24 يوليو 2025

كيف تتحوّل البنوك الفلسطينية إلى "بسطة"؟ حوار مع وليد حبّاس

كيف تتحوّل البنوك الفلسطينية إلى "بسطة"؟ حوار مع وليد حبّاس

على الرغم من توفّر الكهرباء في الضفة الغربية، فإن شحنها بات عملية صعبة. تقدّم "الكاش" للمحاسب في نقطة الشحن أو لبائع البقّال حتى تشتري الكهرباء، فيوجّهك للدفع ببطاقة الدفع الإلكتروني. كذلك الأمر في محطّات تعبئة الوقود، التي تملؤها الأوراق التي توجّهك للدفع عن طريق "الفيزا"، ولا يبدأ العامل تعبئة سيّارتك إلا حين تلوّح له ببطاقتك. لكن، إن كنت واحدا من مئات آلاف الناس في الضفة الغربية الذين ليست لديهم حسابات بنكية، ولا يحصلون على رواتبهم عبر البنوك، فستبدأ رحلتك الأصعب بالبحث المستمر عن بديل يقبل "شواقلك".

في المقابل، ليس سهلاً - كما تظن - إيداع أموالك في البنك الذي يحدّد لك سقفاً بـ 5 آلاف شيقل شهرياً في أحسن الأحوال. أدخل ذلك الناس في دوامة أخرى، فنحو 200 ألف مدين يواجهون مشكلات في تسديد قروضهم، ما يعرضهم للمساءلة والسجن. أما التجار، فيواجهون - بناء على ما سبق - صعوبة في تسيير أعمالهم. وخلف ذلك كله، تنشأ "سوق سوداء"، يبحث فيها كلٌ عن حل لأزمته.

هكذا، يُترك الناس في الضفّة في مواجهة تراكم مليارات الشواقل في البنوك الفلسطينية، بعد رفض البنوك الإسرائيلية استقبال هذه الأموال بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولا يبدو أن حلّا يلوح في الأفق. وبحسب بيانات سلطة النقد الفلسطينية، يتكدس سنوياً في القطاع المصرفي الفلسطيني نحو 18 مليار شيقل، إلا أن تكدس الشيقل تجاوز في السنوات القليلة الماضية 22 مليارا.

ما قصّة تراكم الشيقل؟ ولِمَ هو مشكلة حقيقية؟ حملنا أسئلتنا وتوجهنا بها إلى الباحث وليد حبّاس، المرشح لنيل درجة الدكتوراة في العلاقات الاقتصادية بين الضفة الغربية و"إسرائيل". 

"فائض الشيقل"؛ هذا المصطلح الذي ما إن يغيب حتى يعود إلى الواجهة من جديد.. كيف تنشأ هذه الأزمة؟ وما أسبابها؟ 

لا بد من معرفة أن أزمة فائض الشيقل ليست جديدة، وهي تذكرنا بعامي 2009 - 2010، عندما كنا نرى تكدس الشيقل في ممرات البنوك الفلسطينية التي لم تستطع التعامل مع ما تكدس لديها آنذاك من الشيقل. 

وهذه الأزمة نتاج أننا لسنا أصحاب العملة ولا نُصدّرها، فمن ينتجها هو البنك المركزي الإسرائيلي، والسلطة الفلسطينية ممنوعة من إنتاج عملة خاصة بها، وسياسات سلطة النقد الفلسطينية ليست سياسات حرة، وإنما تنبع من وحي "بروتوكول باريس 1994" وإملاءات الإدارة المدنية الإسرائيلية وبنك "إسرائيل". على سبيل المثال، إذا أرادت السلطة أن تمنح السوق 2 مليار شيقل كاش من خلال ائتمانات وقروض، فهي لا تستطيع ذلك من دون الحصول على موافقة إسرائيلية، أو ربّما على توجيه إسرائيلي مسبق بذلك. 

أما أزمة فائض الشيقل، فتنتج عند حدوث اختلال في؛ أولاً: دخل السلطة ومصادرها المتمثلة في العمال الفلسطينيين الذين يعملون في الداخل المحتل، وأموال المقاصة، وثانياً: مصروفات السلطة، وتتمثل في كمية ما يشتريه الفلسطينيون من "إسرائيل" بضاعة، وذلك عندما يصبح دخل السلطة أكثر من المصروفات التي تعيدها السلطة إلى "إسرائيل" من خلال التجارة. 

اقرؤوا المزيد: لا أرض تُزرع ولا سوق يوظّف: أين ذهب عمال الضفة؟

من جهة ثانية، شكلت المناطق التي تسيطر عليها الضفة مكاناً سهلاً للّاعبين الاقتصاديين لإنشاء السوق السوداء، والتهريب، والتزوير. فمثلاً، مئات ملايين الشواقل يحضرها الفلسطينيون من الداخل المحتل بهدف تبييض الأموال والتهرب الضريبي من "إسرائيل"، كذلك من عصابات الإجرام التي تخبئ ملايين الشواقل في الضفة. بالتالي تدخل على السوق الفلسطيني مئات ملايين الشواقل التي لا تستطيع السلطة السيطرة عليها، وتجد نفسها غارقة بها فجأة. 

وبحسب بروتوكول باريس، يجتمع بين الحين والآخر، كل من رئيس سلطة النقد الفلسطينية، ووزير شؤون الإدارة المدنية، ووزير المالية، مع الإدارة المدنية الإسرائيلية، للتنسيق معها بشأن استقبال فائض الشيقل. وفي عام 2019، تعثر أحد هذه الاجتماعات في التوصل إلى اتفاق، حينها كان عزام الشوا يترأس سلطة النقد الفلسطينية، وقررت "إسرائيل" تقليص ما تسمح للسلطة بإرجاعه من فائض الشيقل، والذي كان يُقدر بنحو 4 مليارات. 

ومع أن "إسرائيل" قادرة على استيعاب أكثر من ذلك، وربما كل فائض الشيقل، فإن ذلك شكل أداة ناجعة لاستمرار خنق الاقتصاد الفلسطيني ومحاصرته طوال الوقت.

ما الذي يحصل بالضبط عندما يبقى فائض الشيقل في البنوك الفلسطينية؟ 

يترتب على وجود مليارات الشواقل في البنوك الفلسطينية تكاليف باهظة ومضاعفة ثمناً لحراستها وتأمينها، وهي مشكلة لا تستطيع السلطة التعامل معها إلا بإزاحتها وعكسها على الناس. ومنع "إسرائيل" أموال المقاصة عن السلطة يجعلها عاجزة عن ضخ الشواقل للفلسطينيين، رغم ما تمتلكه السلطة من أموال تستطيع ضخّها في السوق لخلق سيولة مالية، لكنها ترفض ذلك متذرّعة بالمخاطر الاقتصادية. وبالعموم، هي لم تحرص على إقامة اقتصاد وطني ولم تعمل يوماً على تنميته، بل تعمل وفق ما يطلبه منها "بنك إسرائيل" فحسب. 

ورغم أن مشكلة فائض الشيقل ليست بالجديدة، فإن ما فعله وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، أنه راكم على تضخيمها برفضه كلياً استقبال فائض الشيقل، وذلك ضمن تعامله مع الضفة كونها ساحة حرب، بما في ذلك العملية التي يشنها جيش الاحتلال على مخيمات شمال الضفة، وما يترتّب عن ذلك من عمليات نزوح مستمرّة، وهو ما يتزامن مع خنق الضفة اقتصادياً، والذي تمثل في منع العمال الفلسطينيين من العمل في الداخل المحتل، واستمرار احتجاز أموال المقاصة، وتجميد الحركة التجارية، وعدم توفير سيولة مالية في السوق، وعدم قبول فائض الشيقل. 

هذا المخطط هدفه خنق المجتمع الفلسطيني وإيصاله إلى عدم الأمان الاقتصادي، ورفع احتمالية انهيار البنوك والاقتصاد، وهي وقائع تدفع الفلسطيني للتفكير بالهجرة كلّ يوم، خصوصاً أصحاب رؤوس الأموال. ويمكن اعتبار كل ذلك، مقدمة لهدف استراتيجي أشمل، تسعى "إسرائيل" من خلاله لتفريغ الضفة بداية من أصحاب رؤوس الأموال، ومن المدخرات المالية. 

اقرؤوا المزيد: تسهيلات "سلطة النقد"؟ الرابح يبقى مَصرِفاً...

الأمر لا يتعلق بسموتريتش ولم يبدأ من عنده، إنما هو مسعى "إسرائيل" بصفتها منظومة استعمارية تعمل طوال الوقت على تنفيذه. فوجود السلطة الفلسطينية، وتبعات ذلك اقتصادياً، خدم "إسرائيل" خلال الثلاثين عاماً الماضية. لكن الآن، تتوجه "إسرائيل" لخنق الفلسطينيين في الضفة استعداداً لتعامل جديد معها بعد انتهاء الحرب على قطاع غزة. 

معنى كلامي، أنه يجب ألّا نتوقع أنه بتوقف الحرب سيرجع كل شيء إلى ما كان عليه، وأن ما فرضته "إسرائيل" من إجراءات متعلق بالحرب فقط، فثمة تحول جديد في "إسرائيل" بشأن الوجود الفلسطيني والتعامل معه على مختلف المستويات، وهو ما قد يُسرع إسرائيلياً من الشروع في خطط تهجير الفلسطينيين خلال الـ 10-15 عاماً القادمة.

في 11 حزيران/ يونيو 2025، قرر وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إلغاء إعفاء يتيح التعاون بين البنوك الإسرائيلية والبنوك الفلسطينية.. ما العلاقة بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية؟ وماذا يعني إلغاء سموتريتش لإعفاء التعاون؟  

وضع بروتوكول باريس كل البنوك الفلسطينية تحت سلطة النقد الفلسطينية، والتي تأخذ كل إجراءاتها من بنك "إسرائيل"، فهي غير مستقلة بقراراتها، بدءاً من برامج المحاسبة داخل أجهزة كمبيوترات البنوك والتي تأتي مباشرة من "إسرائيل"، حتى أثاث البنوك. 

وإذا نظرنا إلى علاقة البنوك الفلسطينية مع الخارج، فهي لا تتم إلا بالمرور من بنوك "إسرائيل" الثلاثة: بنك "مركنتيل ديسكونت"، وبنك "هبوعليم"، وبنك "لئومي". وفي 2016، وبالتزامن مع إصدار أميركا قانون الإرهاب المالي، تخوفت هذه البنوك الإسرائيلية من استمرار تعاملها مع البنوك الفلسطينية التي قد تتهم بـ "الإرهاب" في أي وقت، لذلك أتاحت "إسرائيل" لهذه البنوك "إعفاء" يُجدد كل ستة أشهر، ينص على أنّه إذا ثبت تحويل أموال لأي "مصدر إرهابي" فإن البنوك الإسرائيلية لا تلاحق قضائياً. 

رفض سموتريتش تجديد "الإعفاء" يعني تخلي البنوك الإسرائيلية عن مسؤوليتها تجاه البنوك الفلسطينية، ما يترتب عنه عزل الضفة عن العالم، وعدم خروج أي حوالة مالية من الضفة إلى الخارج. وبالتالي انهيار البنوك الفلسطينية، وتحوّلها إلى مجرد "بسطة"، رغم ما في خزانتها من ملايين الشواقل.

ما تدور حوله معظم الوقت، هو أنّ الأزمة المتجددة وتبعاتها، نتاج لشكل البنية الاقتصادية التي قبلت بها السلطة حين أبّدت تبعيتها لـ "إسرائيل" على شكل بروتوكول اقتصادي.. لو ترسم لنا ملامح هذه البنية الاقتصادية.

أولاً، لا تسيطر السلطة الفلسطينية على أي حدود، ولذا كل تجارة تمرّ عبر "إسرائيل" المسيطرة على كل حدود فلسطين. وحتى داخل الضفة الغربية نفسها، عند فرضها الحواجز على مدن محددة مثل جنين ومنعها من التجارة الداخلية وإخراج البضاعة إلى مدن أخرى. 

ثانياً، إنّ أكثر ما يُخضع الضفة لتبعية "إسرائيل"، هو أن كل السلع الحيوية والأساسية تأتي فقط من "إسرائيل": الكهرباء، الماء، الاتصالات، والوقود، لا يوجد لها أي بديل عن "إسرائيل".

ثالثاً، مالياً نحن نعتمد على "إسرائيل"، لا سيما أموال المقاصة التي تُشكل نسبة الثلثين من الدخل الذي تعتمد عليه السلطة، ولـ "إسرائيل" كامل القدرة على احتجازها متى ما شاءت، وعلى تحديد المقدار الذي تمنحه للسلطة.

رابعاً، ما ينظم الحياة الاقتصادية هو الأوامر العسكرية الإسرائيلية، بمعنى أن "إسرائيل" وحدها التي تسمح ولا تسمح، فمثلاً؛ عدم بناء السلطة لمصانع تستوعب عشرات آلاف العمال هو بناء على قرار إسرائيلي، وعدم وجود كثير من الأجهزة في المختبرات الطبية هو لأن "إسرائيل" تمنع ذلك، إذ تضعنا "إسرائيل" عند نقطة محددة من التطور، وهو ما يؤكده كم الأوامر العسكرية التي تتحكّم فيما تمتلكه الضفة، ما جعلها في مستوى الدول الفقيرة مثل الصومال. 

أما خامساً، فالسلطة تتبع نمط السوق المفتوح "النيوليبرالي". بالنسبة إليها، فإن أصحاب رؤوس الأموال والأغنياء على سلم أولوياتها، ولم تسعَ يوماً لخدمة الفلسطينيين ببناء اقتصاد وطني أو مقاوم. وهذه العناصر كلها مجتمعة لم تخلق التبعية لـ "إسرائيل" فحسب، وإنما أيضاً وضعت كل اقتصاد الضفة في يدها، أمام موافقة السلطة المستمرة وعدم إبدائها أي رفض. 

حسناً، هل هناك مفر من هذه العلاقة الاقتصادية بين السلطة و"إسرائيل"؟ 

لا، السلطة تأسست لخدمة هذه البنية من التبعية الاقتصادية منذ اتفاقية أوسلو 1993، ولو أرادت السلطة رفض هذه البنية، لرفضتها منذ أن قُدم بروتوكول باريس الذي ينظم بوضوح هذه العلاقة الاقتصادية بين "إسرائيل" والسلطة، والذي نص على أن الأموال تأتي فقط من خلال "إسرائيل"، وأنها المسيطرة على الحدود والمعابر، وأنها من تحدد قيمة الضريبة، وأنها من تحدد صرف السلطة، وأنها من تحدد أيضاً كميات الكهرباء والماء الذي تقدمه للفلسطينيين. 

بالتالي، ما فعلته السلطة في بروتوكول باريس هو تسليم "إسرائيل" كل الأدوات والموارد الاقتصادية، في مقابل وصول المليارات إلى يد فئة قليلة في الضفة احتكرت الاستفادة من الاتفاقية الاقتصادية.

هل من الممكن أن تؤدي أزمة فائض الشيقل إلى انهيار السلطة كمنظومة سياسية واقتصادية وأمنية تحكم الفلسطينيين في الضفة الغربية؟ 

إذا كان المقصود بانهيار السلطة هو عدم قدرتها على دفع الرواتب، فهذا هو وضعها في الوقت الحالي، أما انهيارها كمجموعة مؤسسات فيظل احتمالاً قائماً، لكن ذلك لا يخدم مصلحة "إسرائيل" وأميركا والاتحاد الأوروبي من إقامة السلطة ووجودها، وما زال وجودها كجسم مهما لـ "إسرائيل"، غير أن هذه الرؤية قد تختلف وتتغيّر بعد خمس سنوات ربما. 

ولكن ماذا استفاد الفلسطينيون من وجود السلطة! لطالما ألحق وجود السلطة ضررا بالناس على مستوى المعيشة والسياسات المالية والنظام الضريبي، وصولاً إلى قطاع الزراعة. ما يعني أن وجودها ألحق ضررا بالناس أعلى مما قد يُلحقه بهم انهيارها. 

اقرؤوا المزيد: التنمية الممنوعة على العرب: كيف فكّر القادري؟

على سبيل المثال، لو نظرنا إلى الحوالات الطبية التي كانت ترسلها السلطة إلى المستشفيات الإسرائيلية فقط، وافترضنا جدلاً أنها كانت ترسلها إلى الأردن أو إلى تركيا - وهو ما لم تمنعه اتفاقية أوسلو - لوفّرت بذلك أموالا تُمكّنها من تشييد 13 مستشفى بمستوى المستشفيات الإسرائيلية المتقدمة كـ "هداسا"، ولكنها أصرت على استمرار إرسالها إلى "إسرائيل" ما كبّدها تكاليف باهظة. 

أما على مستوى الوقود، فحسب اتفاقية أوسلو أيضاً، متاح للسلطة أن تستورد من أي مكان تريده، وفقا لمعايير حددتها "إسرائيل"، ومتاح لها أيضاً أن تفتح مصفاة نفط خارج الضفة، لكن السلطة لا تريد أياً من ذلك، وأصرت أيضاً على أن تستورد الوقود من "إسرائيل" فقط.

أخيراً، في ظل هذا الحصار الاقتصادي المطبق على الضفة اليوم، ومع وجود مؤشرات على استمراريته طويلاً.. يبقى السؤال: كيف ننجو اقتصادياً من حصار "إسرائيل"؟ هل يمكننا ذلك أم فات الأوان على التفكير بهذا السؤال؟ 

لا يمكن أن يكون الجواب فردياً، بل بحثاً مستمراً عن جواب جماعي بمعزل عن السلطة، ويتجاوزها، ويشمل التخطيط من كل القطاعات، ويسمع آراء المتخصصين من مختلف المجالات، ويكسر احتكار التخطيط بيد فئة من المتنفذين.