29 فبراير 2020

صورة المجتمع الإسرائيليّ كما تعرضها نِتفليكس

صورة المجتمع الإسرائيليّ كما تعرضها نِتفليكس

تضمّنت منصةُ "نتفليكس" Netflix لإنتاج وتوزيع الأفلام والمسلسلات العديد من الأعمال الإسرائيلية خلال العقد الأخير. ولا يمكن التعامل مع هذه الإنتاجات بمعزلٍ عن الجهد الإسرائيليّ لترويج ونشر الرواية الصهيونيّة.

بلغ عدد المسلسلات والأفلام الإسرائيلية على المنصة 13 إنتاجاً، وقد لا تكون كبيرة فعلاً مقارنةً بعدد الإنتاجات التي تقدّمها المنصة عموماً، ولكن هذا العدد من الإنتاجات الذي يروّج لأعمال وسياسات سلطات الاحتلال، يتحوّل إلى جرعةٍ مكثّفةٍ من الدعاية الإسرائيليّة على الشبكة.

جواسيس وملائكة

أوّلى الإنتاجات الإسرائيليّة البارزة كان مسلسل (Hostages (2013، ويحكي قصّةَ عصابةٍ تخطف عائلةَ الطبيب الذي سيُجري عمليةً جراحيّةً لرئيس الوزراء الإسرائيلي، وذلك بهدف إجباره على قتل رئيس الحكومة. وبعد عامين اشتهر مسلسل "فوضى" (2015) الذي يحكي بأجزائه الثلاثة قصص وحدة مستعربين إسرائيليّة.

وشهد عام 2018 نقلةً في الحضور الإسرائيلي على "نتفليكس"، إذ أُطلقت في العام ذاته أربعة أعمال بارزة، منها المسلسل الوثائقي Inside The Mossad الذي يقابل عدداً من قيادات الـ"موساد" والعاملين فيه. ثمّ مسلسل When Heroes Fly عن مجموعة من الجنود الإسرائيليين قاتلوا في حرب 2006، ويعاني أحدهم من أزماتٍ نفسيّةٍ بعد الحرب. وكذلك فيلم The Angel الذي يتناول قصة العميل المصريّ أشرف مروان المثيرة للجدل، متبنياً الرواية الإسرائيلية حولها. كما عرض نتفلكس الفيلم الكوميديّ Maktub، حول شابين نجيا من عملية فلسطينيّة في القدس، وعلى أثر ذلك يقومان بمراجعة كل أفعالهما في الحياة والبحث عن نمط متدين.

بعدها، إلى جانب أعمال أخرى، برز المسلسل القصير The Spy المؤلّف من 6 حلقات حول قصة العميل الإسرائيلي إيلي كوهين منذ بداية تجنيده وصولاً إلى نشاطه في سوريا وحتى انكشاف أمره وإعدامه.

اقرأ/ي المزيد: "نِتفليكس.. عرس دم في جنازة التلفزيون".

ما بعد البطولة؟

يوضّح أوري بن إليعيزر Uri Ben-Eliezer في كتابة "حروب إسرائيل الجديدة"، أنّ حرب أكتوبر عام 1973، والتي فاجأت القوّات الإسرائيليّة، كانت بداية توجّه إسرائيليّ نحو تعميق النزعة العسكريّة في المجتمع الصهيونيّ. بعد هذه الحرب بدأ تحوّل اجتماعيّ إسرائيليّ نحو مفهوم "الأمة العسكرية" بدلاً من "الدولة العسكريّة"، وذلك على حد تعبير بن إليعيزر.1أوري بن إليعازر، "حروب إسرائيل الجديدة: تفسير سوسيولوجي- تاريخي". ترجمة: سعيد عياش، (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار، 2017)، ص 68. 

تحوّل المجتمع الإسرائيلي، وبخاصةً بعد الانتفاضة الأولى والثانية والهزائم المتتالية في لبنان، إلى ما تُمكن تسميته "مجتمع ما بعد البطولة"، بحيث انخفض استعدادُ الفرد الإسرائيلي للمشاركة في القتال وتراجع التوق للبطولة. ويعبّر عن ذلك انخفاض أعداد اليهود المُتجندين في الجيش من 77% عام 2005 إلى 69% عام 2019 عند الرجال، بينما انخفضت عند النساء في نفس هذه الفترة من 59% إلى 56%.

تبدو الأعمال الإسرائيليّة المعروضة على نتفليكس كأنّها محاولةٌ منهجيّةٌ لترميم قيم البطولة والعسكرة من خلال الإنتاج الدراميّ والوثائقيّ والسينمائيّ. وهي تستعيد نماذج البطولة والتضحية من أجل "إسرائيل"، والتي من شأنها أن تحفّز الفرد الإسرائيليّ للانخراط في الجيش. وبرزَ هذا الترويج على مستوى كبير في عملين؛ The Spy و- The Angel. حيث آثر "الأبطال" في هذه الأعمال المنفعة الإسرائيلية كهدفٍ أسمى من رغباتهم ومنافعهم الشخصيّة.

من مسلسل "الجاسوس" عن الجاسوس الإسرائيلي إلى سوريا إيلي كوهين

اتسمت شخصية إيلي كوهين، بطل مسلسل "الجاسوس" بالمغامرة والتضحية والعمل الجاد في الأراضي السورية من أجل "إسرائيل". يصل كوهين إلى مستوى عالٍ في الحكومة السورية حتى يُعرض عليه منصب نائب وزير الدفاع السوري، وينتهي به المطاف قتيلاً بغية تحقيق هدفه المنشود - أمن "إسرائيل". بل ويُظهِر كوهين نموذجاً متهوراً للبطولة. مثلاً؛ يبالغ بالاقتراب من مراكز سوريّة عسكريّة، من أجل نقل معلومات حولها، ويستمر في إرسال معلومات لـ"إسرائيل" رغم كلّ التحذيرات التي أُرسلت له، ورغم وجود عائلة له وطرح إمكانية إنهاء مهمته والعودة.

أما فيلم "الملاك" فيعرض شخصية أشرف مروان، العميل المصريّ، وكأنه البطل القوميّ الذي أنقذ "إسرائيل"، من خلال إعلام المخابرات الإسرائيلية بموعد القصف السوريّ المصريّ المشترك على "إسرائيل".

ويتضح إعلاء قيمة البطولة أيضاً في أعمال أخرى مثل مسلسل "فوضى"، والذي حقق مشاهدات مليونيّة عالميّاً. وتدور أحداثه حول وحدة للمستعربين تلاحق مقاومين فلسطينيين، تُهزم وتفشل الفرقة في أحيانٍ وتتراجع ولكنها تعود وتحقق تفوقاً رغم عدم امتلاكها تجهيزاً عالياً في كثير من الأحيان، خاصّةً في المهمات الميدانية. ويخفي المسلسل في مواضع كثيرة، مثلاً، التفوق التكنولوجي الذي تستعين به "إسرائيل" لإنجاز مهامها، وذلك لإبراز بطولة الأفراد. كما تظهر الفرقة تمرداً كبيراً من أجل إنقاذ حياة الإسرائيليين.

مشهد من مسلسل The angel

أما وثائقي "في داخل الموساد" فهو عبارة عن مقابلات ترويجيّة للجهاز مع قادة وعاملين فيه يتحدثون عن بطولاتهم ويبرزونها بشكلٍ كبيرٍ. ويتكرر هذا في وثائقي "منتجع غوص البحر الأحمر"، الذي يَبـرُز فيه دور الإسرائيليّ الذي ينفذ مهمات خارج "إسرائيل" من أجل تحقيق مصلحتها ونقل المهاجرين. أو في مسلسل "عندما يطير الأبطال" الذي يعالج قضية الأمراض النفسيّة التي يعاني منها الجنود أثر الحروب، ولكنه في الوقت ذاته يُـبرز نموذجَ البطولة والتضحية العالية لمجموعة الجنود نفسها التي توقف كل حياتها من أجل البحث عن حبيبة رفيقهم، رغم كل الصعوبات ومقتل أحد أفرادها خلال هذه العملية.

العفريت الإثنيّ على الشاشة

أنشأت صناعة "إسرائيل" كدولة استعمار استيطانيّ خليطاً من السكان اليهود من خلفيات إثنية وثقافية متعددة، مما أدّى إلى قيام مجتمع غير متجانس. وأنتج هذا التمايز صراعات داخل "إسرائيل"، بين اليهود الشرقيّين والأشكناز خاصةً، وأدى إلى عدة هزات سياسية واجتماعية، فيما بقي "العفريت الإثنيّ" مؤرقاً طوال الوقت لها.

لذلك، فقد عملت "إسرائيل" وفق رؤية "بوتقة الصهر"، وأنشأت آليّات مؤسساتيّة تعتمد أجهزة إعادة التنشئة الاجتماعية لكل أجيال المهاجرين التي وصلت بعد قيام كيان الاحتلال. وظهرت حاجة لأسرلة المهاجرين الجدد و"أشكنزتهم" ليتم استيعابهم في المجتمع. 2باروخ كيمرلينغ، المجتمع الإسرائيلي: مهاجرون مستعمرون مواليد بلد. ترجمة: هاني العبد الله، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011)، ص 262.

في هذه الحالة، كان الجيش أهم وأبرز أدوات بوتقة الصهر، ويشكّل ركيزة أساسيّة في المجتمع الإسرائيلي. وتوصف "إسرائيل" بالدولة الثكنة التي لم تتطور بوصفها دكتاتورية عسكرية، بل عبر سيطرة اختصاصي العنف (هيمنتهم في الحقيقية دون سيطرة مباشرة) على عملية صنع القرار، وعلى الثقافة السياسية السائدة التي تمجد العسكر وقيمه، ويعمل فيها الجيش باعتباره بوتقة الصهر الرئيسية للأمة.3عزمي بشارة، "الجيش والسياسة: إشكاليات نظرية ونماذج عربية". (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 48 – 49. 

تظهر الفروقات الاجتماعيّة في الإنتاجات الإسرائيلية على نتفليكس، إنما دون التعامل معها بمنطلق الهيمنة السابقة، بل في محاولة أكبر لاستيعابها وتحليلها، ودفع أدوار اليهود الشرقيين إلى المقدمة. في مسلسل "فوضى" مثلاً، يلعب بطلُ المسلسل وقائد الفرقة اليهودي الشرقي -"دورون"- دوراً كبيراً فيه بمعاونة فرقته التي تضمّ أفراداً من الأشكناز أيضاً.

ويظهرُ هذا الاستيعاب في مسلسل "عندما يطير الأبطال" كذلك، عن طريق تنوّع الفرقة التي تضمُّ اليهوديَّ الشرقيَّ والأوروبيّ، واليهوديّ المتدين والعلمانيّ، والغنيّ والفقير، في انعكاسٍ أكبر للتمايزات داخل المجتمع. في هذا المسلسل، يظهر البطل شرقيّ الملامح. في الوقت ذاته يُركّز العمل على مقتل اليهوديّ الأشكنازي دفاعاً عن قضيّة البطل الشرقيّ. كما يظهر الخلاف بينهما كخلافٍ عسكريّ سياسيّ، حول مسؤوليّة مقتل قائد وِحدَتِهم خلال حرب 2006، وليس خلافاً ثقافيّاً إثنيّاً. هكذا، يحاول المسلسل تجاوز كل الخلافات الحقيقية والقائمة، ونقلها إلى مستوى آخر، وهو النزاع داخل الدولة ومن أجل مصلحتها.

مشهد من مسلسل The Good Cop

أما في مسلسل "الشرطي الصالح" The Good Cop فتظهر هذه المعضلة مرة أخرى. فيكون الشرطي الذي تدور حوله أحداث المسلسل من أصولٍ شرقيّةٍ وعاش في أحد أحياء تل أبيب الفقيرة، وتظهر عليه الأفكارُ المسبقة المرتبطة بالرجل الشرقيّ، مثل التهور والعصبية والمبالغة في الاعتداء على الناس، فيما يظهر على والده البُخل المبالغ فيه وهي فكرة عنصريّة مسبقة ترتبط ببعض الهويّات اليهوديّة الشرقيّة. كما أنَّ أعضاء المركز الذي يخدم فيه الشرطيّ من كافة فئات المجتمع، ومن بينهم شرطيّ عربيّ. ويظهر التمييز ضدّه أحياناً من خلال المهام التي تناط به.

وفي مسلسل "الجاسوس" الذي كان بطل القصة الحقيقية له إيلي كوهين، يُظهر المسلسل دورَ قادته الأشكناز وخوفهم عليه وحتى محاولة مخالفة التعليمات المهنيّة من خلال الاعتناء بعائلته الشرقيّة خلال قيامه بمهمته.

في الوقت ذاته، تعكس هذه الأعمال التهميش الأساسيّ الذي لا يزال متجذراً في المجتمع الإسرائيليّ، وهو تهميش اليهود سود البشرة. إذ لم تظهر أدوار ليهود سود البشرة في أي من الأعمال، إلاّ في وثائقي "منتجع غوص البحر الأحمر" الذي لم يكونوا فاعلين فيه، بل ضحايا ينقذهم اليهود الأشكناز من خلال نقلهم إلى "إسرائيل".

صورة فحسب

جُذِّرَت العسكرة في مركز الثقافة السياسية الإسرائيليّة، وأصبحت بمثابة الديانة المدنية للدولة، فأخذت ثقافة العسكرة محوريتها في كثير من السجالات الإسرائيلية عن مفهوم الدولة، لتنتقل العسكرة وكأنها أصبحت رمزاً يعطي "إسرائيل" نوعاً من التماسك ويسدّ كثيراً من الفجوات داخل المجتمع الإسرائيليّ، ويغطي على الكثير من الفجوات الإثنية والعرقية.4كيمرلينغ، مرجع سبق ذكره، ص 15.ويبدو أن "إسرائيل" اتخذت الإنتاجَ الدراميّ والوثائقيّ والسينمائيّ ساحةً أخرى للاستعراض بهذا الجزء من التماسك، وفي المقابل التستر على شروخ كبيرة ما زالت ظاهرة في المجتمع الإسرائيليّ.

تعكس المسلسلات صورةَ مجتمعٍ إسرائيليّ متنوّع. إلا أنّ الحقيقة تحمل تاريخاً طويلاً من السعي المؤسساتيّ لفرضة الهيمنة الثقافيّة الأشكنازيّة على اليهود الشرقيين، وطمس هويّتهم الثقافيّة العربيّة، كأداة لتطويعهم ضمن المشروع الاستعماريّ. تحاول هذه المسلسلات خلق صورة جامعة تتجاوز الفروقات الإثنيّة، إلا أنّ هذه الفروقات والفجوات لا تزال قائمة وجذريّة على أرض الواقع. أما المسلسلات فتحاول تخطّيها من خلال تصوير شكليّ لمجتمعٍ إسرائيليّ متجانس.