13 يوليو 2022

مِن يهوديّة الذرّة إلى يهوديّة الدولة: فيزياء القنبلة (1/3)

مِن يهوديّة الذرّة إلى يهوديّة الدولة: فيزياء القنبلة (1/3)

"لمّا كانَتِ المعصيةُ زَمنَ نُوح، غَضِبت الخَلائقُ على بَنْي آدم، حَتّى الذرَّةُ قالت: يَا ربّ سَلّطني عَليهِم". كتاب العقوبات/ ابن أبي الدنيا (ق. 3هـ)

الطريق للنواة

أوائل القرن الماضي، جرَت محاولة جريئة لرسم أدقّ الأشياء وأصغرها (وهي بُنية الذرّة)، وكان الرسّام بوقتها معصوب العينين و لم يكن يرى ما يحاول رسمَه أصلاً. أمام تحدٍّ عسير كهذا، حُبكَت واحدة من أغرب مجازات الطبيعة: لرسم أصغر ما في الدنيا، تم اللجوء لأكبر ما فيها؛ لأجرام السماء وأفلاكها. بهذا الخيال الخصب، نسج رذرفورد عام 1911، خارطةَ الذرة على منوال المجموعة الشمسيّة فجعل لها شمساً في الوسط سمّاها النواة الموجبة، ثمّ حاكى الكواكب بِكُرَات صغيرة حول المركز، وأوكلَ لها شحنةً سالبة. ليس هذا النموذج غريباً عن أحد، فظِلّه محفور بمخيلتنا من سِنيّ المدرسة الأولى ولا يكاد ينساه أحد. واستمر هذا الوصال الموحي بين عالَم الفلك وعالم الذرة لاحقاً، خصوصاً في المسألة النوويّة، فاليورانيوم سُمِّي نسبةً لأورانوس، والبلوتونيوم نسبةً لبلوتو.

كان النموذج مغرياً لأنه يُشبع نهماً قديماً في الفيزياء لضمّ الظواهر وتوحيدها، وأيُّ وحدةٍ أروع من أن تكون الذرّة كوناً مُصغّراً، ويكون العكس بالعكس. ليس هذا وحسب، فالنموذجُ الجديد أتى بفخامةٍ لم يعرفها سلفه القديم. فقبل مجاز الشمس وكواكبها السيّارة، كان للذرّة مجاز مختلف في الوسط العلميّ؛ مجازٌ آتٍ، لا من الفضاء والأفلاك العليا، بل من المطابخ ومحلات الحلوى ويُدعى "كعكة البرقوق" Plum Pudding Model، تنتثر فيه الشحنات السالبة –كثمار البرقوق- داخل وعاء موجب أشبه بالكعكة المنتفخة. لم يكن لهذا النموذج الحلوانيّ مركزٌ أو وسط، فهو يرى الذرة غيمةً موجبة تعوم فيها السوالب.

المجازان ليسا مختلفيْن وحسب، بل متعاكسين؛ القديم أشبه بفدرالية مُوزَّعةِ الأقاليم، والجديد أشبه بدولة مركزيّة لها عاصمة مزدحمة في الوسط (وهي النواة). وهذا هو المهم في البيان التأسيسي للنموذج الجديد: أنّ الذرّةَ لها حشوة في القلب لا تَحتل إلا حيزاً تافهاً من مجمل فضاء الذرّة. حولها طبعاً، تطوف شحناتٌ سالبة، وهذه الأخيرة تسبح في فضاءٍ رحب سهل المأتى، وتنبع منه الظاهرة الكهربائية كما نعرفها اليوم. 

لكن ماذا عن تلك النواة الموجبة؟ ذلك المركز الرابض في الوسط، والمحتجب عن الرؤية؛ ما الذي يحصل داخله على وجه الدقة، وكيف يظل متماسكاً على نفسه؟ وكما للمرء أن يتوقع من أحفاد آدم وحفيدات حواء، لم يعد أحدٌ يرى من فردوس الذرّة الفسيح إلا تلك "التفاحة" التي في الوسط، وبدأ سباقٌ محموم لبلوغها.

كان الأمر معقداً لأسبابٍ عديدة، أبسطها أنَّ موضوع الدراسة فائق الصغر، وأنَّ الظاهرة ليست "ظاهرةً" على الإطلاق. لكن الأمر لا يتوقف هنا، فالطبيعة حصّنت نواة الذرّة بسورٍ إضافي وضربت عليها حجاباً ثانياً، وهو الشحنة الموجبة التي فيها. ولأنَّ الموجب ينفر من الموجب، يغدو صعباً أن ترمي نواةً بنواةٍ أخرى (لتجسّ محتواها) فالتنافر بينهما يمنع الاصطدام، وكأنَّ الطبيعة تتآمر لإبقاء الأمر سراً. يكفي –من باب التشبيه- أن نتخيل بئراً مظلمة نحاول سبر عمقها برمي حجر فيها، لنكتشف أنَّ قوّةً خفيةً تُعيد الحجر صوبنا قبل أن يبلغ القاع وتحرمنا حتى من رنّة الصدى.

الانشطار

هذه الحرب الأهلية التي تعيشها الشحنات الموجبة (وتجعلها في تنافرٍ كهربائيٍّ مستمر) تطرح مفارقةً هامّةً حيال الذرّة، فما دامت النواةُ مركّبةً من هذه الموجبات، فما الذي يُبقيها مؤتلفةً على بعض؟ بمعنى آخر، لماذا لا تنفجر النواة؟ الجواب أنَّ التنافر الكهربائي ليس وحدَه من يحكم الأشياء. هناك قوّة من نوعٍ آخر تماماً، هي القوّة النوويّة، تشدُّ الأشياءَ على بعض وتُقرّب الموجب من الموجب. وهكذا يبدو مشهد النواة: تنافرٌ (كهربائيّ) وتجاذب (نوويّ)، بالتساوي وبالتعاكس، والنتيجة هي هدوءٌ ذرّي حذر وكأن النواة مربوطة بشعرة معاوية وتقف دوماً على شفير الانفجار. هذا الانفجار لا يحصل في الذرات الصغيرة، لكنه يكتسب أفقاً واقعياً في الذرات الكبيرة، حيث النواة أشدّ ازدحاماً، وخارطة التجاذب والتنافر شديدة التعقيد، ويصبح ممكناً –في ظروفٍ مُعينة- أن يتفوق الدفعُ على الجذب، فينفرط عقد النواة وتنقطع الشعرةُ الأمويّة.

مضى عشرون عاماً بعد رذرفورد والناس لا تعرف مِن سكان الذرة إلا التوأم الشهير، الموجب والسالب. لكن في 1932، ظهر –فجأةً- شقيقٌ ثالث. هذا العنصر الجديد كان غريباً بحقّ، فهو بغير شحنة، ويبدو ملتزماً بحيادٍ كهربائي صارم، وقد سمّي نيوتروناً بقرينة الحياد هذه. وعليه، فهو متحرّرٌ من قوى التنافر ولا يخضع إلا لقوة الجذب النوويّة. هذه السمة "التجميعية" للنيوترون ونزوعُه الدائم للشدّ دون الدفع تجعله أكثر حضوراً في الذرات الكبيرة، فهي بحاجة لقدرته الصمغية كي تحافظ على تماسك نواتها.

فورَ اكتشاف هذا الجُزيء، لمعت الفكرة ذاتها في رؤوس الكثيرين: أنّ هذا المُلثّم الجديد يمكن له أن يخترق أسوار النواة ببركة حياده الكهربائي، فهو لا يتنافر مع سواه، ودفاعات النواة معميةٌ عنه. وبدأ القصف –حرفيّاً- على الفور: وُضعت موادُّ مختلفة في مرمى سيلٍ من النيوترونات، ثم فُحصت شظايا القصف، علَّ شيئاً فيها يُنبئ عن محتوى الذرة وطبيعة نواتها. المادة المُفضّلة وقتها لهذه اللعبة الفيزيائية كانت اليورانيوم، ليس لوفرته وحسب بل لأن نواته كبيرة الحجم وتسهل إصابتُها كيفما رُميت. 

الألماني أوتو هان الذي شطر اليورانيوم للمرة الأولى (دون أن يدرك تماماً ما حصل) وبجانبه النمساوية ليز مايتنر التي حلّلت ما جرى نظرياً، وأدركت أن النواة انشطرت. الصورة من 1912 وهي لقطة محرابية في تاريخ الفيزياء المصوّر.

وفعلاً، نجح الألماني أوتو هان عام 1938 في زلزلة النواة. النتيجة كانت مريبة بالنسبة له ولكل من قرأ النتائج، فالفهم العام بوقتها كان يوحي أن أقصى ما سيُحدثه القصف هو تحوُّلٌ طفيف في الذرة، وأن اليورانيوم سينزاح لمادة تجاوره في الجدول الدوري؛ تصغره بقليلٍ أو تكبره بقليل. لكن أوتو هان وجد شيئاً مختلفاً تماماً وهو يُقلّب حطامَ القصف، فقد ظهرت له مادة أصغر من اليورانيوم بكثير، وتكاد تكون بنصف حجم الذرة الأصلية. النتيجة كانت تجديفاً بالمبادئ الفيزيائية المستقرة وقتها، ولذلك فقد كان أوتو هان يقدّم قَدَماً ويؤخِّر أخرى وهو يلمّح بالنتيجة المستنكَرَة: أنّ الذرةَ –في ظاهرها- "قد انفجرت". 

استلزم الأمر أشهراً بعد تلك التجربة حتى تبلوّرت رؤيةٌ نظريّةٌ لما حدث، وتغيّرت حينها سرديةُ الوصف: الموضوع ليس انفجاراً، وإنما العكس تماماً، إنّه التحامٌ للنيوترون مع نواة اليورانيوم. هذا الالتحام يدفع الذرة صوب حالة اضطرابٍ لأن التوازن الذي يمسك النواة على بعضها يختل بهذا الوافد الجديد، ولا يعود ممكناً أن تتوّزع محتويات النواة بحيث يلغي التنافر فيها التجاذب. تحت وطأة هذا الاضطراب، "تنشطر" النواة لتنتج ذرتين أصغر بكثير من الذرة الأم. لكن الأمر لا يقف هنا، إذ تخرج في الوقت ذاته شظيتان وسط الغبار الذرّيّ، هما نيترونان لم يجدا لنفسيهما مكاناً في الذرتين الوليدتين، ومعهما يشع قدرٌ من الحرارة وقدرٌ من الضوء. كل ما يحصل بعد هذا هو تكرار لما حصل قبلَه: الشظيتان تمضيان حتى تصطدما بذرتين جديدتين. فتُنتِج أربعَ شظايا (وَضوءاً وحرارة أكثر). وتلك ستُنتج 8 (وضوءاً وحرارةً أكثر). ثم 16. ثم 32. ثم 64. ثم 128. وهكذا إلى أن يغرق كل شيء في الضوء وفي الحرارة.

استُثمرت هذه الفكرة في مضماريْن أساسيين: في المفاعل النوويّ، وفي القنبلة الذريّة. في المفاعلات النوويّة، يحصلُ الانشطار تحت ضوابطَ صارمةٍ تمنع تدحرجَ التفاعل على سجيّته وتسدّ الطريق على الشظايا كي لا تُشعل من الحرارة إلا ما يكفي لإنتاج الكهرباء. في القنبلة النوويّة، تُرفع الضوابط ويَخرج كل شيءٍ من عِقاله. لكن المبدأ الفيزيائي في الحالتين يكاد يكون واحداً، فالمفاعل النوويّ ليس في النهاية سوى قنبلة تنفجر على مهل.

نظير الشؤم: 235

يشيع الظن خارج دوائر الاختصاص أنَّ اليورانيوم معدنٌ نادر. والواقع أنه على العكس تماماً، فهو أوفرُ من الذهب والفضة ويناهز القصدير في انتشاره. لكن اليورانيوم ليس على ملّةٍ واحدة، ويأتي بهيئتين، الأولى تمثل 99.3% من وجوده في العالم، وتسمى النظير-238. والثانية بالكاد تبلغ 0.7% وتسمى النظير-235. ومن باب المثال المتخيَّل، فإنك إذا ضربت يدك في التراب، فوقعتَ –عبر صدفةٍ مدهشة- على سبيكة يروانيوم تزن كيلوغراماً، فسيكون فيها 993 غراماً من النظير-238، و7 غرامات فقط من النظير-235. 

لكن ما قصة هذين الرقمين، 235 و238؟ إذا أجريتَ إحصاءً سكانياً لنواة الذرة فعدَدْتَ جزيئاتِها (بموجبها ومحايدها)، فالرقم الناتج هو الهوية الرقميّة للذرة، وهو يشي بكثير من سماتها. لكن المادة الواحدة في الطبيعة قد تملك أكثر من رقم تعريفي كهذا، وهذا ما يُنتج "النظائر". وهكذا، فلليورانيوم نظيران: واحد تمتلئ نواته بـ238 جزيئاً، والثاني بـ235. فارق التعداد ضئيل، لكن الشيطان هنا كامنٌ في الضآلة. 

النظير 235 يشبه قصر الخَوْرنَق في التراث العربي؛ القصر الذي "فيه آجُرَّةٌ لو زالت لانتقض القصر من أساسه". (هامش: آجُرّة: جمع آجُرّ، وهو اللَّبِن المُحْرَق المُعَدُّ للبناء وتتكوَّن المادّة المحرقة من الطِّين أو أي مخلوط آخر كالجير والرَّمل أو الأسمنت والرَّمل. قاموس المعاني الجامع). وقد شاءت الإرادة الكيميائية أن يملك هذا النظير خصوصية شبيهة بذاك القصر، وهي أنك إذا رميته "بآجُرّة" فسينتقض من أساسه وينشطر نصفين. هذا الانشطار ليس حكراً على النظير المذكور، لكن له ميزة قاتلة في الـ235: أنه يعطيك أكثر مما تعطيه، وأنّ الحرارة الناجمة عن هدّ نواته أكثر من الحرارة اللازمة للهدّ أصلاً. خصوصية الـ235 لا تنتهي هنا، فانشطاره يأخذ هيئةً دائريّة، ليَخلق بأعقاب انهياره ذات الظروف التي أطاحت به أصلاً، وكأنه يحاول أن يُنزل بغيره ما حصل له: وسط سحابة الغبار الناشئة عن الانشطار، تخرج عدد من النيوترونات هي شظايا القصف الذي حصل، وتتكفل هذه بتكرار ما جرى، وتوسيع مظلته. كل شيء مُعَدٌّ إذن في هذا النظير الغريب كي يَصنع ما لا يصنعه سواه.

التخصيب

ليس التحدي كامناً في الحصول على النظير-235، فأينما وَجَدتَ اليورانيوم، فقد وَجَدت الـ235. التحدي هو في تحريره من شبيهه الـ238؛ في أن تستخلص الأوّلَ من الثاني كي تُوظِّف الفرادة النوويّة التي فيه، سواءً لخدمة الناس أو إبادتهم. لكن المشكلة أنّه غارق دوماً في بحرٍ من نظيره الأكبر، الـ238، ولا يحضر إلا بالنسبة الهزيلة التي ذكرناها سابقاً، أي 0.7%. 

هنا يأتي دور التخصيب، وهو مصطلح مُضلّل لأنه لا يشي بطبيعة العملية. ما مِن تخصيبٍ فعليّ ولا مجازيّ في الأمر، بل فصلٌ لمادةٍ عن أُخرى وحسب. المركزيّة التي تحتلها عملية التخصيب في الحديث عن المسألة النوويّة تتعلق بصعوبتها. النظيران المختلطان (235 و238) يُشبهان بعضهما حدّ التطابق، ولا يختلفان إلا بتلك الجزيئات الثلاث التي تَكبُرُ فيها نواة الـ238 عن الـ235. فكيف يمكن أن يُعزَلا عن بعض وهما في تلك الحالة من الالتحام الطبيعي؟ 

جهاز التخصيب الكهرومغناطيسي في لوس ألاموس. ومن غراباته أن شُحَّ النحاس وقت بنائه أجبر مهندسيه على صناعة أسلاكه من الفضة.

هناك أكثر من طريقة. 

الأولى تعتمد على فارق الوزن. تخيل أنك ترمي حجرين، أحدهما أكبر قليلاً من الآخر، وبأقصى ما أُوتيت من قوّة. الحجر الأخف سيمضي مسافةً أبعد، والحجر الأثقل سيسقط وراءه، وبهذا يتحوّل فارق الوزن إلى فارقٍ في المسافة. يبدو هذا حلّاً مثالياً: أن "نرمي" ذرات اليورانيوم، واحدةً تلو الأخرى، ثم نرصد مكان وقوعها، فتكون البعيدة هي نظائر الـ235، والقريبة هي الـ238 (فالأولى أخفّ من الثانية). الفكرة بسيطة مفاهيمياً لكن الإشكال التقني فيها مريع؛ أن تضبط الرميات لتكون دوماً بذات القوة وأن تنطلق دوماً من نفس النقطة، وبدون ذلك فليس للتمايز التافه بالوزن فرصة للتجلي تمايزاً واضحاً بالمسافة.

الحيلة الثانية هي أن تستخدم شبكةً وتصيد الذرات المطلوبة صيداً. هنا، يحصل رهان على فارق الحجم بين النظيرين، فالـ238 أكبر قليلاً من الـ235. ولو كان بالوسع أن نصنع نسيجاً شبكياً تتسع ثقوبه للـ235 وتضيق على الـ238، سيكون بالوسع حينها فصل الاثنين عن بعض. ومرةً أخرى فالمشكلة تقنية، وهي صناعة شبكة بهذا القدر من الصغر والدقة.

الطريقة الثالثة هي الطرد المركزيّ. تنبع الحيلة هنا من ظاهرةٍ معروفةٍ في الحركة الدورانية مفادها أنَّ منافسةً طاحنة تحصل في الأشياء التي تدور بسرعة حول محور يتوسطها هرباً من محور الدوران. هذا التدافع ينتصر فيه الأكبر وزناً، فتنتهي الأشياء الثقيلة بعيداً عن المحور، ثم تتلوها الأقلُّ كتلةً فالأقل. هكذا ينتهي التدافع الداخلي في أي جسم دوّار إلى تمايز المكونات: الأكبر وزناً ينتهي في أبعد المواضع، والعكس بالعكس. وعليه، فإذا ما أُدير اليورانيوم في وعاءٍ أسطوانيّ بسرعةٍ كبيرة، تنحلُّ عروة النظير-238 عن شقيقه 235 وتنشأ طبقتان بمرور الوقت؛ الأولى ملاصقة لجدار الأسطوانة وتتراكم فيها الـ238، وثانية بعدها مباشرةً هي الـ235.

ليست هذه الثلاث سبل التخصيب الوحيدة، لكنها أكثر ما يعنينا في سياق الموضوع.

البلوتونيوم

تُكتشف العناصر الكيميائية اكتشافاً بأغلب الأحوال، ولا يتأخر ظهورها تاريخياً إلا بسبب ندرتها أو لاختلاطها في الطبيعة بمواد أخرى واختبائها في الثنايا. لكن البلوتونيوم مختلف عن كل هذا، فهو يكاد يكون عنصراً مخترَعاً ولم يظهر إلا عبر عملية صناعية جرت في جامعة كاليفورنيا عام 1940. ما انكشف وقتها هو أن قصف اليورانيوم الطبيعي يقود لتداعٍ مرحليّ يتحول فيه النظير-238 إلى مادة أخرى هي البلوتونيوم. التَمَع الاستخدام العسكري الممكن على الفور، ولذلك لم يُسمح لأحد بالحديث عن هذه الذرة الجديدة إلا بعد نهاية الحرب العالمية.

القنبلة النووية الأولى (بقالب بلوتونيوم) قبيل تجريبها في صحراء نيو مكسيكو وبعد رفعها أعلى برج التفجير، 1945.

أهم ما في البلوتونيوم هو أن الكتلة اللازمة لتصنيع قنبلة منه أقلّ من اليورانيوم بكثير. والواقع أن أول تفجير نوويّ أجراه البشر كان باستخدام هذا العنصر المخترَع، لا باستخدام اليورانيوم. كان هذا تفجيراً تجريبياً أجراه الأمريكيون عام 1945 في صحراء نيو-مكسيكو  قبل أن يُعيدوا الكرّة في غضون شهرٍ ويستخدموا قنبلة بلوتونيوم ثانية (على هدفٍ حيّ هذه المرة)، ويدمروا بها مدينة ناغازاكي بعد 3 أيام من تسويتهم لهيروشيما بقنبلة يورانيوم. ويَعتقد عدد من المهتمين في تأريخ هذا الموضوع أنَّ دافع الأمريكيين لم يكن عسكريّاً بحتاً، بل "بحثياً" وغايته استشكافُ أثر قنابل البلوتونيوم على أهداف "مدينيّة" بعد أن جُرّبت قنبلة اليورانيوم في هيروشيما. 

هامش أخير

بدأت مسألة الذرة مسألةً فلسفيّةً أيام الإغريق، وخاض علماء الكلام الإسلامي نقاشات عديدة حول "الجزء الذي لا يتجزّأ"، واختلفوا في الأشياء المقسومة؛ هل تنتهي لجوهر لا يقبل القسمة أم أن المسألة تمضي بغير انتهاء. ومع تآكل سلطان الفلسفة في مسائل الطبيعة، اجتاح الفيزيائيون غمار السؤال، ولم يكن ما تكشّف حينها يخصّ الذرة وحدها، بل الفكرة العلمية بذاتها: أنّ للذرة فيزياءَها الخاصة، وأنّ منطق الأشياء مرهون بأبعادها، وأنّ الفارق بين الكبير والصغير في ظواهر الطبيعة ليس مسألةً نسبيّةً وحسب، بل يمكن أن يكون افتراقاً تاماً في الطبيعة والسمات. على أكتاف هذه الفكرة، نما العِلم اللازم لإنجاز القنبلة الأولى. وحصل أمرٌ لافتٌ حينها، فكما وفّرت الذرّة مثالاً على تغيُّرِ منطقِ الأشياء إذا ما صغُرت كثيراً، بَيَّنت قنبلتُها تغيرَ منطقِ الأشياء إذا ما كبُرت كثيراً، إذ لم تكن القنبلة الذرية تكبيراً لقنبلة عادية وحسب، بل تغييراً في معنى السلاح ومنطق الحرب.

(تأتي هذه المادة في ثلاثة أجزاء، الأول يتناول فيزياء المسألة النووية لغير المختصين. والثاني يتعلق بترسانة "إسرائيل" الذرية، والثالث بالمحاولات النووية التي عرفها العالم العربي ودور "إسرائيل" بتدميرها).



4 أبريل 2019
لماذا كان ماركس على حقّ؟ 10 أجوبة

السؤال ببساطة: لماذا لا تزال الماركسيّة صالحةً لفهم عالمنا المعاصر، على الرغم من التغيّرات التي طرأت عليه؟ الإجابة ببساطة: ما…