24 يونيو 2024

لن يطرق المستوطن باب المنزل

<strong>لن يطرق المستوطن باب المنزل</strong>

جالساً على أريكته في بيته، باطمئنان مناطق "أ" التي تحكمها السلطة الفلسطينية على مساحة 18% من الضفّة الغربيّة. رنّ الجرس ليُفسِد عليه صفو هذا الاسترخاء، فقرّر تجاهله. لكن صاحب القرع أصرّ على قرعه، ولم يتوقّف عند عدد ثلاثة كما ظنّ صاحبنا، وهو "الكود" الأخلاقي والإسلامي الساري في بلادنا. 

قرّر صاحبنا النهوض عن كرسيّه، بشيءٍ من الغضب المصاحب لبعض الجمل الجارحة، التي حضّرها لملاقاة الطارق بدلاً من استقباله بـ "أهلاً وسهلاً، تفضّل". 

لكن الله ألهمَه أن ينظر من خلال العين السحرية للباب قبل أن يفتحه، فوجد شيئاً غريباً عجيباً، من شأنه -في ظروف صحيّة أخرى- أن يوقف قلبه مثلاً، فسار في جسده خدرٌ جمّده عن الحركة. "من على الباب؟"، سألت زوجه، بينما كان أطفاله يلعبون في إحدى الغرف. لم يُجب كيلا يُفزعها، وأراد أن يخبرها بشيءٍ من التدرج، لكنه لم يستطع، فانزلقت منه الإجابة: "مستوطنون"!

لن تحتاج جهداً لتدرك أنَّ هذا السيناريو خيالي، لكن من الخطأ -تحديداً في هذه الأيام- أن تظنّ أنّه مستحيل، فهو يدنو من أن يكون حقيقةً واقعةً يوماً بعد يوم. غير أنَّ جزئيةً واحدةً أتفق معك على عدم واقعيّتها، أنهم بالتأكيد لن يقرعوا الجرس، ولكنهم سيقتحمون المنزل اقتحاماً. 

"غلاف طولكرم"؟!

في 30 أيار/ مايو الماضي، شغّل وزير المالية الإسرائيلي والوزير المسؤول عن الإدارة المدنيّة داخل ما يُعرف بـ"وزارة الدفاع" للاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، سيّارته، وانطلق من مكان إقامته في مستوطنة "كدوميم" المقامة على أراضٍ  ثلاث قرى من محافظة قلقيلية شمال الضفّة، لمقابلة رؤساء السلطات المحليّة للمستوطنات المتواجدة على "خط التماس" -كما أسماها-، وذلك على إثر تنفيذ عناصر من "كتائب القسّام" من مدينة طولكرم عمليّة إطلاق نار صوب مستوطنة "بيت حيفر" المحاذية للجدار الفاصل غربي المدينة.

وبعد أن أنهى سموتريتش جولته، ظهر في مقطع فيديو والجدار الفاصل من خلفه، مهدّداً ومتوعّداً مدن شمال الضفّة: "رسالتنا للجيران خلف الجدار، في طولكرم ونور شمس وشويكة وقلقيلية، سنجعلكم أنقاضاً كما في قطاع غزة، إذا استمر الإرهاب الذي تمارسونه ضدّ البلدات". لكن كلامه هذا، اكتسب أهميةً إضافيّةً حين توجّه بعدها برسالةٍ إلى أهله وعشيرته: "الرسالة لمواطني إسرائيل هي أنه إذا تم، لا قدّر الله، إقامة دولة فلسطينية، فإن ما حدث في بلدات غلاف غزة في 7 أكتوبر، يمكن أن يحدث هنا أيضاً، لا سمح الله، ولذا فإن هذا لن يكون. سنضرب الإرهاب، وسنستمر في السيطرة على يهودا والسامرة. هذه هي المنطقة العازلة للبلدات على طول خط التماس، والمدن الكبرى الواقعة إلى الغرب من هنا داخل دولة إسرائيل".

وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، يسير مع جنود الاحتلال في كيبوتس كفار عزة بالقرب من قطاع غزة في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. (تصوير: جيل كوهين ماجن/ وكالة الصحافة الفرنسية).

هذا ما قاله سموتريتش. كلام في ظاهره التهديد والوعيد لطولكرم وقلقيلية، لكن في باطنه شيء آخر. فمذ شبّ عرّاب الاستيطان، وتسلّم حقيبتين وزاريتين، واجتاحه الطوفان على هذه الحال، وهو يسعى إلى أن يزرع في التربة الاستيطانيّة الخصبة في الضفّة بذورَ الاستعداد لمواجهةٍ قادمة، فمستوطنو الضفّة هم التلاميذ النجباء لدرس غزّة. لذا يصرّ سموتريتش دوماً على مقاربة الضفّة بغزّة، فيقول بأنّه لا سبيل أمامهم سوى ضرب المقاومة في الضفّة "للتأكد من أن كفار سابا لن تتحول إلى كفار عزة، وبيت حيفر لن تتحول إلى باري".

وقد ذهب أحد التقارير الإسرائيلية إلى أبعد من ذلك، حين جاء على لسان المتحدثين فيه من قلب "مستوطنات التماس"1المقصود بمستوطنات التماس المستوطنات الواقعة بمحاذاة الجدار الفاصل من جهته الغربيّة، أي داخل مناطق الخطّ الأخضر، وهي تحاذي أيضاً عدداً من القرى والمدن الفلسطينيّة، ولذلك تُسمّى التماس، كمثل "بيت حيفر" التي تقع على مدّ البصر من بلدة شويكة في طولكرم.، وأنّهم يواجهون "قوات النخبة" في طولكرم، وأنّهم "غلاف طولكرم" الذي يمنع هذه القوات من الدخول إلى قلب دولة الاحتلال. وهذا القول، على ما قد يبدو فيه من إطراء لأداء الكتيبة في المدينة، إذ شُبّهوا بـ "قوات النخبة القسّامية" التي جرى على أيديها العبور الكبير في السابع من أكتوبر، ودون التقليل من أهمية حالة المقاومة المتصاعدة في المدينة، إلا أنّ الهدف الأساس من هذا الخطاب الإعلاميّ ومن خطابات سموتريتش هو التسويق لدعاية مفادها أنّ تثبيت الاستيطان وتوسيعه في الضفّة هو الحامي من وصول "الإرهاب" إلى "نتانيا" و"تل أبيب"، كي لا يُلدغوا من جحر الطوفان مرّتين. 

المبالغة.. طريق المستوطنين إلى عتبة البيت

ومن أمثلة هذه الدعاية، الخبر الإسرائيلي الذي نُشر قبل حوالي شهر، وفيه: "طائرتان مسيّرتان حلّقتا من قرية شويكة في طولكرم تجاه المستوطنة على بعد حوالي 300 متر، وقد أطلق الجنود النار تجاههما وعادت الطائرتان بسلام إلى مكان انطلاقهما". طبعاً ما يشير الاحتلال إليه على أنه "طائرة مسيّرة"، هو في أحسن الأحوال "درون" للتصوير الجوي، من النوع الذي يستخدم في الأعراس مثلاً، لكن الخبر يوحي لك بأنهما طائرتان من نوع تفجيري مثلاً، أو استطلاعي استخباراتي، أدتا مهمتهما وعادتا إلى قواعدهما بسلام! 

لهذا النوع من الأخبار الإسرائيلية، أو لتلك الخطابات الإعلامية التي تحوي مفردات مثل "خط التماس" و"غلاف طولكرم" وغيرها، غاية رئيسة، ألا وهي المبالغة. السؤال الذي يتراود إلى الذهن هنا، كيف تكون المبالغة التي يذيعها عرّابو الاستيطان مفيدة لهم؟ 

في البداية، يمنح هذا الخطاب جيش الاحتلال دفعةً إضافيّةً في تنفيذ إجرامه في الضفّة، تحديداً في شمالها، وهو ما يتّضح مع مرور الوقت، فالمداهمات اليوميّة للمدن والقرى والمخيمات تطوّرت إلى حملاتٍ عسكريّة تستغرق أياماً، فمثلاً؛ نفّذ جيش الاحتلال في طولكرم منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حوالي 30 اقتحاماً ما بين واسعٍ ومحدود. وهو ما قد يتطوّر لاحقاً لشيء أقرب للاجتياح، يكون الهدف الأساس فيه هو القضاء على حالة المقاومة وحاضنتها، لا اغتيال رمزٍ هنا أو مشاغلة واستنزاف هناك. 

جيش الاحتلال يدفع بتعزيزات عسكرية كبيرة خلال اجتياحه مخيم نور شمس في مدينة طولكرم، في 20 نيسان/ أبريل 2024. (تصوير: وهاج بني مفلح/ وكالة فرانس برس).
جيش الاحتلال يدفع بتعزيزات عسكرية كبيرة خلال اجتياحه مخيم نور شمس في مدينة طولكرم، في 20 نيسان/ أبريل 2024. (تصوير: وهاج بني مفلح/ وكالة فرانس برس).

الأمر الآخر، هو دفع الحكومة الإسرائيلية لتخصيص المزيد من الميزانيات للمستوطنات وما يتعلق بها من أمن وبنى تحتية، ليس لخدمة المستوطنين وحمايتهم فحسب، ولكن أيضاً لأنهم يشكلون رأس الحربة في "المواجهة" التي يدفعون باتجاهها. وقد كشف تقرير "جيش بن غفير يتسلح: 6 ملايين رصاصة، و40 ألف بندقية"، المنشور على موقع "كالكلسيت" الإسرائيلي، أن وزارة الأمن القومي لدى الاحتلال، ستحصل على ميزانية إضافية ضخمة، منها 637 مليون شيكل مخصّصة لاستكمال مشروع بن غفير في تشكيل وبناء مئات المجموعات المسلّحة في المستوطنات، أو ما تسمى بـ "فرق الاستنفار"، التي تعني إنشاء جيش آخر للاحتلال في الضفّة.

تزامن ذلك، مع خبر "هآرتس" الإسرائيلية بأن جيش الاحتلال يدرس تزويد هذه الفرق بصواريخ مضادة للمدرعات، خشية أن تدخل سيّارات الدفع الرباعي (تويتا) إلى مستوطناتهم كما جرى يوم العبور، فلا يجدون وسيلةً للتعامل معها. ومؤخراً في 17 حزيران/ يونيو الجاري، صرّح وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت بأنهم يعملون على شراء طائرات مسيّرة وأسلحة متطورة وتسليمها لفرق استيطانية مدرّبة "لتعزيز أمن المستوطنات"، وذلك تحت فزّاعة "الخطر الإيراني" الذي يعمل على تزويد الضفة بالأسلحة. هذا القلق والاستنفار الأمنيّ حقيقي وواقعي في بعض جوانبه، فالضفّة وإن بدت هادئة فإنها تغلي على صفيحٍ ساخن. لكن من المهم هنا الانتباه إلى أن جزءاً من هذا الاستنفار له هدف آخر غير التصدي للمقاومة المتصاعدة، وهو محاولة الاستثمار في الفزع منها، والتضخيم من مظاهرها، سعياً لتثبيت حقائق جديدة على الأرض وتعزيز سيطرتهم عليها. بكلمات أخرى: هم لا يريدون فقط حراسة المستوطنة، إنما يُريدون حراستها وتوسيعها أيضاً.

اقرؤوا المزيد: "على هامش المستوطنة".

وعادةً ما يُعبّر عن هدف توسيع المستوطنة بالإشارة إلى الرقم مليون، فالخطّة أن يصبح عدد المستوطنين في الضفة بحلول عشر سنوات، مليون مستوطن، وهم ليسوا بعيدين عن ذلك، فعددهم اليوم حسب إحدى الإحصائيات حوالي 720 ألف. وفي هذا السياق مثلاً، أعلن وزير جيش الاحتلال غالانت في 22 أيار/ مايو الماضي إلغاء قانون "فك الارتباط" للمستوطنات التي أخليت قبل 19 عاماً في شمال الضفة الغربية، وهو ما يعني العمل على إعادة بنائها وإعادة المستوطنين إليها. ويمكن قراءة ذلك ما قبل وما بعد الطوفان، في أخبار المصادقة على تشريع بؤر استيطانيّة وضمها إلى المستوطنات المعترف بها حكوميّاً. 

وليس صدفة أن يكون التركيز في التحريض الإسرائيلي في هذه الأيام على طولكرم، ففي حين تنشط فيها المجموعات المسلّحة، يقلّ فيها الاستيطان مقارنة بالمحافظات الأخرى، فهي أقل محافظة ينتشر فيها الاستيطان بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وهيئة مقاومة الجدار والاستيطان، إذ فيها 3 مستوطنات (5 بحسب "أريج") و3 بؤر استيطانية، بواقع نحو 5 آلاف مستوطن.

تغيير الحمض النووي لـ "إسرائيل"

يعني توسيع المستوطنة فعليّاً ضمّ الضفة الغربيّة، وإن كان ذلك بشكلٍ غير معلن، إلا أنّه مرئي للغاية. وقد ساهم في تسريع هذه العملية استحداث وحدة "إدارة الاستيطان" كوحدة داخل "الإدارة المدنية" الإسرائيلية عام 2023، في تضافر لجهود حكومة الاحتلال مع الجيش مع التيارات الاستيطانية لإتمام مشروع السيطرة على الضفّة. 

"حكومة بنيامين نتنياهو منخرطة في خطة سرية لتغيير الطريقة التي تحكم بها الضفة الغربية، لتعزيز سيطرة إسرائيل عليها بشكل لا رجعة فيه، بدون اتهامها بضمها رسمياً"؛ قال سموتريتش لمجموعة من المستوطنين في 9 حزيران/ يونيو الجاري، وهو لقاء نشرت عنه صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية

جاء في اللقاء أيضاً ما يشير إلى مستوى أخطر من السيطرة، فسموتريتش يطمئن جماعته أنّ عملية سحب المستوطنين للصلاحيات والسلطات من الجيش الإسرائيلي تجري على قدم وساق، لكن بالتدريج. يقول سموتريتش: "لقد أنشأنا نظاماً مدنياً منفصلاً، لكن الحكومة سمحت في الوقت نفسه لوزارة الدفاع بأن تظل منخرطة في العملية حتى يبدو للعالم أن الجيش لا يزال في قلب الحكم في الضفة الغربية، وبهذه الطريقة سيكون من السهل ابتلاع الضفة دون أن يتهمنا أحد بأننا نقوم بضمها". وكعادته، طعّم سموترتيش كلامه لحاملي لواء الحكم في الضفة، بالمبالغة المحفّزة للمواجهة مع الفلسطينيين: "أقول لكم إنه أمر درامي للغاية، مثل هذه التغييرات تشبه تغيير الحمض النووي للنظام".

بؤرة استيطانية بناها المستوطنون بالقرب من قرية دير جرير شرق رام الله، في 25 نيسان/ أبريل 2024. (تصوير: زين جعفر/ وكالة الصحافة الفرنسية).

يمكن مثلاً رؤية انعكاس هذا التغيير للحمض النوويّ  في مسألة "فرق الاستنفار"، لعبت هذه المجموعات المسلّحة المكلّفة بحماية المستوطنات دوراً فارقاً، إذ حملت مسؤوليّة أمنيّة بارزة نيابةً عن الجيش الإسرائيلي الذي يتعامل مع الضفّة كواحدة من جبهات القتال، لدرجة أنها دفعته لتخفيض قوّاته المخصّصة لحماية المستوطنات، بحسب "هآرتس"، من 8 آلاف عنصر إلى ألف عنصر فقط. لم يكن ذلك ممكناً، لولا الدعم والتدريب والسلاح الذي تلقته هذه الفرق والمستوطنون بالعموم، فإذا كان عدد المستوطنين الذين منحوا رخصة لامتلاك السلاح عام 2021 هو حوالي 10 آلاف، فإن العدد قفز منذ بداية الحرب وحتى نهاية عام 2023 إلى حوالي 70 ألف تصريح، فمكالمة بأقلّ من 20 ثانية كفيلة بأن توافق وزارة الأمن القومي الإسرائيلي على طلب المستوطن! 

ومخطئ من يظنّ أن سياسة التوسع والسيطرة هذه يقع أثرها على مناطق "ج" فقط، لكنه يطال الضفّة كلّها بألفها ويائها، وإن كان صارخاً في وضوحه في مناطق "ج" بدايةً (على سبيل المثال - 18 تجمعاً سكانياً جرى تهجيرها قسرياً، بواقع  157 عائلة، و7 تجمعات هُجّر قسم منها قسرياً، بواقع 12 عائلة). 

ليس هذا أمراً جديداً، فهو مستقرّ في العقيدة الصهيونيّة والذهنيّة الاستيطانيّة، لكن الجديد نسبياً أن الأمر بات قاب قوسين من أن يوضع على سكة التنفيذ، فمن ضمن الخطط والإجراءات العقابية التي ينوي "الكابينيت الموسع" اتخاذها ضدّ السلطة الفلسطينية، هو ما يقترحه سموتريتش من فرض قوانين البناء غير القانوني في مناطق "ب" التي تتبع للسيطرة الإدارية للسلطة، وهو ما يعني بدء التوسع الاستيطاني في هذه المناطق التي تشكّل 21% من مساحة الضفة بعد أن يتمّوا سيطرتهم على الـ 61% من الضفة (أراضي ج). 

ببساطة

تلال جنوب الخليل، قرية التواني، الجمعة، 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر، كان زكريا العدرة خارجاً من المسجد ليجد مستوطنين اثنين وجنديّاً من جيش الاحتلال يعتدون على قريته. وقف العدرة بشجاعة مسلّحاً بإيمانه، أمام مستوطن جبانٍ مسلّح ببندقية. دفع المستوطن العدرة بمقدّمة البندقية، ثمّ أطلق عليه النار في صدره، هكذا ببساطة. 

وفي التلال نفسها، في مسافر يطا، اقتحمت مجموعة مكونة من 4 مستوطنين منزل عائلة محمد جبارين في 15 أيار/ مايو 2024، لكن الاقتحام كان كما لو أنهم جاؤوا لمنزلهم. دخلوا محيط المنزل، تفقّدوا حظيرة الأغنام، سألوا إن كان ثمة قهوة للشرب، جلسوا على الأريكة، وأخذوا يلفّون سجائرهم ويدخّنونها، ثمّ رحلوا، هكذا ببساطة. 

منذ بداية العام، ارتكب المستوطنون في الضفة أكثر من 546 اعتداءً بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم (877 بحسب "معطى"). وفي 3 أشهر فقط، هي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وحتى نهاية سنة 2023، نفّذوا نحو 750 اعتداءً. أما الذين استشهدوا برصاص المستوطنين منذ أن حلّ الطوفان، فهم نحو 15 فلسطينياً. 

هذه أرقام، لكن إرهاب المستوطنين في الضفّة لا حصر له. إنهم اليوم جيش مدجّج بالسلاح أكثر من أي وقت مضى، يتغذّون على خطاب دينيّ يتوعّدهم بالفناء إذا لم يستلّوا سكاكينهم ويبادروا بالهجوم، إلى أن يضمنوا رحيل آخر فلسطيني. يُنفذون إرهابهم غالباً على الطرق وفي القرى وعند أهل البدو في التجمعات السكانية النائية في مناطق "ج"، لكن من الخطأ الجسيم أن تشعر بأنه بعيد عنك؛ أنت الذي تسكن موهوماً بالأمن تحت إدارة السلطة في "أ" و"ب"، وما خبر تقليص المياه لسكّان الضفة عنكم ببعيد.

اقرؤوا المزيد: "المستوطن وسلاحه على رأسك: معك ساعة لترحل!"

المحرقة المستمرة في غزّة، تقول لك إنّ "الأمر بسيط وسهل" على الاحتلال. وهذه جملة قالها ألموغ كوهين، منسق حزب "القوة اليهودية" (الذي يترأسه بن غفير) في منطقة النقب، حين خاطب المتطوعين في "دورية بارئيل"؛ إحدى مجموعات المستوطنين المسلحة، والتي سمّيت تيّمناً بالجندي الإسرائيلي الذي قتل برصاصة من مسافة صفر على الحدود مع قطاع غزة عام 2021. قال لهم بالحرف الواحد: "عندما تكون حياتك في خطر، أي عندما تكون أنت فقط في مواجهة الإرهابي، فأنت تصبح الشرطي والقاضي والجلاد... عندما تكون حياتك في خطر، اقتل، الأمر بسيط وسهل". وهم اليوم، يستشعرون أكثر من أي وقت مضى، أن وجودهم كلّه في خطر.

اقرؤوا المزيد: "ريغافيم.. معك في كل طوبة تبنيها!"

ما تراه من استعدادات المستوطنين الهجومية، يسمونها هم دفاعاً. يستخدم سموتريتش مصطلح "الحرب الدفاعية"، وتعرّف إحدى الجمعيات الاستيطانية، والتي تدعى "ريغافيم"، طبيعة عملها بأنه لوقف "الضم الفلسطيني للأرض الإسرائيلية". وهكذا، دعاية خطابية تلو الدعاية، يسوّقها عرّابو الاستيطان. قد تبدو للوهلة الأولى "جعجعةً" إعلامية ليس إلا، غير أن الإكثار من بثها، بما تحمله من تهويل ومبالغات، لها غايات دالّة على المرحلة القادمة التي يتحضّرون لها؛ إنها مرحلة تشبه صوت أحد الرجال يقول وهو يدافع عن نفسه وأهله من على سطح بيته وحيداً: "هي وصلونا هان لباب الدار وحرقوا الدار، والناس بتتفرج، على شو بتتفرجوا، ولكم على شو بتتفرجوا؟!".