5 فبراير 2020

صفقة القرن

المثلّث إلى الضفّة؟ هكذا وقعنا في مصيدة "إسرائيل"

المثلّث إلى الضفّة؟ هكذا وقعنا في مصيدة "إسرائيل"

"تتألّف مجتمعات المثلّث من كفر قرع، عرعرة، باهة الغربيّة، أم الفحم، قلنسوة، طيبة، كفر قاسم، طيرة، كفر برا وجلجولية. كانت هذه المجتمعات، التي تعرّف نفسها فلسطينيةً إلى حدٍ بعيد، واقعةً تحت السيطرة الأردنيّة خلال مفاوضات خطّ الهدنة عام 1949، إنما احتفظت إسرائيل بها في نهاية المطاف لأسباب عسكريّة لم تعد مُلحة منذ ذلك الحين. تنظر هذه الرؤية، بما يخضع لاتفاقٍ بين الأطراف، في إمكانيّة إعادة رسم حدود إسرائيل بحيث تصبح مجتمعات المثلّث جزءاً من دولة فلسطين. بموجب هذه الاتفاقيّة، فإن الحقوق المدنيّة لسكّان مجتمعات المثلث ستخضع للقوانين والأحكام القضائيّة المعمول بها من قبل السلطات ذات الصّلة".1القسم الرابع من وثيقة "السلام على طريق الإزدهار" الصادرة عن البيت الأبيض، والمعروفة بوثيقة "صفقة القرن". الخطأ في كتابة "باقة الغربيّة" تبعاً للأصل.

هذا نصّ البند الذي يتحدّث عن "تبادل الأراضي" وضم منطقة المثلّث إلى الضفّة الغربيّة، كما جاء في وثيقة "صفقة القرن". وهو رغم الخطأ باسم مدينة باقة الغربيّة، يبقى أكثر دقةً وأجدر بالاعتماد من هذر الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس حول الأمر، كما رأيناه في اجتماع وزراء الخارجيّة العرب في القاهرة. وقد أثار البند ردود الفعل المستنكرة المعتادة منذ العام 2004، وهو العام الذي طرح فيه أفيغدور ليبرمان مثل هذا المقترح ضمن خطّته "لحل الصراع"، ودأب على تكراره في كلّ حملة انتخابيّة.

يتناول هذا المقال الأهداف الأعقد التي تقصدها "إسرائيل" من وراء هذا المقترح، وهي بعيدة كلّ البعد عن الاعتقاد الساذج بأنّها تود "التخلّص" من سكّان المثلّث. ويدّعي المقال أن صيغة البند تحمل تفاصيل قد تلمّح إلى مستقبل التعامل الإسرائيلي مع هذه المنطقة، أولاً. وثانياً، أنّ تقديم الصفقة لهذا المقترح الذي وُلد ميّتًا هدف إلى تسجيل نقاط لصالح "إسرائيل" من خلال هستيريا ردود الفعل الفلسطينيّة.

قصّة المنطقة

سيطرت العصابات الصهيونيّة على قرى منطقة "المثلث الصغير" بعد أن كانت خاضعة للحكم الأردني حتّى أبريل/نيسان 1949. لم تستول عليها بالمعارك، بل بموجب اتفاقيّات الهدنة الموقّعة في رودوس في ذلك العام. وكان الاحتلال قد أصر على الحصول على هذه المنطقة لأسبابٍ عديدة منها أنّها تتاخم طريق وادي عارة الذي يربط بين الجليل والساحل في مركز الأرض المحتلّة، وأهميّة جبل إسكندر، وهو القمّة الأعلى في المنطقة. وقد هدّدت "إسرائيل" في حينه بغزو هذه المنطقة، التي تمركز فيها الجيش العراقي، في حال رفضت الأردن تسليمها. بعد سيطرة "إسرائيل" على المثلّث، فرضت الحكم العسكريّ على أهله وقطعتهم كليّاً عن محيطهم الحضريّ الطبيعيّ الذي بقي تحت السيطرة الأردنيّة وصار يُعرف باسم "الضفّة الغربيّة".

فرضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في حينه الجنسيّة على أهالي المنطقة الذين يبلغ عددهم اليوم نحو 300 ألف فلسطينيّ، وطبّقت عليهم ما طُبّق على كل الفلسطينيين الباقين داخل الأرض المحتلّة. ورغم سعي "إسرائيل" إلى تجذير الفصل بين أبناء المنطقة الواحدة من جانبي "خط الهدنة"، لا تزال العلاقات الاجتماعيّة تحافظ على قدرٍ من التماسك. إضافةً لذلك، فقد ولّد هذا القرب الاجتماعيّ الأصيل تفاعلاتٍ سياسيّةً دفعت تجارب نضاليّة هامّة في الداخل، مثل حركة "أبناء البلد" التي تشكّلت نواتها الأولى في أم الفحم، ولاحقاً الحركة الإسلاميّة التي أسسها عبد الله نمر درويش الذي وُلد في كفر قاسم ودرس في نابلس، ثم برز منها الشيخ رائد صلاح الذي اتّخذ مكانته القياديّة بعد تولّيه رئاسة بلديّة أم الفحم.

على مرّ العقود، استغلّت "إسرائيل" العلاقة الاجتماعيّة والسياسيّة بين المثلّث والضفّة الغربيّة من أجل التحريض الإعلاميّ على الفلسطينيين هناك، وقد تصاعد ذلك مع اشتداد عود الحركة الإسلاميّة في المنطقة، ووصل ذروته بعد أحداث الروحة والهبّة الشعبيّة التي التحمت بالانتفاضة الثانية في أكتوبر/تشرين الثاني 20002أحداث الروحة: سلسلة احتجاجات خرج بها أهالي أم الفحم عام 1998 احتجاجاً على قرار إسرائيليّ بمصادرة أراضيهم ومنعهم من الدخول إليها.. ولعب هذا التحريض دوراً إعلاميّاً هامّاً في تسويق مخططات "تبادل الأراضي المذكورة".

على أساس هذه الصورة، يسهل على الإعلام الإسرائيليّ مضغ الموضوع من جديد كُلما ظهر في خطةٍ أو أخرى. ويسهل على السياسيين الإسرائيليين اللعب فيه خطابيّاً دون أن تأخذه أي من الحكومات على محمل الجد والتطبيق.

 تعريف جديد: "مجتمعات المثلّث"

لا تكمن الأهميّة الحقيقيّة للوثائق الدوليّة من قبيل صفقة القرن فيما تصوّره من حلٍ أو رؤيةٍ نهائيّة، إنما فيما تتأسس عليه من منطلقات وتعريفات قانونيّة وجغرافيّة-سياسيّة، وما ينبثق عنها من آليّات عمل. ويعتمد الاحتلال على هذه التعريفات والآليات لاحقاً لتعزيز منهجيّات السيطرة والقمع، في حين يطوي النسيان "رؤية الحل النهائيّ" إلى غير رجعة. لذلك، لا تكمن أهميّة ما تقوله "صفقة القرن" عن المثلث في واقعيّة أو جديّة ضمّه إلى الضفّة الغربيّة - هذا، في الحقيقة، أمرٌ ثانويّ.

لكنّ الأمر الملفت الذي تخبّئه الوثيقةُ في أحرفها الصغيرة، والذي يحمل في طيّاته احتمالاتٍ مخيفةً فعلاً، هو أنّها الوثيقة الدوليّة الأولى التي تُحيل إلى أهالي منطقة المثلّث كشريحةٍ اجتماعيّةٍ خاصّة. إذا يسمّيهم البند مرّتين في سطوره القليلة "مجتمعات المثلّث" ("The Tringle Communities")، وتبدأ كلمة "communities" بحرفٍ كبير (capital letter)، ما يدل على التعامل معها كاصطلاحٍ قائمٍ بحدّ ذاته. عمليّاً، تحمل الوثيقة الإمكانيّةَ بأن تتحول صفةٌ اجتماعيّةٌ لمجموعة من الناس إلى تعريفٍ قانونيٍّ خاصّ، مما يُتيح في المستقبل تعاملاً قانونيّاً يميّزهم عن سائر الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948.

هذه خطوة في غاية الخطورة لو نظرنا للإمكانيّات التي تتيحها في السيناريوهات المستقبليّة بعيدة المدى. مع هذا، فهي ليست خطوةً غير مسبوقة، فقد شهد فلسطينيّو النقب أمراً مماثلاً، بمعزلٍ عن اختلاف النوايا. فقد سعى إسرائيليّون "يساريّون" منذ عام 2005 إلى خطوةٍ "لحماية" بدو النقب من خلال دفع مؤسسات الأمم المتّحدة والاتحاد الأوروبيّ للاعتراف ببدو النقب "كمجموعة أصلانيّة" -حسب تعبيرهم- تجب حمايتها للحفاظ على ميّزاتها الثقافيّة التقليديّة.

عمليّاً، بعد أن تجزّأ الشعب الفلسطينيّ إلى لاجئين وفلسطينيي 1967، وفلسطينيي 1948، نشهد اليوم مرحلةً جديدة. ينقطع فلسطينيّو 1967 بين الضفّة وغزّة تحت واقع الحصار، ثم تُمنح غزّة الصفة القانونيّة "مناطق عدو" ويتحوّل التعريف القانونيّ لسكّانها إلى "رعايا عدو". وقبلهم سُلخ أهالي القدس عن تعريف "فلسطينيي 1967". أما فلسطينيّو 1948 فتنبثق عنهم فئتان مُعرّفتان عُبِّر عنهما في وثائق ذات طابعٍ دوليّ: أهالي النقب عُرِّفوا كـ"مجموعة أصلانيّة"، وأهالي المثلّث كـ"مجتمعات المثلّث".

إلى أي مدى ستستخدم "إسرائيل" هذه التعريفات لتعميق شرذمة المستقبل الاجتماعيّ والسياسيّ الفلسطينيّ، وتواصل خلق المزيد من المجتمعات المتمايزة في صفاتها القانونيّة؟ هذا ما سنعرفه على جلدنا إن بقي التعامل مع مسائل غاية في الحساسيّة بمستوى الأداء السطحيّ الذي تقدّمه القيادة السياسيّة الفلسطينيّة - من القائمة المشتركة وحتّى محمود عبّاس.

اقرأ/ي المزيد: "إجابة واحدة لـ"صفقة القرن": كلّ فلسطين".

مهزلة ردود الفعل: كيف قدّمنا مكاسب "إسرائيل" على طبقٍ من ذهب؟

من الغريب أنّنا نستطيع، بعد 72 عاماً من ابتلاع الأكاذيب الإسرائيليّة، أن نتعامل بجديّة من ادعاء نيّة إسرائيليّة بالتنازل عن أراضٍ لصالح حكمٍ فلسطينيّ أيّاً كان شكله. تشترط الوثيقة الأميركيّة (التي صاغها صهاينة) مقترح تبادل الأراضي بموافقة الطرفين (وهي موافقة لن تُعطى) ضمن الاتفاق الدائم (وهو اتفاق لن يُبرم). بكلمات أخرى، فقد وُلد هذا المُقترح ميّتاً وعديم القيمة. إلا أنّ "إسرائيل"، وبمجرّد اقتراحه، أحرزت نقاطاً هامّة قدّمناها نحن على طبقٍ من ذهب.

في غضون ساعات قليلة، قدّم فلسطينيّو الداخل مقابلات ومقالات وبيانات، تُرجمت إلى كل لغات العالم، يُعلنون فيها تمسّكهم بالمواطنة الإسرائيليّة، وهو ما يؤكّد ضمنيّاً براءتهم من "الدولة الفلسطينيّة" ومن المصير السياسيّ المشترك مع أهلنا في الضفّة الغربيّة. أهدينا "إسرائيل" أمام العالم تأكيداً صارخاً لما يدّعيه الصهاينة في كلّ مكان: أن الفلسطينيين في "واحة الديمقراطيّة" يتمتّعون بحقوق ورفاهيةٍ يتمسّكون بها، أكثر مما يحصل عليه أي فلسطينيّ في أيّ مكان. أما السلطة الفلسطينيّة فقد جدّدت التأكيد على براءتها من فلسطينيي الداخل. فإن كانت تؤكّد مراراً أن قضايا فلسطينيي الداخل "شأنٌ داخليّ إسرائيليّ"، فقد وضّح أبو مازن للعالم بشكلٍ مُهينٍ ومُخجلٍ أنّه لا يعرف حتّى من تكون قيادتهم السياسيّة أصلاً.

أما "إسرائيل" فأظهرت أمام العالم استعداداً لما تعتبره "تنازلاً" للفلسطينيين، وهي تعرف أنّه لن يحصل أبداً. وظهرت على أنها تقبل إعطاء الفلسطينيين "حقّهم" من الأراضي في مقابل ما ستحصل عليه عند ضمّ مناطق "ج" من الضفّة الغربيّة. لتكرّس أمام العالم ادعاءها بأن السلطة الفلسطينيّة تتعنّت رافضةً أسخى "التنازلات" الإسرائيليّة.

 لكن علاوةً على هذه الحيلة الإعلاميّة القديمة (التي لا زالت تحقق نجاحاً)، فقد حقّقت "إسرائيل" استهدافاً إعلاميّاً للمجتمع الفلسطينيّ في المثلّث. إذ أن تعاقُبَ الحديث عن الضم للضفّة الغربيّة، خاصةً حين يُستعرض بجديّة وفي وثيقة دوليّة، يتحوّل إلى ابتزازٍ هدفه تهديد استقرار المجتمع، ويُنتج قلقاً عميقاً بين الناس تجاه مستقبلهم، ويلوّحُ بتغيير نمط حياتهم ويخضعه لتقلّبات ضبابيّة محتملة. وليس هذا ابتزازاً عبثياً، بل سرعان ما يتحوّل إلى ضغطٍ سياسيّ يردع الناس عن المظاهر الوطنيّة أو العمل السياسيّ النضاليّ، ويشدِّدُ القيود على أي نشاطٍ يلتمس الخروج من الحدود التي ترسمها "المواطنة". كما سيُستخدم لابتزاز الناس ليعبّروا، بالفعل أو بالقول، عن ولائهم للدولة اليهوديّة.

ويُضاف إلى هذا تحديداً خطرٌ حقيقيٌّ بأن تطمع القيادة السياسيّة في الداخل بربحٍ جانبيّ من هذه القضيّة، خاصةً في ظل الانتخابات البرلمانيّة (الثالثة على التوالي)، وفي ظل مأزق "القائمة المشتركة" بعد أن أعلن بيني غانتس (الذي أوصوا به ودعموه على بياض) تأييده الكامل لصفقة القرن، واطّلع على تفاصيلها في واشنطن وأعلن أنّه سيحوّلها إلى اقتراح قانون يُقدّم للـ"كنيست". يكمن هذا الخطر في أن تحوّل "القائمة المشتركة" الخوف من "ضم المثلث للضفّة" دعايةً انتخابيّة، وتدعو الناس في المثلث للتصويت لمواجهة المخطط. تعني مثل هذه الدعوة شيئاً واحداً: ستُصَوّرُ مسألةُ رفع نسبة التصويت كإثبات صلةٍ مع النظام السياسيّ الإسرائيليّ في وجه محاولات "إسرائيل" إبعادنا عنه. بكلمات أخشن: من الممكن أن يتحوّل التصويت إلى مظاهرة ولاءٍ للنظام السياسيّ الإسرائيليّ وللمواطنة. ويُذكّر هذا بزمانٍ هدّدت فيه الأحزاب الصهيونيّة فلسطينيي الداخل بأنهم إن لم يُصوّتوا للكنيست، سيُقطع عنه "التأمين الوطنيّ" وتُسلب حقوقهم أو هويّتهم.

 خاتمة: لماذا نعارض "تبادل الأراضي"؟

لا يعني هذه كلّه قبول معادلة "تبادل الأراضي" والرضى بـ"نقل المثلّث إلى الضفّة". إنما فرق الأرض والسماء بين الأسباب المبدئيّة والأخلاقيّة لرفض هذا المخطط، وبين من يعارضونه لأنّهم يرون بالمواطنة الإسرائيليّة غاية وجودهم. هناك إذاً من يناهض المقترح لأنّه مقترح استعماريّ يجذّر منطق تمزيق المجتمع الفلسطينيّ ودونيّته، وهناك من يناهض المقترح لأنّه لا يرى بنفسه جزءاً من إرادة الشعب الفلسطينيّ وحياته ومستقبله المشترك. وإن لم يكن الفرقُ واضحاً بين كلِّ موقفٍ من هذين الموقفين المعارضيْن للمخطّط، فسيتضح بالضرورة عندما نسأل عمّا يؤيّده كلُ موقف منهما. وسنجد الفجوة واضحة مجدداً بين من يُريد هويّةً متساويةً لكل الفلسطينيين في كلّ فلسطين، دون نظامٍ عنصريّ وبانقلاعٍ تامٍ للصهيونيّة، وحياةً حرّةً وكريمة ومستقرّة، وبين من يتشبّث بالامتيازات التي تمنحه إياها "إسرائيل" مقابل رضاه بفصل مستقبله عن مستقبل أبناء شعبه.  

لا يقبل مجتمعٌ في العالم كلّه أن ينتقل من وضعيّة اقتصاديّة وقانونيّة واجتماعيّة بقدرٍ معقولٍ من الاستقرار، إلى وضعيّة أخرى لا تميّزها سوى الهشاشة والضبابيّة وانعدام الاستقرار. ولا يقبل مجتمع في العالم أيضاً أن يتحوّل إلى حجارة شطرنج يُقايضها الحكم الاستعماريّ تحقيقاً لمصالحه. ومثلما لا يقبل أهلُ المثلّث فصلهم عن أهلهم في الضفّة، فهم لا يقبلون فصلهم عن أهلهم في الجليل والساحل أيضاً.

إن التبادل المقترح ليس "تحريراً" لأرضٍ فلسطينيّة، ولا هو عودةُ مجتمعٍ إلى حضن دولته. إنما هي عقليّة الاتجار بالشعوب، ضمن مخططات لا تهدف إلا للتآمر على الناس بغية تجذير قمعهم وسلب المزيد والمزيد من حقّهم وتأبيد دونيّتهم.




26 نوفمبر 2023
اليوم 51: لمن الشمال اليوم؟

في اليوم الثالث على الهدنة، من المنتظر تحرّر 39 شبلاً أسيراً في سجون الاحتلال (بلا أسيرات)، مقابل إطلاق سراح 13…