل السلطويّة. المشترك في هذه الوضعيات هو وجود مضطهِد خارجيّ يسهل التعرفُ عليه، لأنه يلجأ للعنف والقهر من أجل إحكام السّيطرة على أناسٍ آخرين. فيما بعد، غدت مقاربةُ بوال المسرحيّة تُوَسِّعُ من رقعة اشتغالها لكي تعالجَ وضعياتٍ أكثرَ تعقيداً مثل العلاقات الجندريّة والعائليّة. ويرى بوال أنّ إمكانية تحقيق التوافق والمصالحة ممكنةٌ في هذه الحالات، وأنّ الاضطهاد فيها ليس أحادي المصدر فيما يظهر.

من جانبٍ آخر، يرى بوال أنّ إحدى مرتكزات مسرح المضطهدين هي ربط المجموعات المتفرقة التي تتعرض لصنوف مختلفة من الاضطهاد، ذلك أن القوّة على التغيير تتعاظم عندما تطلع هذه المجموعات فيما بينها على ما تواجهه من صنوف اضطهاد شتّى، وتتضامن بشكل تشاركيّ، فإنّ مناهضة أيّ شكل من الاضطهاد لا ينفك عن مواجهة أشكال الاضطهاد جميعها، حسب بوال.

التحرّر من الطقوس 

صُمِمَت العديد من تقنيات بوال بهدف إلغاء التطبيع مع عاداتٍ وطقوسٍ تبدو عادية، فالطقس برأيه مصدرٌ للاضطهاد. إنّ الطقوس هي ما يقومُ به النّاس دون تفكيرٍ أو شغفٍ ودون أن تتعلقَ به قلوبُهم، فيواظب الناسُ على تأدية طقوسٍ عديدة دون وعي منهم بحقيقتها، لذلك يجب أن يُزَال اللثام عنها قبل وضعها محل مساءلة.

تشتمل الطقوس على أشياء كالصراع، ومواقف الصداقة، وأشكال مألوفة من التعبير عن السلطة. ومن الطقوس التي يُمكن ذكرها على سبيل المثال: تسجيل وقت الوصول إلى العمل، والجلوس في الفصل الدراسيّ، ورفع التحية لضابطٍ رفيع الرتبة، وحتى أشياء من قبيل ارتياد الحانات مساءَ كلِّ سبت، ومطالعة الجرائد كلّ صباح، والاحتجاج على نحوٍ مُعيّن دائماً، وتمكّن بعض التقنيات الجماهير من رؤية الطقوس كما هي في واقع الأمر. ولا ينبغي الارتياب من جميع الطقوس كما لو أنها سيئة جميعها، ولكن من الضروريّ رؤيتها ثمّ مساءلتها.

تتخذُ العديد من الطقوس شكل أدوارٍ اجتماعيّة، فحينما نؤدي دوراً اجتماعيّاً ما، فإننا نقوم بوضع قناعٍ معين بغية تخفيف أثرِ العلاقات وسطوتها. ليس ذلك قناعاً بالمعنى الحرفيّ، ولكنه بمنزلة تلبّس لشخصيةٍ أو ذاتٍ اجتماعيّةٍ في سياقٍ معين، وتكفي إزالةُ القناع أو تعديله لِنَسفِ الطقس كليّاً. يتصرف أغلبُنا وفق الأقنعة التي يضعونها، وهوما يُقيّد إمكانات التعبير عن أنفسنا، وبما أنّ هذه القيود لامرئية، فإنّ للمسرح القدرة على كشفها.

لا يتمّ في الغالب أداء الطقوس في شكلها الأصلي، بل على نحو ترميزيّ أو سريالي. على سبيل المثال، يمكن لأحدهم أن يعبّر مسرحياً عن معارضته للتعبئة العمالية، في مقرّ عمله، من خلال وضعه كيساً فوق رأسه أو وضع أصابعه في أذنيه.

ويشكّل الخوف مصدراً آخر من مصادر الاضطهاد، التي تضمن استمراره بسبب سطوة الخوف على ضحاياه. يعتقد بوال أنّ الاضطهاد لم يكن ليكون ممكناً لو أنّنا لم نؤثِر الحياةَ على الحريّة، ونتعرض للاضطهاد لأننا نرضخ لتقديم التنازلات حتى نستمتع بالحياة لأطول وقتٍ ممكن.

إنّ من يستطيع التغلب على خوفه، يُمكن أن يُقتل، ولكنّه لا يُمكن أن يُضطَهد. إنّ فائقي الشجاعة لا يصيبهم الخوف حتى لو وقعوا في يد أعدائهم. في حين أننا، لداعي الخوف، كثيراً ما نقبل العيش في ظلّ ظروف لا تطاق، لأنّ الخوف يخلق شكلاً عاماً من المراقبة الحذرة، التي تتكفل بضبط أنماط عيشنا.