6 أكتوبر 2020

فيوض وفيضانات.. ماذا سنفعل بكلّ هذه الترجمات؟

فيوض وفيضانات.. ماذا سنفعل بكلّ هذه الترجمات؟

تعالوا لنجتمع في حديقة الترجمة، حيث يستضيفُ الغريبُ الغريبَ، وتلتقي الثقافات، ويتحاور الخصوم، وتذوب الحدود المرسومة بالحديد والدماء. كثيراً ما يُحتفى بالترجمة بهذه الصورة المُفرطة في تفاؤلها وسذاجتها. هذا المقال يحاول التفكير في الترجمة بوصفها ساحة حرب من نوع آخر.

كلّ يوم، تطالعنا دور النشر بجديد الترجمات. تدفّق هادر وسريع للروايات الأجنبية وكتب تطوير الذات، ثمّ كتب العلوم الاجتماعية والإنسانية والفلسفة، وأخيراً العلوم الطبيعية. تتزاحم رفوف الكتاب المترجم، وتتراجع مبيعات الكتاب العربيّ وتتراجع جودته. أراقب صور المكتبات التي ينشرها القرّاء على تويتر: صفوف متصاعدة من الكتب المترجمة. أسأل أصدقائي عن آخر قراءاتهم فيتأكّد عندي الانطباع بأنّ جلّ قراءاتنا الحديثة هي ترجمات.

لن تساعدنا الأرقام في فهم هذه الظاهرة، فهي وإن كانت تؤكّد أنّ معدّلات الترجمة قد تصاعدت في السنوات الخمسة الأخيرة تصاعداً شبه أسّي، إلا أنّ الإحصاءات ما تزال تعاتبنا على أنّ ما نترجمه سنوياً لا يساوي ما تترجمه دولة صغيرة كاليونان، وأنّ ما ترجمناه طوال تاريخنا يعادل ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة. يتكئ دعاة "الانفتاح الثقافي" على هذه الأرقام لتوصيتنا بمزيد من الترجمة والترجمة، لعلّنا نلحق بالآخرين.

ولكنّ هذه الإحصاءات تغفل عن جملة من المقارنات الكمّية والنوعية الضروريّة لفهم موقع الترجمة من الإنتاج الثقافي بالعموم. على سبيل المثال، مقارنة نسبة الكتب المترجمة إلى الكتب الصادرة بالعربيّة، جاذبية الكتاب المترجم مقارنةً بالعربي عند القارئ الهاوي والمحترف. وإذا كنّا نتحدّث عن الترجمة كمزاج ثقافي لا كوسيط لغوي فقط، فإنّ لنا أن نضيف أنّ كثيراً من الكتب العربية ما هي إلا ترجمات من الدرجة الثانية، أي إنّها شارحة ومفسّرة لإنتاج الآخرين بلا تعقيب عليه.

توفّي مؤخراً أستاذ الإبستمولوجيا المغربي محمد الوقيدي. رثاه أحد أساتذة الفلسفة بالقول: "كان أوّل من قدّم للعربيّة أفكار غاستون باشلار". باغتتني حسرةٌ بيضاء، فبقدر ما أحبّ باشلار، بقدر ما هو مرير أن يكون نتاج عُمر المتفلسف العربيّ هو تعريفنا بغيرِه.

لنعد إلى استعارة حديقة الترجمة المفتوحة ولنسأل: لماذا تحظى الإنجليزية والفرنسيّة واللغات الأوروبية الأخرى بحصّة 90% مما نُترجم؟ لماذا لا نلتقي مع الهنود والأفارقة والصينيين في هذه الحديقة؟ لماذا لا نلتقي مع من يشبهوننا في وضعيتهم العالم ثالثيّة، أو في وضعيّة ثقافتهم التي تتعرّض للاستلاب والمحو جَرّاء هيمنة الثقافة المعولمة؟

ولنسأل أيضاً، هل سنبيت في هذه الحديقة، أم أنّ هذا اللقاء لا بدّ أن ينتهي، في لحظة ما، بأن يعود كلّ فريق إلى بيته ليفكّر في ما قد سمع؟ أي أن يهضم ويُبيّئ ويُنبّت في تربته ما قطفه من علوم الآخرين ليتمكّن من ممارسة فعاليّته الذاتيّة عليه وحصد الثمار التي تنفعه. لا ينبغي تجاهل هذه الأسئلة أو استسهال إجاباتها، فالتأمّل في سياسات الترجمة يكشف عن وضعيّتنا الثقافيّة المنفتحة حتى الإخضاع على الإنتاج الغربيّ، والعاجزة عن الاستقلال بأسئلتها وهمومها. نعم، كثيراً ما تُعيدنا الأسئلة الصغرى إلى الكبرى.

هكذا، قرّرت إحدى الجهات السعودية الشابّة تنشيط الثقافة الفلسفيّة العربيّة، فاختارت ترجمة مجلة فلسفيّة تنهج منهجَ تيسير تناول الفلسفة للجمهور الواسع. أما العدد الأوّل- الذي اختارته من بين أعداد المجلّة الـ 28- فكان بعنوان :"ما هو معنى الحياة؟". بدهيّ أنّني لا أستهين بهذا السؤال، ولكنّني أيضاً لا أستهين بنفسي، وبجدارة إرثنا الروحيّ والأخلاقيّ في التفكير بهذا السؤال، فهو كما تلاحظون ليس سؤالاً علمياً يمتلك فيه الغربيون تراكماً لا نمتلكه. إنّه سؤال ثقافي وديني أوّلي ليس لثقافة من الثقافات- في نظر أهلها- أفضليّة أصيلة وأحقّية خاصّة بالتفكير به دوناً عن الآخرين.

اقرأ/ي أيضاً: الزبون والبائع.. عن الكتب الأكثر مبيعاً

دعونا نفكّر في هذا المثال المكثّف، ودعوني -لغايات الحجاج- أن أنحّي زاويتيْ نظر في غاية الأهمّية: الأولى اقتراح الدين؛ تستبعد المجلة أي دور للدين في اقتراح جواب عن سؤال المعنى، وكأنّ العنوان الخفيّ لهذا السؤال: "ما هو معنى الحياة في ظلّ غياب الدين؟" وغياب الدين عند هؤلاء مسألة محسومة. أمّا الزاوية الثانية فهي تأثير السياسة؛ نحن أمام حضارة مترهّلة أنجزت وعود الرفاه لطبقة الفلاسفة الجامعيين، تقترح أجوبة عن المعنى لتستوردها شعوب جائعة مهانة تفتقر إلى الحياة لكي تسأل عن معناها الفائض.

سنُنحّي ذلك- وهو مهم- ونفكّر تحت سقف علمانيّ واطئ بمصادر التفكير الفلسفي في سؤال المعنى. ستلمع في ذهننا أسماء، مثل: سيزيف وماركوس أوريليوس، وستلمع مفاهيم وشخصيّات مسيحية معلمنة كثيرة، مثل: المحبة، أيوب، إلخ. ضمن هذا التقليد يُفكّر الأوروبي "العلماني" في سؤال المعنى، حتى وإن خرج على أصوله. فـ "لا تفكير بلا تقليد" كما يقول غادامير، و"العقل لا يستقل بنفسه" كما يقول الأصوليون. لتدارك هذا الخلل، اقترحت المجلة الأسترالية على الجهة المترجمة أن تضيف ما تشتهي وتحذف ما ترتئي من مقالات المجلة وأبوابها، ولكنّ أصحابنا انحازوا إلى "أمانة النقل".

سياسات الترجمة.. كي لا نعوم في الفراغ

عندما أسّس محمد علي مدارس الترجمة، كان يريد ترجمة العلوم الطبيعية والإداريّة، التطبيقيّة منها على وجه الخصوص، ذلك لغايات توظيفها في مشروعه النهضويّ. صحيحٌ أنّنا اكتشفنا لاحقاً أنّ الفصل بين الجوانب التقنيّة من الثقافة الغربيّة وبين الجوانب الثقافيّة فصلٌ صعب، إلا أنّه على الأقل كان يرتّب أولويات الترجمة بما يخدم مشروعه الذاتيّ. كانت لدينا أسئلة ومشكلات نبحث عن إجاباتها وحلولها عند الآخرين، أما اليوم فإنّنا في كثيرٍ من الأحيان نستعيرُ المشكلات والأسئلة حتى ننسى أنفسنا.

دعوني أجنّب نفسي سوء الفهم المحتمل. لا تدعو هذه المقالة إطلاقاً إلى التوقّف عن الترجمة، ولا إلى التمترس خلف هويّة ثقافيّة مغلقة، فكاتبها مترجم أنهى لتوّه سنتين من العمل في ترجمة كتاب حول تاريخ الإسلام، وإنّما تدعو إلى مراقبة الاتجاهات الصاعدة في حركة الترجمة والتفكير في صلتها بسائر مناحي النشاط الثقافي، وتدعو إلى تفعيل سياسات توجيهية في الترجمة والإنتاج المعرفي تُملّكنا شيئاً من الاقتدار المعرفي والأصالة الفكرية، وتساعدنا في فهم واقعنا العربي وتحريره. ولكي لا يكون كلامي معلّقاً في هواء النقد العام، أتقدّم ببعض النقاط العمليّة.

النقطة الأولى: في كلّ حقل من حقول المعرفة، ثمة كتابات كلاسيكية مؤسسة، تليها كتابات شارحة ومستطردة، تتبعها نقود وردود، ثمّ دراسات عينيّة تطبيقيّة، ثمّ تطويرات نظريّة مؤسسة، وأخيراً تأتي الكتابات البحثية/الصحفيّة الخفيفة التي تمزج النظريات وتقاليدها لترويج فكرة ما للجمهور الواسع. إنّ محاولة ترجمة كلّ هذه الأدبيات- التي تكبر كلّ يوم- عملٌ مستحيل بالضرورة، ومحاولة اللحاق بالإنتاج الغربي في ركضه السريع لن تورثنا إلا اللهاث. بدلاً من أن نبدأ من المرحلة الأخيرة من الكتابات الجذّابة الخفيفة، علينا أن نعود إلى الأصول العلميّة التي يُمكننا أن نبني معها علاقة تفهّم وانتقاد، ثمّ نراكم إنتاجنا عليها. بعبارة أخرى: بدلاً من استيراد السلع، لنستورد المصنع. (لنأخذ حقل الدراسات الدينية على سبيل المثال، أليس غريباً أن يُترجم طلال أسد وأن تفد إلينا الأنثروبولوجيا التأويليّة قبل دراسات موس ودوركهايم، وأن يُترجم جلّ تراث التحليل النفسي قبل كتاب وليام جيمس عن التجارب الدينية؟)

ثانياً: نظر اليوم باستخفاف إلى الجهود التي بُذلت في سبيل إعادة إنتاج النظريات الغربيّة وتبيئة أفكارها عربيّاً. شهد النصف الثاني من القرن الماضي عدّة مشاريع على هذه الشاكلة، منها عبد الرحمن بدوي والوجوديّة، عثمان أمين والجوّانية، محمد عزيز الحبابي والشخصانيّة، زكي نجيب محمود والوضعيّة، مهدي عامل والماركسية، جمال حمدان والجغرافيا السياسية، المسيري وتيارات نقد الحداثة.

تتفاوت هذه المشاريع في جودتها وعمقها التأصيلي ونزوعها التجديدي، ولكنّ أصحابها تحلّوا بعدّة فضائل: أ) تقريب النظريات إلى القارئ العربي دون عجمة لغويّة أو فكريّة، عبر وصل النظريات بالواقع والموروث، وإدماجها في نسيجهما، ومنح الأفكار جذوراً تراثية وفروعاً تطبيقية في الثقافة العربيّة. ب) الجرأة في التصرّف بالنظريات إهمالاً واستثماراً بما يرونه مفيداً ونافعاً لمشاريعهم المعرفيّة والنهضويّة. ج) اختصار الأدبيات المطوّلة (التي فُصّلت طبقاتها في النقطة الأولى) بحثاً عن لبّ النظريّة وشرحاً لها.

لا أدعو بذلك إلى تكرار هذه التجارب، ولا إلى تبرئة بعضها من الإخفاء المتعمّد- حدّ السرقة أحياناً- لمصادر أفكارها، ولا أدعو إطلاقاً إلى اكتفاء الباحث الجادّ بهذه الشروح الاجتهاديّة للنظريات دون العودة إلى أصولها وتتبع تشعّباتها. ولكنّني أدعو إلى التفكير في الدروس الإيجابية لهذه المشاريع وما قدّمته من نماذج في "اقتصاد المعرفة" وتفعيلها، ومحاولة سدّ الفراغ الذي خلّفه غيابها.

في زمن سيادة فضيلة "أمانة النقل" صرنا أقرب إلى "شغّيلة أفكار" و"أركيولوجيي نصوص" ننقّب في الأدبيات عمّن قال ماذا، ومن تناصّ مع من، وأين مصادر أفكار فلان وعلى من اعتمد، حتّى فقدنا الاهتمام بالفكرة لصالح الاهتمام بتاريخها. إنّ اكتشاف مصادر عملٍ فكريّ ما لا يعني نزع أصالته وأهميّته، فالإبداع الفكري يكمن أساساً في القدرة على استثمار المرجعيات وتنشيط أفكارها في مسارات جديدة.

اقرأ/ي أيضاً: TEDx.. كيف تروي قصةً لا تقول شيئاً؟

ثالثاً: لا أمتلك تصوّراً كافياً عن أهميّة مشاريع تعريب العلوم قبل تحرير الإرادة السياسيّة والاقتصاديّة للنهوض، ولكنّني أتعجّب فقط من أنّ أمم العالم كلّه تدرّس العلوم الطبيعية والطبية بلغاتها (الأتراك والإيرانيّون والكروات الذين لا يتجاوز عددهم 4.5 مليون). تفتح لي هذه الملاحظة الباب للإشارة إلى أنّ بؤس واقع الأكاديميا العربيّة يزيد من ارتهان الثقافة العربيّة للترجمات. فالمشكلة لا تكمن في كثرة الترجمات، بل في غياب الاجتهاد الموازي لها تقعيداً وتبيئة وتطويراً واجتهاداً ندّياً. وفشل الأكاديميا في الاضطلاع بهذا الدور، يتركنا في حالة من التلقي المفتوح لسيل من الترجمات المتنافرة التي لا نراكم في مواجهتها تقليداً أو نظرية أو تطبيقاً.

وأخيراً، من العجيب أن تقرأ مقدّمة كتابٍ مُترجم فتجدها أجود من الكتاب نفسه، أو أن تجد أستاذاً قديراً يُترجم كتاباً أقلّ أهميّة من أفكاره هو. ببساطة، يحصل ذلك لأنّ السوق (الناشر والقرّاء) يفضّل الكتاب المُترجم على الكتاب العربيّ. يضطر الباحث للخضوع لهذا المزاج القاهر لأكل عيشه. بالـ "ألم نشرح": نعم، هناك عقدة خواجة تجعل كلامنا أقلّ أهميّة من كلامهم. والويل والعناء والإهمال لمن يقترح مفهوماً فلسفيّاً أو سيسيولوجياً دون أن يتكئ على أسماء مجّدها الآخرون. لنثق بأنفسنا يا أهلي.

حتى الشعراء يا سادة باتوا يأخذون أوراق اعتمادهم من هناك ويعودون إلينا ليصُبوا في فناجين القهوة نبيذاً فرنسياً.

إنّنا مدينون لحركة الترجمة النشطة في كلّ المجالات لتعريفنا علمياً وإنسانيّاً على تنوّع العالم البهيج. ولكنّ هذه النافذة آخذة بالاتساع، وقد صارت الآن باباً، وتوشك أن تبتلع البيت كلّه. ونحن لا نريد أن ننام في العراء.