16 يونيو 2020

الزبون والبائع.. عن الكتب الأكثر مبيعاً

الزبون والبائع.. عن الكتب الأكثر مبيعاً

"لا يعلم ما يناسبك سواك، فاتبعْ حدسك"؛ تتوسّط هذه الجملة وأخرى مُشابهة لها أعلى الصفحة، ثم تلحقُها فقرة شارحة للاقتباس، ثمّ سطرٌ أو سطران لتوضيح الهدف منه. هذه هي فكرة كتاب "ابق قويّاً: 365 يوماً في السنة" (2016)، لكاتبته المغنيّة والممثلة الأميركيّة ديمي لوفاتو، وهو واحدٌ من كُتبٍ كثيرة أخرى، عليها إقبالٌ كبير في الآونة الأخيرة، ولا تخلو رفوف المكتبات الفلسطينيّة منها.

باتت الروايات، تحديداً الأجنبيّة منها، ومن ثمّ كتب التنمية البشريّة، من الكتب الأكثر مبيعاً في مُعظم مكتبات الضفّة الغربيّة، إن لم يكن في العالم أجمع. وشكّل هذا النوع من الكتب سوقاً مُربحةً للمكتبات ودور النشر، إذ يكفي أن تكون على الكتاب جملة مثل "الكتاب الأكثر مبيعاً" أو أي جملة شبيهة يستخدمها الناشر للتسويق، حتّى يهبّ الجميع للشراء.

ما هي الكتب؟ من هو القارئ؟

ترتسم خارطة الكتب الأكثر مبيعاً، من جولةٍ واحدة على المكتبات في الضفة الغربيّة، من شمالها حتّى جنوبها.1أجرى كاتب المقال مُقابلات عدّة مع مكتبات من شمال ووسط وجنوب الضفّة الغربيّة، وهي: دار الرعاة، دار الفكر، دار الشروق، دار العماد، دار الحكمة، الفلسطينيّة للنشر والتوزيع، تنوين، مكتبة جامعة بيرزيت. تتشابه عناوين الكتب ويتشابه روّادها كذلك في جميع المكتبات. "في قلبي أنثى عبريّة" و"أكاستاسي"، "فن اللامبالاة" و"شيفرة دافنشي"، كذلك "قواعد العشق الأربعون" و"يسمعون حسيسها"، وغيرها كُثر.  

منذ سنوات تتربّع الروايات وكتب التنمية البشريّة على عرش المبيعات في معظم المكتبات، وتُشترى بشكل كبير. يوضّح أحد العاملين في مكتبة "دار العماد" في حديث مع "متراس" أنّ الفئة العمريّة من الشباب، وتحديداً الطلبة منهم، هم الأكثر استهلاكاً لكتب التنميّة البشريّة والروايات. أمّا دينا عودة، التي تعمل في مجال بيع الكتب منذ ثلاث سنوات في مكتبة "دار الحكمة"، فتقول: "لا يجرّب أحدٌ شيئاً جديداً، ونادراً ما يرغبون في ذلك، فهم يلجأون لشراء الكتب التي كان قد أوصى بها أصحابهم، أو تلك التي رُوّج لها".

ويقول صالح سلمان، وهو طالب اللغة العربيّة في جامعة بيرزيت: "نسمع كثيراً عن انتشار كتب التنميّة البشريّة، ولكنّ نسمع أيضاً أنّها كتبٌ خاليّة من الفكر وترى الحياة من منظورٍ ورديّ… أما الطلاب الذين يلجأون لهذه الكتب، فإنهم عادةً يبحثون عن كتب ليبدأوا بها مسيرتهم في القراءة". 

وفيما يتعلق بالروايات الجادّة، فإنّ بعضها لاقى رواجاً لأسبابٍ إمّا تتعلق بأسماء كُتّابها، وإما تتعلّق بالاقتباس منها على الإنترنت. فمثلاً، كانت رواية "الأبله" للكاتب دوستويفسكي الأكثر استعارةً من مكتبة جامعة بيرزيت، إلا أنّ البعض يعزو ذلك إلى شهرة الكاتب والتعرّض المُستمرّ لاقتباسات من كُتبه على مواقع التواصل الاجتماعي، وليس نابعاً بالضرورة من اهتمامٍ أدبيٍّ جديّ.

من الكتب الدينيّة إلى كتب التنمية البشريّة

بدأت كتب التنمية البشريّة تتصدّر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في العقدين الأخيرين. ويبدو أن ظهور هذه الكتب وتصدّرها القوائم مرتبطٌ بالتغيّرات الحاصلة في أماكن مختلفة من الوطن العربي بشكلٍ عام، وفي فلسطين بشكلٍ خاصّ. يُوضّح نديم حمودة، صاحب مكتبة "دار الفكر"، أنّ الفترة بين عامي 2006 إلى 2008 كانت قد شهدت تغيّراً في نوعيّة استهلاك الكتب باتجاه الروايات والتنميّة البشريّة.

قبل ذلك، تحديداً منذ عام 2000، كان الاستهلاك مُتركّزاً على الكتب الدينيّة، بالأخص الفقهيّة منها. أما اليوم، فالإقبال عليها قليل ومخصوصٌ في الروايات. يقول البائع فقهاء عن الإقبال على النمط الروائي من الكتب: "أصبح المُهتمّون بالكتب الدينيّة يشترون الروايات الدينيّة!". ومن هذه الروايات والكتب: "فاتتني صلاة"، "لأنّك الله"، "شيفرة بلال"، "عندما التقيت عمر بن الخطاب"، "تسعة عشر". كما يتقصّد القُرّاء كُتّاباً إسلاميين بعينهم، مثل: أحمد خيري العمري، أحمد الشقيري، أدهم الشرقاوي، أيمن العتوم. 

زاحمت كتبُ التنمية البشريّة وتطوير الذات الكتبَ الدينيّة في حقلها الرامي إلى تقديم إجابات لأسئلة صارت أساسيّة في حياة الفرد؛ أسئلة عن الخلاص الفرديّ والإنسانيّ، على حدِّ تعبير الكاتب البريطاني جون غراي. ما هو السبيل إلى النجاح؟ كيف يحقق الفرد ذاته من خلال العمل أو الأسرة؟ كيف يكتسب الإنسان معنى لحياته؟ وفي كثير من الأحيان، قدّمت كتب التنمية البشريّة ما لديها على شكل إجاباتٍ بصيغٍ "مُعلمنة" للإجابات الدينيّة. وقد حاولت هذه الكتب أن تقدّم وعوداً وحلولاً لأزمات الشباب، من البطالة إلى الاغتراب الاجتماعي والوحدة والفشل.

كتب لإرضاء الزبون؟

يرصد عالم الاجتماع زيجمونت باومان لحظة التحوّل في أنماط الترويج في المجتمع الاستهلاكي، إذ انتقلت من كونها تُفصح عن رغبات الزبائن وبالتالي صناعة سِلع تُلائم تلك الرغبات، إلى كونها تخلق رغبات تتلاءم مع السلعة المعروضة.2باومان، زيجمونت. 2017. المراقبة السائلة. بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 126. أمّا الكتب فلا تختلف كثيراً عن أي سلعة أخرى في طريقة ترويجها واستهلاكها، إذ تُرتسم صورة عن القارئ في شريحة اجتماعيّة وثقافيّة معيّنة، تجعل من ترويج الكتاب لاستهلاكه أمراً يُحقّق رغبة الفرد ويُشبعها. 

تُمثّل الكتب دلالاتٍ عند مستهلكيها، لتصبح قراءتها إشارة موجزة ومكثفة على خلفيّاتهم الاجتماعيّة والطبقيّة. كما بات هذا الاستهلاك موضوعاً للتراتب الاجتماعي، فاستهلاك وقراءة أنواع محدّدة من الكتب مُرتبطٌ بطبقات اجتماعيّة مُحدّدة. من هنا، لا يعني الإقبال الواسع على كتابٍ ما شيئاً عن قيمته المعرفيّة بالضرورة، بقدر ما يعكس صوراً عن المُجتمع والأفراد، تحديداً إذا خصّصناها بالكتب الأكثر مبيعاً. 

هذه العلاقة الاستهلاكيّة بين القارئ والبائع، قد جعلت رواج هذه النوعيّة من الكتب أمراً مُمكناً. فلم يعد مهماً بالنسبة إلى معظم دور النشر أن يحمل الكتاب مضموناً ذا جودة عالية ليُطبع أو يُنشر، فالمهم أن يكون الكتاب مطلوباً في السوق. ودون قراءته أو حتّى الإطلاع على مضمونه، تُصدر دور النشر الطبعة الثانية منه دون تردد، فهو "الكتاب الأكثر مبيعاً"!