2 مارس 2019

نِتفليكس.. عرسُ دمٍ في جنازة التلفزيون

نِتفليكس.. عرسُ دمٍ في جنازة التلفزيون

نِتفليكس Netflix كائنٌ مسعور نهماً لافتراس التلفزيون. "يفصفص" جثّته بتأنٍ، يستفرد بمركّباته واحداً تلو الآخر. "يغيّره"... هكذا يقولون. يغيّره مثلما يمضغ الشباب ميراث أجدادهم ثم يبصقون الكهولة. لم يعط نتفليكس للتلفزيون كرامة الدفن حتّى. أبقى جسده -جهاز التلفزيون- رابضاً في صالونات البيوت موصولاً بحبل مشنقته: وصلة الإنترنت. لم يعد التلفزيون إلا جسداً عديم الإرادة. عبداً لنتفليكس، يبثّ مضامينه مثله مثل كلّ الأجهزة الأخرى. صار الجهاز خياراً من خيارات كثيرة أخرى تفوقه خفّةً. جدّنا الذي ظلّ جالساً في صمت البيت، بينما انطلق الأحفاد في شوارع الزمن الجديد.

قتل نتفليكس التلفزيون. أخرجه من الزمن، وقدّم صدمةً غير محتملةٍ لعلاقة التلفزيون بالوقت. ببساطة؛ لم يعد هناك جدول زمنيّ للبرامج. لم يعد يوم التلفزيون محدوداً بـ24 ساعة يوميّة مثلما نحن محدودون. لم يعد التلفزيون كما كان، يوماً واحداً يجمع الناس: كانت برامج الأطفال تظهر في السابعة صباحاً قبل ذهابنا إلى المدرسة. تفاهات "برامج الصباح" تُقدّم لأمهات كتب عليهنّ الرجال التزام البيوت وعدم الخروج إلى العمل. ثم رجال يرفعون أقدامهم على طاولات العشاء بعد العودة من العمل، يُبرطمون هذراً مع محللي السياسة ويطالبون -كل يومٍ في تمام التاسعة مساءً بالتوقيت المحليّ- بالحرب. ثم زوجان يغفوان بمللٍ أمام فيلمٍ رومانسيّ لا يمت لحقيقتهما بصلة. وحينما ننام، وتهذر في أحلامنا صورٌ مستعادة رأيناها في أيّامنا الماضية، يكون التلفزيون مثلنا، نائماً أيضاً، يبثّ حتّى الفجر إعادةً لبرامج الأيّام الماضية. هذا اليوم الجمعيّ الواحد الذي كان التلفزيون يقدّمه مات. أما نتفليكس، فإن اليوم فيه 150 مليون يومٍ، مجتمعةٌ في آنٍ.

قُتل الوقت، انهارت أعمدة الإعلان، سقطت قلاع التلفزيون

لم يعد الوقت "حيّزاً عاماً" مشتركاً للجميع وتمتلكه الدولة. حوّلته التكنولوجيا إلى ملكٍ يخصّ كل إنسان يدفع أُجرته شهرياً لنتفليكس. المعلم الأبرز لهذا التحوّل هو اختفاء "وقت الذروة" Prime Time. لم يعد مضمونٌ واحد يجمع دولة أو قارة في ساعة واحدة من الشعور المشترك بالإثارة. مع انحلال محدوديّة الوقت، انعدمت قيمته، وانعدمت إمكانيّة تثمينه بحسب "جودة" الشرائح المشاهِدَة واتساعها. ومع انعدام قيمته، لم يعد أي معنى للسباق الماليّ على شراء الوقت. هكذا سقط عمود رئيسيّ من قلعة التلفزيون... مات الإعلان التلفزيونيّ؛ وداعاً لـ"شلّة" الأطفال المزعجين، المضحكين أحياناً، التافهين أحياناً، ممن يقطعون حبل أوهامنا الذي يسحبنا إلى قلب الفيلم أو المسلسل أو البرنامج، سالباً حواسنا وأفكارنا بسحرٍ. هذا ما يقترحه نتفليكس، وهذا سرّه أصلاً؛ إنه يقدّم تجربة مشاهدة لا ينقطع الوهم فيها لساعات وساعات، ننتقل من حلقةٍ إلى أخرى دون أن يعطّل تجربتنا الحسيّة أي شيءٍ خارجيّ، أي إعلان يحيلنا إلى العالم الحقيقيّ.

هذا ليس مجرّد عاملٍ. الإعلان التلفزيوني عمودٌ تسقطُ من دونه مفاهيم أساسية في الإنتاج التلفزيونيّ. منها طريقة كتابة السيناريو والبرامج للتلفزيون. لم تعد كتابة الحلقات مرتبطة بمواقيت الإعلان. بات العمل الدراميّ يمتلك حريّة أكبر بكثير في بناء السيناريو. الكتابة للتلفزيون رهينة قواعد كتابة صارمة؛ محدّدة بفصولٍ مقطّعة بوضوح تتيح وقفة الإعلانات في اللحظة الصحيحة لإجبار المشاهد على مواصلة المشاهدة. الأمر نفسه ينطبق على نهايات الحلقات التي تنتهي دائماً في ذروةٍ تبتغي تعليق عنق المشاهد بحبل الترقّب، حتّى يعود ويفتح التلفزيون في اليوم أو الأسبوع التالي. هذه الاضطرارات، وغيرها الكثير، شكّلت قيداً شديداً على الإبداع التلفزيونيّ. حين سقطت، أُفسح لنتفليكس المجال ليعيد اختراع قواعد الإنتاج التلفزيونيّ من جديد.

لكنّ قوالب التلفزيون الصارمة في الكتابة والإنتاج لم تتكسّر بشكلٍ عشوائيّ. لم تنفتح للإبداع الحُرّ بأي شكلٍ من الأشكال. مثلما وُجدت نقاط الـRating التلفزيونيّ لتقيّم الوقت وتثمّنه، وتبني الإنتاجات وتقيّد الإبداع بحسبه، فإن المعلومات التي تجمعها نتفليكس وتحلّلها تقيّد بدورها خيارات نتفليكس في الإنتاج والكتابة. تجمع الشركة تقييمات المشاهدين، تحلّل سجلّ البحث، وتتابع أنماط المشاهدة: أي مسلسلات نتابع حتّى النهاية؟ بأي سرعةٍ نجهز على الحلقات كلّها؟ أين ومتى نشاهد، وما عدد ساعات مشاهدتنا؟ عند أي مشاهد نتوقّف لنعود ثواني إلى الخلف؟ عن أي مشاهد نقفز؟ ما الذي نفعله بعد مسلسل يتميّز بطابعٍ معيّن؟ ما طبيعة ألوان الأفلام التي نختارها؟ ما ارتفاع الصوت الذي نختاره؟ إلى آخره... هذه كلّها قرارات نتّخذها نحن كمشاهدين في قلب نتفليكس. وهي قرارات تُجمع وتُحلل وتغذّي الخوارزمية Algorithm الذي تقترح علينا مشاهدة المزيد والمزيد من الأفلام والمسلسلات، بناءً على ما اخترناه سابقاً. لكنّ الأهم من هذا، أنّ المعرفة القائمة على هذه المعطيات، تشكّل خيارات الشركة في إنتاجاتها، والأهم أنّها هكذا تضع القواعد الحديديّة الجديدة لكتابة الدراما.

Bandersnatch: نتفليكس تروي سيرتها الذاتيّة…

من هذه الزاوية يجب أن يُشاهد Bandersnatch. الفيلم "التفاعليّ" الذي أنتجته الشركة ضمن سلسلة Black Mirror هو، دون أدنى شكّ، السيرة الذاتيّة لنتفليكس. يعطي الفيلم للمشاهد "حريّة اختيار" السيناريو. للفيلم نهايات مختلفة ومسارات كثيرة مختلفة يمكن للمشاهد أن يحوّل بينها لساعات. مصائر مختلفة للشخصيّات، تتغيّر كلّها بحسب الفرد المشاهِد. تراكم خياراتنا، الذي يجعلنا ذاتاً مختلفة عن أي ذات أخرى، يشكّل الفيلم الخاص بنا. تماماً كما يشكّل كل فردٍ منّا نتفليكس الخاصة به. لكن هذا ليس إلا طرف الخيط. الفتى البطل في الفيلم (وهو مبرمج ألعاب الفيديو الهاوي) يتساءل في Bandersnatch عن مصدر القوّة التي تشكّل خياراته وبالتالي تشكّل قصّته، لكنّ الإجابة التي يجدها دائماً، تأتي على لسان شخصيّة أخرى أكثر تمكّناً وتقدّماً من الفتى تكنولوجياً وعلمياً، وتقدّمه هذا (مثل تقدّم نتفليكس) علّمه الإجابة المتعلّقة بانعدام وحدة الوقت: المسار الزمنيّ الواحد كذبة، هناك مسارات مختلفة، ما لا نهاية من المسارات، وفي كل واحدٍ منها إمكانيّة لأحداث أخرى. وجود إمكانيّة تعدد القصص يجد أصله، قبل أي شيءٍ آخر، في انحلال محدوديّة الوقت. في الفيلم، الشخصيّة الأكثر تقدّماً تدعو الفتى ليدخل عالماً تنعدم فيه وحدة الوقت. وهذا تماماً ما تفعله نتفليكس فينا.

Bandersnatch يختبر خياراتنا طيلة الوقت، تماماً كما تفعل نتفليكس، ويبني المضمون بحسبها. ليس على صعيد الأحداث. فالفيلم لا يطلب منّا أن نقرّر "ماذا سيحدث" فقط. هذا المستوى الأكثر بساطةً. Bandersnatch يطلب منّا أن نختار الموسيقى أيضاً، أن نختار ما الذي سنكشفه من الماضي، أن نختار ما الذي ستأكله الشخصيّة دون أن يشكّل ذلك أثراً فورياً على الأحداث. تجمع نتفليكس كل هذه القرارات وتحلّلها. مثلاً، في إحدى الخيارات يُطلب من المشاهد أن يُسجّل رقم هاتفٍ يجب أن يعرفه بناءً على لغز كلاميّ في نص السيناريو. هكذا، تمتحن نتفليكس، بأوقح الطرق الممكنة، وفي ذروة الدراما، سرعة بديهة مشاهديها في فكّ الرموز، وهكذا تقرر مستوى التعقيد الذي يستطيع المشاهد أن يتقبّله في أعمالها القادمة.

... ويحمّل التلفزيون ذنب الكارثة

لكنّ الأكثر جمالاً في Bandersnatch هو تعامل الفيلم مع التلفزيون. يظهر التلفزيون في الفيلم في ثلاثة مواضع أساسيّة. الأوّل حين يشاهد الفتى البطل تسجيلاً لتقرير تلفزيونيّ عن الكاتب الذي يعتبره الفتى مصدر وحيه وإلهامه. ما نشاهده هناك في التلفزيون دمويّ جداً. دمويّ ومقطوع بإعلانات. فالتلفزيون بدوره كائن دمويّ، لطالما تطلّب وجوده المزيد من صور العنف والقتل والدم والبورنوغرافيا (على أنواعها) الذي ينقلها البث إلى العالم لحظةً بلحظة، ومقاطع الإعلانات فيه ناتجة أيضاً عن اختياراتنا السابقة. هذا العالم كلّه، بتناقضاته العميقة التي تسمح ببث صور الجرائم الدمويّة بعد لحظات من بث دعاية مأكولات الأطفال؛ هذا ما يحمل الإلهام للفتى الذي يخطو متقدّماً في العالم الجديد.

الظهور الثاني للتلفزيون يتعلّق أيضاً بماضي الفتى. نعود إلى الماضي، ونرى الفتى أمام التلفزيون وهو يتلقّى أخباراً عن كارثته الشخصيّة. عن مصابٍ جلل. إن الفاجعة التي هاجمته من قلب التلفزيون هي التي شكّلت شخصيّته المركّبة. نتفليكس تصرخ: نحن لسنا إلا صنيع هذا الماضي، كل ما نفعله جاء من المصيبة التي حملها التلفزيون للمجتمع قبلنا بكثير. والمصيبة كما تأتي في الفيلم تضرب في صلب المسألة الاجتماعيّة: إنها السبب في انهيار "البيت"، تفكك مبنى العائلة الذريّة وزمنها المشترك، والتطرّف الشديد في وحدة الفرد بكل ما تستدعيه من اضطرابات نفسيّة ونفور من الآخر... وكراهيّة الأب.

الظهور الثالث للتلفزيون في الفيلم يضرب أيضاً في ماهيّة نتفليكس: برنامج تلفزيونيّ يظهر فيه مقدّم برامج يقيّم لعبة الفيديو التي برمجها الفتى: Bandersnatch. نحن المشاهدون، من نصنع 150 مليون نتفليكس مختلفة، كل واحد منّا يصنع، عملياً، تلفزيوناً مختلفاً من قلب خيارات معطاة. هذا التلفزيون الذي تصنعه خياراتنا لا يكتمل إلا من خلال عمليّة التقييم التي نُجريها مرةً تلو الأخرى لما نشاهده.

دمٌ على أسنان الخوارزمية، يصبغ شفاهنا كلّما قبّلناها

الخوارزمية تستبدل الوقت. هي السائِد الموحِّد للجميع، لا شيء غيرها. في حقيقة الأمر، إن خوارزمية Bandersnatch هي ما يحكم حركتنا في الفيلم. تُعطينا الوهم بأنه ليس فيلماً أرثذوكسياً، وأننا نستطيع التحرّك فيه كما شئنا. لكنّها (الخوارزمية) وهي تكتب سيرة نتفليكس، تحكي الحقيقة كاملة: تقترح علينا خيارات معيّنة، لكننا حينما نقرر التقدّم في مسارها، تمنعنا وتختار المسار كما تشاء نتفليكس. لا يُخفي الفيلم التفاعليّ هذه الحقيقة، بل يضعها أمامنا: الخوارزمية هي السيّد، والخوارزمية تُجبرك أحياناً على أن تتّخذ خيارات معيّنة. بل إنها، يا للوقاحة، تضعك أحياناً أمام خيار واحدٍ، لكنها تنتظرك لتضغط عليه لتشعر بأنك أنت الذي اخترته!

هذه نتفليكس، وهي "تغيّر"... هكذا يقولون. تستبدل الوقت، باعتباره مورداً تقسّمه الدولة (بالبث العام أو بخصخصة البث)، تحرّرنا منه مع تحرّرنا كأفراد من المجتمع (وليس تحرّرنا كأفراد في المجتمع)، لكنّها تُخضعنا للخوارزمية. تبني علاقة حبٍّ مهووسة ومرضيّة، نضيع فيها، وتسيطر علينا. لكنّ المثير فعلاً، أن الخوارزمية هذه، نفسها، تتشكّل وتتجدد وتتعلّم وتتعاظم، من قراراتنا نحن. لكنّها ليست قراراتنا كجماعة تُبنى أخلاقيّات أفرادها من خلال تفاعلهم مع الآخرين. إنما تُبنى الخوارزمية من قراراتنا كأفراد، كل لوحده حيث يشاهد، في سريره ليلاً، في تجاهله لبؤس الناس وهو يشاهد نتفليكس في محطّة الحافلات. الخوارزمية التي تحكم حياتنا تتعاظم، وتنفلت هيمنتها، حين تتعلّم من قراراتنا كأفراد لدينا ما لدينا من فنتازيا شرّيرة ودمويّة وشرهة. كلما تعاظمت هيمنة الخوارزمية، زادت هيمنتة نتفليكس، وزاد إنتاجها للمزيد مما سيجعلنا نستهلكها، أكثر فأكثر، وزاد بالتالي غرقنا في الوهم، في عوالم غير عوالمنا، ووسّعت في أعماق أعماقنا، في بلاد الوِحدة والكآبة الإنسانيّة المعاصرة، مساحات شاسعة من شهوتنا للشرّ.