12 أكتوبر 2019

ضدّ الأسمنت في بريّة الثورة

ضدّ الأسمنت في بريّة الثورة

ما شكل الأمل؟ وما الحريّة التي نتوق إليها؟ هل نتخيّلها تكمن في نظام حكمٍ يمنحُ النّاسَ حريّةً وكرامة، أم في قدرة النّاس الدائمة على الاجتماع وتجديد الحركة السياسيّة والانتفاض وتغيير الأنظمة؟ هل نسعى لسلطةٍ فاضلةٍ، أم للاستدامة الثوريّة التي تُعيد خلق السّياسة واختراع الزمان كلّ مرةٍ من جديد؟ هل نورّث للأجيال حكماً مستقراً يمنح الأفرادَ الكرامةَ والحريّة لقاء التزامهم بقوانين النظام؟ أو نورّثهم قيمة الانخراط بالسياسة والعمل الشعبيّ لتغيير الحكم ومساءلة استقراره، تقويضه والتسبّب بإعادة بنائه؟

يحلم معظمنا ببلوغ الجمود المسمّى "استقراراً"، ونحلم بحريّةٍ وكرامةٍ إنسانيّةٍ داخل هذا الجمود. سعياً وراء "السّلطة الفاضلة"، يتحرّك الثوريّون أحياناً أملاً بنفي الثورة، أملاً بتكوين نظامٍ جديدٍ وسلطةٍ جديدة. نبحث أن نعيش خلاصاً نهائيّاً من الضعف، بدلاً من السّعي العنيد لتكرار البحث عن هذا الضعف تحت كل سلطة جديدة، وإعادة اكتشاف أشكال الظلام اللامتناهية والمتكررة، وإعادة كرّة مقاومتها. إن التمسّك بالتمرّد على السلطة، هو تمسّك بسعينا الإنسانيّ لأن يكون لنا دور في تحريك التاريخ، مهما كان الدور بسيطاً.

لا يقبل هذا السّعي للسلطة الفاضلة أن تتحقّق الثورة كقيمة قائمة بحدّ ذاتها، أن تتحقّق من خلال دوريّتها: تكثيف قدرات المجتمع المعرفيّة والحسيّة على تمييز الضعف والعُرضة للخطر الذي يعيشها هذا المجتمع؛ وقد يكون الضعف فقراً أو انعداماً للأمان أو تمييزاً عرقيّاً أو استغلالاً في العمل أو أزمة بيئيّة، وكلّهم في الغالب معاً. ثم تعريف هذا الضعف بالرموز واللغة، وتبنّيه بدلاً من محاولة إنكاره والاغتراب عنه أو الهروب الفرديّ منه. تبنّيه بمعنى تحويله بنية تحتيّة لوحدة الحركة السياسيّة.

تهاجم الحركة السياسيّة مصادر الضعف، أي مهاجمة منظومة العلاقات والقمع المتجسّدة بالدولة. تنقدها وتخرج ضدّها سعياً إلى خلخلتها، وهي بطبيعة الحال تزعزع الوضع الوجوديّ "المستقر" للإنسان، عندما تزعزع بُنية هذه العلاقات. لكنّ هذه القوى المستفيدة من هذه البنية سرعان ما تُعيد بناء قوّتها بأشكالٍ جديدة، وتُعيد بناء القمع بأشكال جديدة ردّاً على التمرّد أو "تجاوباً" معه. تتألّف أنظمة جديدة، دول جديدة، ويُسحق الثوريّون تحت دولاب الزمن المتقدّم مع تجدّد الأنظمة وتجدّد الأوضاع الوجوديّة، وتجدّد خارطة الاستضعاف والإقصاء الإنسانيّ. يُسحق الثوريّون، ويحدّقون بالهزيمة المتمثّلة في إعادة تشكّل النظام إما لقمع الثورة أو لاحتوائها بأقل ما يمكن من خسائر للنخب الحاكمة. بينما يبقى أصحاب الأمل غير العلميّ بالوصول إلى "سلطة فاضلة" في كآبةٍ حالكةٍ تقودهم لتدمير الذات تارةً، أو للعزلة المهنيّة الفرديّة، أو الارتماء في أحضان السّلطة، أو لتفاهة توجيه اللوم "للناس" وفقدان الأمل بالمجتمع. أمّا من يتمسّك بإعادة إزكاء الحركة السياسيّة، فإنّه يقوم ليتناقل أدوات النقد ويعمّمها للناس، ويعيد اكتشاف ديناميكيّات الخطر والاستضعاف، ويعرّف ويكشف الشكل الجديد للضعف. وهذه المهمّة الأخيرة لا تكتمل إلا بالعنصرين: المعرفة وتحليل الضعف من جهة، وجرأة الصدح والمجاهرة بهذه المعرفة وتعميمها من جهة ثانية. وهذه بذور تكثّف قدرات المجتمع ليُعيد كرّة المقاومة، وليخلخل النظام الجديد بالأدوات الجديدة المتاحة.

قد يرسم الأمل غير العلميّ مخيالاً أداتيّاً للثورة على شكل خطٍ تصاعديّ من البطولة الذكوريّة الواصلة للخلاص. خطٌّ مثاليّ مسيانيّ نحو السماء، بدل السباحة عبر ركام ماديّ يدبّ الرعب في عينيّ ملاك التاريخ المقذوف نحو المستقبل. تنهل هذه المثاليّة من مفهومٍ تقدميّ للتاريخ، وهي مثاليّة تضرب جذورها في التنوير وفي عقلنة المسيحيّة؛ في حقبة تاريخيّة أنتجت فلسفةً تصوّر حركة الإنسان كتقدّمٍ دائمٍ نحو الأفضل. مجدّت هذه الحقبة قدرة الإنسان على الإضاءة المعرفيّة، وعمّمت تقنين نيوتن للطبيعة على الفلسفة وفهم التاريخ والدولة بهدف عقلنتها وتنجيعها. الثورة، بموجب هذا التصوّر، تهدف إلى تأسيس سلطةٍ أفضل من حيث تأمينها وتحقيقها لممكنات التقدّم العلميّ والفكريّ ورفاهيّة الإنسان؛ إننا نتخيّل الثورة رحلةً أوديسيّة نحو "السّلام الدائم"، فلا تنتهي إلا لاحتقار الفشل، وامتحان الثورة بأسئلة ثبات النظام الجديد، وصلابة السكّة الفولاذية لسير الدولة نحو "الأفضل"، دون أن ندرك أن فولاذ التقدّم الجديد لطالما أعاد تنظيم العزل والعنف.  

هكذا يغرق الناس في الكآبة حين يصطدمون بالواقع، بعد أن توهّموا بسرديّة تعتبر الثورة رحلةَ تقدمٍ باتجاه الخلاص. هذه سرديّة تصوّر الثورة في أذهاننا على أنّها "حدث" خلاصيّ، تُسَجَّل بدايته ونهايته، وتُلقِّنه كتبُ التاريخ للتلاميذ بسرديّة سلطويّة تجعله أسطورةً يستحيل تكرارها، وعندما تتكرّر تنتهي دائماً بما نظنّه هزيمة نكراء. 

يدفعنا هذا التصوّر لانتظار "اللحظة الكبرى"، ويسخّف الأدوار الصغيرة والتجارب التي تظهر وتتراكم وتموت وتنثر بذوراً في أقصى الهوامش، فنطمس العمل الثوريّ الذي نشاهده بأمِّ عيننا لأنّه لا يُشبه فحولة الثورة في مخيّلتنا، أو لأنّها "لم تنضج بعد" لتصبح "الشيء الحقيقيّ". نقدّس السّلطة فلا نتخيّل الثورة تنتصر إلا باحتلالها المركز، مهما راكمت من تجارب وشبكات متينة في الهوامش. ولأنّه يعتبر العمل الثوريّ أداة لا غاية قائمة بحدّ ذاتها، فإن سؤال النجاعة يجعلنا نحسب التضحيات بمعايير المنفعة والربح والخسارة، يُسلَّع دم الناس وأعمارهم، ونبحث عن "قيادة" تخصص هذا "المورد" في "المكان الصحيح" لتحقيق أفضل نتيجة، وسرعان ما يخلق ذلك تراتبيّة غير عادلة في سعر تضحيات الثوّار بناءً على مكانة الثوريّ ودوره في "القيادة". 

لا تنزل الثورة مع الروح القدس، ولا هي أداة نختار أن نخلقها ونستخدمها متى نريد. إنّها فعلٌ يتكثّف ويتصاعد في المساحات الاجتماعيّة المهمّشة والمعزولة، أيّ بين الشرائح المحرومة من دورٍ فاعلٍ في ديناميكيّة النظام، تلك التي تُقصى من القرار السياسيّ. أما النظام فيتجسّد كهيكل لضبط وإدارة الجدليّة التي "تُقدّم" التاريخ. بمعنى أنّه يشكّل خارطةَ القنوات والأدوات "الشرعيّة" للجدل والتغيير السياسيّ، ويوفّر هذه الأدوات لمجموعات معيّنة، ويطرد ويُقصي مجموعات أخرى عن هذه القنوات، وهو ما نسميه تهميشاً. النظام، دائماً، يختار من يسمح لهم بممارسة السّياسة ومن يمنعهم من ممارسة السّياسة، من يسمح لهم بأداء دورٍ اجتماعيٍّ إنسانيٍّ فاعل، ومن يمنعهم من هذا الدور ويجعلهم عوامل خاضعة تُطحن تحت دولاب الزمن. 

أما كثافة العمل الثوريّ فتُبنى خارج الجدليّة "الشرعيّة" التي يُقرّها النظام، وتجمع مَن طَرَدَتْهم "الأدواتُ الشرعيّة" بعنفٍ من إمكانيّة التغيير، ومن فقدوا الأمل من "الأدوات الشرعيّة" واكتشفوا حدودها الخبيثة التي تقبض عليها الشرائح الأقوى. ويبلغ العمل الثوريّ ذروة كثافته عندما يصطدم مع الوكالات الأيديولوجيّة للدولة مزعزعاً قيم النظام وأخلاقه وتصوّره للإنسان وللمجتمع. وهي القيم التي تضبط مبنى السيطرة والتهميش القائمة. ولطالما شغّلت الوكالات ضدّ الحركة السياسيّة المهمّشة أدوات العنف وصولاً إلى العنف الجسديّ الدمويّ لمنعها من زعزعة البنية الحاكمة، وكلما شغّل عنفاً أكثر، تحتّم على الحُكم أن يعيد تشكيل النظام، أي أن يعيد صياغة قمع الثورة أو احتوائها.

تُعيد الطبقات الحاكمة صياغة النظام. أي صياغة هيكليّة السياسة "الشرعيّة" وبالتالي خارطة الإقصاء عن الفعل السياسيّ. إنها تُعيد نشر أو تمويه الحواجز التي تحول دون تأثير الإنسان على القرار السياسيّ ودون سيادته على حياته. ولا يهم إنْ أعادَ النظامُ نشرَ الحواجز بحيث يبرزها ويؤجج عنفها لقمع الإرادة الشعبيّة بوقاحةٍ وعربدة، أو أنّه عمل على تمويهها وخلق وهم المشاركة السياسيّة، أو تمكين فئةٍ عينيّةٍ من الشرائح الثوريّة من القرار السياسيّ أملًا بتحييدها – أي إعادة تقسيم الموارد والسلطة بما يتجاوب مع جولة الاحتجاج الأخيرة. كما لا ينفكّ النظام عن إعادة تشكيل نفسه بإبراز وحشيّته وقمعه. ويستمر في ذلك، فلا يلجأ إلى التراجع ومحاولات تمويه الإقصاء والاستضعاف، وتضمينه في "منح" الحقوق والحريّات، إلا في اللحظة التي تقدر فيها الحركة الثوريّة على تكثيف فعلها وتوحيد شرائحها وإعادة الاتّقاد أسرع من وتيرة تفاوض وتوافق الشرائح الحاكمة على هيكل النظام وتقسيم الموارد والسلطة والاتفاق على خارطة الإقصاء والاستضعاف الجديدة. أي أن الثورة لا تُقنع النظام بالتراجع، إنّما تضعه تحت ضغوط تدق الإسفين بين الشرائح المؤلّفة للنظام، فتجعلها تعيد النظر في شكل العنف إما لتقليل خسائرها، وإما في محاولةٍ لتضخيم أرباحها من خلال الانشقاق والانضمام للثورة في محاولةٍ لتحسين موقعها في النظام الجديد.

اصطدم الربيع العربيّ اليوم في الوهم الخلاصيّ، وبعد عقدٍ من الزمن إذ تعود التحرّكات لتعمّ الجزائر ومصر والعراق والسودان وغيرها، تبيّن أن الإنجاز الأهم للثورات، أنّها منحت من كانوا في 2010 أطفالاً بسن العاشرة وصاروا اليوم نساءً ورجالاً في سنّ العشرين أدوات ودوافع سياسيّة لإعادة كرّات المقاومة. تماماً كما كان الربيع العربيّ بحدّ ذاته تكثيفاً لعقودٍ من الاحتجاج والحركة السياسيّة التي لطالما صُنعت في هوامش الوطن العربيّ؛ من ثمانينيّات الخبز في السودان وتونس، أو التسعينيّات في البحرين، إلى الحوض المنجميّ والمحلّة الكبرى، والأمثلة كثيرة كثيرة.

يكابد الآملون بالتحوّل الديمقراطيّ كآبةً عميقةً في انتظار "موت التاريخ". فما كان يبدو لهم تحوّلاً خلاصياً، وصعوداً في طريقٍ أرثوذوكسي من إنسانيّة الثورة الدمويّة المصلوبة إلى ربّانيّة الدولة، بان في نهاية المطاف أشبه بالوصف الكافكاويّ للتحوّل. هذه حصّة من بحثوا في خضرة الربيع البريّة الكثيفة عن إسمنت "بناء الدولة" وتسلّم السلطة.

في المقابل، لا يزال أمامنا خيار تمجيد التغيير، وفهم الحريّة باعتبارها سعياً دائماً ومستمراً لكسر الأوضاع الناشئة، وتحدّي الزمن الذي يحمل الموت ويخنق الاحتمالات، وفهم العمل السياسيّ والثوريّ، أولاً وقبل كلّ شيء مشياً واثقاً نحو موت السنبلة ونثر حبوبها. لا يزال أمامنا أن نقف ضدّ دالة تصاعديّة واهمة تحطّمت على حافّة العلميّة. أعادت الأنظمة القمعيّة في الوطن العربيّ تشكيل نفسها، وصار لازماً أن نبحث في الأشكال والأجيال الجديدة للظلم المستشري، ونعيد إزكاء التجارب الصغيرة، وتبنّي الضعف والبؤس كبنية تحتيّة جامعة ومؤسِسة تبحث عن انتصارات صغيرة، ولكن لا تكتفي بها أبداً. ولهذه التجارب الثوريّة، مهما سُحقت، وظيفة جوهريّة في تنشئة أجيالٍ تتبدّل فتتشرّب طفولتها بأمواج الانتفاضات المتتاليّة، وتلد استعداداً نضراً للمزيد من التضحيات والانتصارات والهزائم والتضحيات والانتصارات والهزائم والتضحيات..