14 أكتوبر 2023

نحن هنا

<strong>نحن هنا</strong>
  • "لا شيء إلا صفحة بيضاء تكرج تحت حبري". مهدي عامل.
  • أخبرنا يا مهدي. اكتب لنا مِن هناك، من مهجع الأرواح وبيت الخارجين عن أسْر الجسد؛ ماذا يفعل المرء بصفحةٍ حمراء تكرج تحت حبره؟ وكيف تكتب والزمان يدور على نبض المجزرة؟

  • في السابعة صباحاً من ذلك السبت، كَسَرت "حماس" آلةَ التاريخ في هذا الركن من العالم، وعبَرت كما لم يعبر أحد. لم يكن العبور في جوهره عبوراً لسورٍ حديديّ من ثلاث طبقات، امتد بناؤه ربع قرن، بدءاً من سلك شائك عام 1994 وصولاً لكتلة عظمى من الخرسانة والحديد تذرع تحت الأرض أكثر مما تذرع فوقها ولم يكتمل بناؤها إلا قبل عامين من اليوم. أولئك المقاتلون الألف عبَروا في المقام الأول حاجزاً عظميّاً في رؤوس الناس، ومزّقوا صورةَ واقعٍ أريد لنا أن نراه. وأن نراه وحده، وأن نفقد قدرتَنا حتى على تخيل سواه. لقد عاد الخيال. عاد مُجنّحاً بطائرة شراعية وبغطاءٍ من 5000 صاروخ، وألفٍ من خيرة ناسنا وصفوة أهلنا وأنبل من فينا. عاد الخيال بما يفوق حتى خيالنا عنه.

  • في حساب الحجم، صنعت "كتائب القسام" ما لم يحصل سابقاً في سِجلّها وسِجلّ العمل المقاوم العربي؛ أنها أوصلت هجومها الخلّاق لكتلته الحرجة وأطلقت بذلك تفاعلاً عسكرياً وسياسياً (وحتى فكرياً) خارجاً عن قبضة العدو، وعن حدود الممكن المتوهّم. ليس الأمر تراكماً كمياً يُفضي للانزياح النوعي الشهير. لقد كان انفجاراً نوعياً منذ لحظته الأولى. وعندما نقول إنّ القسّام كسر آلة التاريخ، فنحن لا نقول إلا نصف الذي جرى. لقد توقف الدوران الأصمّ للقضية الفلسطينية، وخرج مساره من دائرية مخنوقة فرضتها عليه قوى كبرى، وعاد لمكانه الطبيعي.. إلى طوفان الزمان ومجراه الحُرّ.. إلى الفضاء الذي ينبغي للتاريخ دوماً أن يسلكه.
  • أمورٌ كثيرة حصلت في هذا التفاعل الخارج عن السيطرة، والذي أطلقه القسام بعد نجاحه في بلوغ الكتلة الحرجة لاقتحامه الهائل، في نوعه وحجمه وجسارته. أُولى هذه الأمور؛ هي أن التهديد الوجودي المحيق بـ"إسرائيل" وصل مرحلةً جسيمة، والهشاشة التي تكشّفت في خطوط "إسرائيل" الدفاعية أوجبت أن يتنحّى الصبيّ جانباً ويَدخل أبوه الساحة ليقاتل بدلاً عنه. صفاً واحداً أتى أهل الأطلسي مع كل عدّتهم المعروفة، سلاحاً واستخباراً وإعلاماً مٌتمرّساً بالكذب. صفاً واحداً أتوا، مُفضّلين هذه المعركة البعيدة عن قارتهم على تلك التي كانوا منخرطين فيها على أعتاب بيوتهم. هذه حرب أميركية-أوروبية بهدفين متلاحمين: الانتقام أولاً، ثم التصفية النهائية للقضية. وبمعناها الأوسع -الذي لا ينبغي لأحد أن يملّ من تكراره- هذه معركة الغرب الاستعماري على المشرق الإسلامي. سنوات طويلة، ومثقفو الارتزاق الأكاديمي والإعلام الأجير -ومعهم نشطاء الغفلة- يسخرون عندنا من مصطلحات الإمبريالية والصليبية الجديدة. لم يعد من لزومٍ لمحاججة هؤلاء اليوم، وما تغيّر ليس مزاجاً نفسياً وحسب في صدور الناس. نحن أمام عقيدة فكرية تدرك جوهر صراعنا ضدّ المركز الغربي، وهي رؤية تعمّقت اليوم عند من كانوا يؤمنون بها أصلاً، وتوسعت لمن كانوا في ريبة منها، وما جرى جدير بأن يكون نهاية -بالدم والنار- لمشروع الليبراليين العرب وأُجَرَاء السفارات والتمويل الغربي ومتسوّلي التدّخل الأطلسي. هؤلاء الذين أشغَل مشروعُهم منطقتَنا زمناً طويلاً، وبأثمان فادحة، وخرّبوا كل محاولة أصيلة للتغيير العربي.
  • إلى أين تذهب الأمور؟ نسأل نفسنا وغيرنا. بقدر ما يدرك المرء عِظَم الفعل المقاوم في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بقدر ما يدرك جسامة الحشد الأطلسي والهجوم القائم اليوم على كل أركان القطاع. بالكاد تنبأ أحدٌ بهجوم القسام. بل أكثر من ذلك. بالكاد تخيل أحٌد أن فعلاً كهذا هو في ميدان الممكن المادّي. لقد عَصَّبت المقاومة على أسرارها عُصبةً لا ينفذ منها شعاع، ولن يستطيع أحد، لا من أنصارها ولا أعدائها، أن يرسم تصوراً متيناً لقدرتها في هذه الحرب الكبرى والطويلة، وهو الأمر الذي يجعل أي تخمين لمسار المواجهة ضرباً من التبصير العشوائي. لكن الأكيد أنه تحت حصار خانق كهذا، وجسر جوي مفتوح بلا حساب للصهاينة، فإن الأمر لا يمكن أن يُترَك على عاتق المقاومة الفلسطينية وحدها. لا بد أن تحين لحظة الشمال. لا بد لها أن تحين، لأنها إن لم تحن خلال هذه المواجهة بقرار من أهل الشمال، فإن حلفاء الكيان ماضون لها بعد المواجهة بقرارهم هم، مكللين بحسّ الانتصار، وباستعداد عسكري تامّ. التوقيت هنا هو كل شيء، والأمر سيكون مرهوناً بنقطة حرجة تبلغها كتائب المقاومة في مواجهتها لهذا العدوان.
  • قبل أسابيع قليلة من اقتحام القسام، خرج رئيس وزراء الدولة العبرية ليقدّم رؤيته الفلسفية حول التطبيع العربي، قائلاً بأن الانطلاق من الداخل الفلسطيني للخارج العربي كان خطأ كبيراً، وأن المسار السياسي الجديد هو البدء بالخارج العربي وترك الداخل الفلسطيني لينحل بنفسه لاحقاً. جوهر هذه الرؤية الصهيونية هي أن حلّ القضية الفلسطينية لا يلزمه إلا تجاهل الفلسطينيين. والواقع أن مجمل ما فعلته "إسرائيل" في السنين الماضية -ومعها حلفاؤها الإقليميون والدوليون- هو حجب الفلسطيني من شاشة الرادار وتحويله كائناً زُجاجياً يمرّ الضوء عبره وكأن العين لا تدركه. غزّة كانت "جوهرة" هذه السياسة الوضيعة، وبدا أن الصهاينة نجحوا نجاحاً باهراً في إخراجها من خارطة الوجود المدرَك. مليونا شخص لا صوت لهم، ولا أثر. هكذا أحكمت "إسرائيل" غطاءها على القمقم الذي وضعت فيه أهل القطاع. وما جرى في السابع من أكتوبر هو أنّ حركة المقاومة الإسلامية، حماس، فجّرت القمقم تفجيراً، وأنهت حالتنا الزجاجية، وردّت الضوء الذي كان ينفذ عبرنا وعبر شعبنا، وقالت نحن هنا.