28 نوفمبر 2023

المستوطن وسلاحه على رأسك: معك ساعة لترحل!

المستوطن وسلاحه على رأسك: معك ساعة لترحل!

وقف علي محمد كعابنة على أطراف قرية رمون شرق رام الله، بينما رفرفت روحه فوق أرضه التي راكم فيها الذكريات، تحديداً في وادي السيق حيث وُلد وعاش سنينه الـ 35، حتى هُجّر وأهله بفعل المستوطنين مدعومين من جيش الاحتلال. 

التجمع البدويّ في وادي السيق هو واحد من 21 تجمعاً بدويّاً في الضفّة الغربيّة هجّرتها جماعات المستوطنين منذ بدء معركة طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. منذ ذلك الحين، كثّف المستوطنون نشاطهم واعتداءاتهم على التجمعات البدويّة، وسط غياب النشاط الجماهيريّ الداعم أو الجهد الإعلامي الكاشف، وفي ظلّ ضعف الإمكانيات ومقومات الصمود، حتى حقّقوا هدفهم بتهجيرها. 

يُلاحظ أنّه وفي سياق الحرب على غزّة، وجّه الاحتلال جنودَه لضرب المجموعات المسلّحة في الضفّة، فيما وجّه مستوطنيه لتكثيف نشاطهم من أجل فرض حقائق جديدة على الأرض خاصّةً في مناطق (ج) مما يتيح تعزيزَ التوسع الاستيطانيّ فيها وإقامة "دولة المستوطنين".

علي كعابنة يقف وفي الخلفية خيم نصبها أهالي وادي السيق مؤقتاً في أرض قريبة من أراضيهم الأصلية. عدسة: شذى حماد.

بقوة السلاح: ساعة للرحيل.. 

عند الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس 12 تشرين الأولأكتوبر 2023، فرض المستوطنون حصاراً على التجمع البدويّ وادي السيق، والذي كانت تعيش فيه 37 أسرة مكوّنة من حوالي 300 نسمة. وتحت تهديد السلاح، أعطى المستوطنون العائلات مهلةً زمنيّةً لساعةٍ واحدةٍ فقط للخروج من المكان، الخروج بأنفسهم فقط، دون أن يُسمح لهم بفك خيامهم أو جمع أغراضهم. وهي "مهلة" لم يستطع خلالها الأهالي أن يشبعوا عيونهم بالمكان في ذكرى أخيرة قبل الرحيل. يقول علي كعابنة عن ذلك اليوم: "هدّدونا بالذبح".

كان المستوطنون يرتدون ملابس خضراء اللون تشبه تلك التي يلبسها جنود جيش الاحتلال (وهو ما تكرر في اعتداءات عدة نفّذها المستوطنون مؤخراً على التجمعات البدويّة). وبينما كانت مجموعة من المستوطنين تشرف على إخلاء التجمع بقوة الترهيب والسلاح، نقلت مجموعة أخرى ثلاثة شبان إلى طرف التجمع حيث استفردت بهم وعذّبتهم، واحتجزتهم لنحو ثماني ساعات. 

ألواح شمسية مدمرة وأغراض متناثرة بعد أسبوع واحد من اعتداء شنه المستوطنون على أهالي قرية وادي السيق مما أدّى إلى تهجيرهم، تشرين الأول 2023. (وكالة الصحافة الفرنسية).
ألواح شمسية مدمرة وأغراض متناثرة بعد أسبوع واحد من اعتداء شنه المستوطنون على أهالي قرية وادي السيق مما أدّى إلى تهجيرهم، تشرين الأول 2023. (وكالة الصحافة الفرنسية).

وبعد ساعة من بداية الحدث، حضرت قوات الجيش، تفقّدت بطاقات الهوية لثلاثة شبان احتجزهم المستوطنون، وقالت إنّهم (أي الشبان) أسرى سابقون، ثم انسحبت من المكان دون أي تدخل، وتركت المستوطنين ليكملوا إجرامهم واعتداءاتهم.

اقرؤوا المزيد: "من يحكم الضفّة؟"

عن ذلك الإجرام يروي أبو حسن، أحد أولئك الشبان الثلاثة: "دعس على راسي بإجريه الاثنتين، بعدين رفع راسي وسألني: بتتذكرني أنا راعي البقر؟"، وأضاف: "ضربني بالبارودة وفتح راسي، ثم أحضر سكينة ومزّق ملابسنا وتركنا عراة".

ويروي أبو حسن: "وضعونا في زريبة للأغنام وأجبرونا على الاستلقاء على الأوساخ، تبوّل علينا أحدهم، واستمروا بضربنا بالعصي، وكانوا يقفزون على ظهورنا.. أحدهم حاول إدخال عصا في المنطقة الحساسة من جسدي".  

تهجير التجمع الأول يعني تهجير التجمعات كلّها..

تعود قصة التجمع في وادي السيق إلى شهر شباط / فبراير 2023، عندما أُقيمت بؤرة استيطانيّة رعويّة بالقرب من خيام الفلسطينيين. يقول علي عن تلك اللحظة: "استولى المستوطنون على 35 بئراً في المنطقة، وحُرمنا الوصول إلى 80% من الأراضي، كما أطلق المستوطنون بقراتهم باتجاه الزرع الذي كنا نزرعه نحن أو الفلاحون، وسرقوا مواشينا، واقتحموا خيامنا". 

بؤرة استيطانية بالقرب من أراضي قرية وادي السيق، شرق رام الله. (وكالة الصحافة الفرنسية).

طيلة الشهور الماضية شهد التجمع البدويّ مواجهاتٍ يوميّة مع المستوطنين، اعتقل الجيش على إثرها عدداً من الشبان بعد أن لفق لهم المستوطنون تهماً بالسرقة والاعتداء. ثمّ تصاعد الأمر بعد الحرب على غزّة، يُعلّق علي: "بعد الحرب أغلقوا الطريق المؤدي إلى التجمع، ومنعونا من نقل المياه". وأضاف، "عندما كنا نتوجه لشرطة الاحتلال كانوا يقولون لنا إنهم جيش وينفذون أوامر عسكرية.. ونحن نراهم ونعرف أنهم مستوطنون".

يُذكر أنّ التهجير وقع رغم أنّ قضية التجمع تتداول في محاكم الاحتلال منذ سنوات، إذ يقول المحامي بسام كراجة من مركز القدس للمساعدة القانونيّة وحقوق الإنسان إنّ قراراً يقضي بتنظيم وجود التجمع في المنطقة انتزع من الاحتلال، وكان الاهالي ينتظرون البت النهائيّ في القضية.

يتعمد المستوطنون التصعيد من إجرامهم بحق الأهالي في التجمع البدويّ في وادي السيق، انتقاماً لهيبة الاحتلال التي أسقطتها المقاومة مع بدء معركة الطوفان، وأيضاً في في محاولة لبثّ الرعب في أوساط الناس في التجمعات البدويّة الأخرى. وهو ما تجلّى في تهجير أربع تجمعات بدويّة أخرى شرق رام الله ما بين 12-13 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

حينما يصبح المطر نقمة

بعد تهجيرهم، توجّه أهالي تجمع وادي السيق إلى السلطة الفلسطينيّة وطالبوها بمنحهم أرضاً تابعة للدولة، إلا أنّ طلبهم لم يلقَ إجابة، ولم يحصلوا على أية مساندة، حسب ما يقول بعض الأهالي، وهو ما اضطرهم لطلب إذن من أحد الأصدقاء ونصب خيامهم مؤقتاً في أرضه على أطراف قرية رمون. وهي أرضٌ مُصنّفة ضمن مناطق (ج)، وتشي مراقبة شرطة الاحتلال المستمرة للتجمع في هذه الأرض بتهديدٍ آخر. 

بشكل مؤقت، نصب أهالي وادي السيق خيمهم فوق أرض لصديقٍ لهم بعد أن هجّرهم المستوطنون من أراضيهم الأصلية. عدسة: شذى حماد.

وهذا العام لأوّل مرة، دعا أهالي تجمع وادي السيق البدويّ أن يتأخر المطر إذ لم يُثـبّـتوا خيامهم بعد، وكلهم أمل بالعودة إلى وادي السيق، إلى حيث كانت خيامهم ومنازلهم الأصلية. رغم أنه وبعد ثمانية أيام من تهجيرهم، عاد علي ولم يجد شيئاً في المكان، إذ سرق المستوطنون كل شيء حتى لا يرجع أهالي التجمع البدوي إلى المكان أبداً. يقول علي: "أخذوا تنكات المي، وأجهزة ومحولات الكهرباء، وهدموا معظم الخيام، وسرقوا المواشي والأعلاف، وسرقوا المدرسة ودمروها".

بينما يشتد المطر، تجمّع عددٌ من رجال التجمع في الخيمة الفارغة يحاولون التفكير بحلٍّ ما، ولكن لا حلَّ في الأفق إلا العودة إلى وادي السيق، حيث خيامهم التي كانت، حيث مواشيهم التي تركوها، حيث مدرسة أطفالهم. اليوم، أهل التجمع وإن جلسوا في ظل خيمة تقيمهم من غيم الشتاء، إلا أن ترحيلهم عن وادي السيق، يبقيهم في العراء إلى الأبد. 

هل يُهجرون مرة أخرى؟ سؤال يراود أهالي وادي السيق. عدسة: شذى حماد.

مغاير الدير.. آخر التجمعات البدوية

في شمال شرق رام الله، يقع تجمع مغاير الدير البدوي، وهو آخر التجمعات البدويّة الصامدة مكانها في محافظة رام الله، حتى اللحظة. تسكن المنطقة 40 أسرة، ويعتبر من أكبر التجمعات البدويّة تعداداً في رام الله. 

يواجه التجمع منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر اعتداءاتٍ متكررة من قبل المستوطنين. يقول خليل مليحات، المتحدث باسم التجمع،  إنّ المستوطنين منعوهم من نقل المياه لأيام عديدة ما أدّى لتعطيش الأهالي ومواشيهم. "نحن محاصرون ونواجه المستوطنين وحيدين.. ولم نعد ننام ليلاً أو نهاراً". 

في كل ليلة يتجمع خمسة من شباب التجمع لغرض حراسة البقية، وهي مهمة يومية يتناوب عليها الشبان. فيما يحتاج التجمع  مساعدات عاجلة تشمل الماء والمواد الغذائية، والأعلاف للمواشي، حسب مليحات. ويضيف: "شباب الحراسة يجلسون بالعراء، ولكن مع قدوم الشتاء لن يستطيعوا الاستمرار بالحراسة.. لذلك نحتاج لبناء غرفة تقيهم من المطر فقط". 

وأمام تصاعد الخطر يوجه تجمع مغاير الدير النداء الأخير لمساندته ومساعدته للثبات والصمود، وهو نداءٌ شبيه بنداءات سابقة أطلقتها تجمعاتٌ بدويّة أخرى في الماضي، لكنها لم تُسمع، ولم تُلبى، حتى صار التهجير واقعاً. وفي ظل هذا الواقع الصعب يقول مليحات: "من 40 سنة ونحن هنا، لن نرحل ولو ذبحونا.. وأصلاً لا يوجد لنا بديل نرحل إليه". 

المستوطنون يقودون خطّة الضمّ

بالإضافة لتجمع وادي السيق، وثقت منظمة "البيدر للدفاع عن حقوق البدو" تهجير المستوطنين 20 تجمعاً بدويّاً خلال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني 2023. منها: تجمع عين الزراعة شمال شرق نابلس، وتجمع عين الرشاش شرق قرية المغير في محافظة رام الله، وتجمع زنوتا جنوب مدينة الظاهرية في محافظة الخليل، وتجمع المعرجات الوسطى شمال غرب مدينة أريحا، وتهجير بعض من العائلات البدوية من تجمع الفارسية في الاغوار الوسطى، وتجمع سمري، وتجمع العدّ، وتجمع شعب فرسة من منطقة مسافر يطا جنوب الخليل.

منذ عام 2017، ارتفعت وتيرة استهداف التجمعات البدوية، بدءاً بمحاصرتها والتضييق عليها. وقد شهد هذا الاستهداف تصعيداً آخر منذ عام 2019 مع إعلان الاحتلال نيته البدء بتنفيذ خطّة الضم التي تتضمن مصادرة 30% من أراضي الضفة الغربية. يقول المشرف العام لمنظمة البيدر حسن مليحات، إنه منذ الكشف عن خطة الضم تصاعدت ملاحقة البدو وهدم مساكنهم ومدارسهم والتضييق على مساحات الرعي، ومنعهم من مدّ شبكات المياه والكهرباء. 

تقع التجمعات البدوية في أراضي مصنفة كأراضي (ج)، ويعتبرها المشروع الاستيطانيّ عائقاً أمام تمدد وتوسع مستوطناته، لذلك يسعى بكل قوّة لتدميرها. يقول مليحات: "التجمعات البدوية تحارب وحيدة ومنكشفة تماماً أمام الاحتلال، هي تجمعات هشّة لا تستطيع أن تصمد هكذا كثيراً أمام هجمات المستوطنين المدعومين من دولتهم.. مستقبل الوجود البدوي اليوم أصبح مرعباً  ومظلماً".