30 مارس 2023

على هامش المستوطنة

على هامش المستوطنة

أكتبُ وأنا أنظرُ عبر نافذة منزلٍ في مدينة البيرة من حيّ أم الشرايط، فأرى (وهو ما قد لا يكون متاحاً غداً) وسط الجبل الذي أمامي: "سوبرماركت الشني" مكتوبةً بخطٍّ بارز. وعلى مقربةٍ منه هناك في الأعلى، مستوطنة "بسجوت"، أكثر بروزاً، جاثيةً مرتاحةً على جبل الطويل، فهناك في الجبال تفرِدُ المستوطنات مجسّاتِها، تُراقِبُكَ بتوجُّسٍ بينما تُلاحظها أنتَ بقلقٍ.   

لا تفوّت المستوطنةُ فرصةً للتمدّد، ولِوَصف مستوطنةٍ رابضة على جبل عليكَ أن تكون سريعاً جداً، فلن تكون هي بعد مدّة. المستوطنة التي أمامي بدأ انتهاكها لمدّ بصرنا عام 1981 بخمس عائلات يهوديّة فقط؛ تخيّل يا رعاك الله، خمس عائلات فقط تقرّر أن تعكّر صفو الأفق، وتفرض أمراً واقعاً يتطوّر إلى 350 عائلة بأكثر من ألفي مستوطن.

ولكن من طباع الأرقام أن تظلّ جامدةً وتحجبَ بدل أن تكشف، ولا يوجد شيءٌ مثل التجوال المُحَمَّل باليقظة والحرقة سيريك واقع الاستيطان في الضفّة، لذا اسمحوا لي أن اخذكم جولةً ميدانيّةً صغيرة.. 

حتّى نخرج من مدينة رام الله والبيرة شمالاً، سنذهب غالباً من الحاجز المتعدّد الأسماء -على تعدّد معاناة الناس منه-، فهو "بيت إيل" نسبةً إلى المستوطنة الموجودة هناك، وهو الـ"DCO" نسبة إلى مقرّ "الإدارة المدنيّة للاحتلال في الضفّة"، وهو الـ"VIP" إذ إنّ هذه الطريق ظلّت فترة حكراً على شخصيّات معيّنة.

عندما تنتهي من الحاجز هذا، تنعطف يميناً من الدوّار، وهناك ستنتبه إلى أعمال توسعةٍ تجري على الطريق، الذي يشبك مستوطنتي "بسجوت" و"بيت إيل" مع شارع رقم 60. وهذه التوسعات وشقّ الطرق أصبحت مألوفة لخدمة دولة المستوطنين، شوارع يبلغ طولها 49 كيلومتراً تشمل 43 نفقاً وممرّاً. 

وما إن تقطع أمتاراً معدودة على هذا الشارع الذي ما يفتأ أن يستقيم حتّى يبباغتك منعطفٌ -لا تذهب منه-، مثبّت عنده قضيب من حديد يحمل لوحةً إرشاديّة باللغة العربيّة والعبريّة والإنجليزيّة مع الاتجاه، مكتوبٌ عليها: "بسجوت"! إذا أكملت الطريق ولم تعبأ باللافتة، سيوافيك بعد كيلو متر تقريباً مفترق طرق؛ إن أخذت يمينه، ثمّ سرت قليلاً، وقبل أن تصل إلى "رامي ليفي"، سيلاقيك دوّار آخر، إن انعطفت إلى اليمين -ولا تفعل- ستكون في مستوطنة "بسجوت" مجدداً! 

تشرين الأول، 2013، بعض بيوت مستوطنة "بسغوت" كما تظهر من نافذة أحد البيوت الفلسطينيّة في البيرة. (عباس المومني/ وكالة الصحافة الفرنسية).

حتّى تتخيّلوا معي فداحة الأمر؛ أنا أحدّثكم عن مستوطنةٍ واحدةٍ تتربّع عرش الجبل، أراها من حيّي هذا، وتُرى من أحياء أخرى غير حيّي، بل وقد تسير في شوارع لا تفصلك عنها غير أمتار معدودة (أنظروا مثلاً)، تمتدّ من أوّل البيرة شمالاً ولا تنتهي عندها جنوباً، تقطع المدينة حرفيّاً من الجهة الشرقيّة فـتُـقاطِع نموّها، حيث يُحشر الناس بعمرانهم في اكتظاظٍ خانقٍ يُسَمَّى: منطقة "أ". وإذا كان الناس يُطلقون على الخلايا التي تنمو نموّاً فاحشاً سرطاناً، فإنّ وصف المستوطنة بالسرطان ليس مجازاً، تنمو بينما تُهلك كلَّ ما هو طبيعيٌّ من حولها. 

وحين تأخذُ المستوطنةُ الأرض، فإنّها تبلع معها أراضٍ أُخرى تُخَزِّنُها لوقت الحاجة، تقام عليها بؤر استيطانية تنضم لاحقاً إلى المستوطنة (أنظروا إلى الصورة أدناه على سبيل المثال). ثمّ فإنّ هذه المساحة المقتطعة تحتاج إلى تحصين، وهو ما يعني اقتطاعَ أراضٍ غيرها كمسافة أمان. ولكن، كيف سيصلون إلى مستوطنتهم؟ لا بدّ إذن من اقتطاع أراضٍ أخرى لإنشاء بنية تحتية من الطرق تؤمن مواصلاتهم. 

مع هذه الطبقات المتعدّدة من السرقة، تتوه الأرقام وتتفاوت التقديرات، والأنكى من أن تُسَرَق أن لا تعرف على وجه الدِقّة ما الذي سُرِقَ منك! الأسوأ من كلِّ هذا أن تعتادَ السرقةَ حتى لا تعود تراها في مجال رؤيتك.

لا تبدو الحياة في مستوطنة "بسجوت" ناقصةً من شيء، كأنّها منتجعٌ للاستجمام (مع سياجٍ كهربائيّ يحوّطها) على جبلٍ تتوفّر فيه جميع الخدمات والبنى التحتيّة: بعيدة عن ضوضاء تل أبيب، ولكنها قريبة من امتيازاتها، وامتيازات أحزمة فقرٍ بجانبها؛ يُقدّر عدد الفلسطينيين العاملين في مستوطنات الضفّة بـ31 ألف عامل، يزيدون وينقصون. 

وفي المستوطنة مثلاً؛ مبانٍ لمؤسسات تعليميّة عديدة، ومدرسة ابتدائيّة، ومعهد تعليميّ، ومصنع للنبيذ1يقع المصنع في المنطقة الصناعية شاعر بنامين بالقرب من قرية مخماس، ويعتمد على أراضٍ مزروعة بالعنب داخل المستوطنة.، ومصنع للمعدّات الرياضيّة، وفرع لشبيبة "بني عكيفا"، ومركز جماهيريّ مناطقيّ، ومكتبة مناطقيّة، ومدرسة ثانويّة مناطقيّة؛ والمناطقيّة تعني أنّها لا تخدم سكان المستوطنة المقامة فيها هذه المؤسسات فقط، بل أيضاً سكان المستوطنات من حولها، أي أن هذه المستوطنة مركزيّة أيضاً لما حولها. وهي حتى عام 2020، كان فيها مقرّ مجلس "ماتي بنيامين" الإقليمي، وهو واحد من ستّة مجالس يضمّ تحته مستوطنات وسط الضفّة الغربيّة؛ ألا يشبه ذلك شكلاً تعرفونه؟! 

كأنّه في داخل محافظة رام الله والبيرة التي تشرف على المدينة وضواحيها، محافظة أخرى تشرف على المستوطنات وبؤرها! ومن المثير للسخرية والألم، أنّ أوضح مكان يتجلّى فيه التمدّد الاستيطاني هو في المنطقة التي من المفترض أن تتكثّف فيها سيادة السلطة الفلسطينيّة. إنّ هذه المحافظة التي نسكن فيها، بل ونشعر أنّها مركز الضفّة و"عاصمتها"، تُعدّ الأكبر من جهة عدد المستوطنات التي فيها (26 مستوطنة)، والأكبر من جهة تعداد المستوطنين (أكثر من 140 ألف) بعد مدينة القدس، هذا عدا عن أنّها أيضاً أعلى منطقة في عدد البؤر الاستيطانيّة الذي يصل -وربّما يتجاوز- الـ 58 بؤرة. هذا يعني أنه مقابل كلّ 100 فلسطيني في محافظة رام الله والبيرة هناك 40 مستوطناً، مرشّحون للازدياد باستمرار؛ إنّه رقمٌ مرعب!

كنت أحدث صديقي عن أفكار هذا المقال، أخبرني أن لا أُهَوِّلَ الموضوع، فصحيحٌ أن هناك اعتداءات متفرّقة ومزعجة تحدث من "قطعان المستوطنين" على مزارعينا، لكن هذا كله طارئ؛ بالنهاية الضفّة نسكنها نحن وهم على هامشها.. 

قلت لصديقي -وهو يحاورني-  ماذا لو كانوا هم من يسكن الضفّة ونحن على هامشها؟! 



12 أكتوبر 2019
ضدّ الأسمنت في بريّة الثورة

ما شكل الأمل؟ وما الحريّة التي نتوق إليها؟ هل نتخيّلها تكمن في نظام حكمٍ يمنحُ النّاسَ حريّةً وكرامة، أم في…