25 سبتمبر 2022

لماذا يجب أن تستمر "إنعاش الأسرة"؟

لماذا يجب أن تستمر "إنعاش الأسرة"؟

يوم الثلاثاء 6 أيلول/ سبتمبر الجاري، وأثناء تجوّلي السريع في فضاء "فيسبوك"، وقعت عيني على منشورٍ لصفحة جمعية إنعاش الأسرة، بدا حزيناً من عنوانه: بيان رأي عام. حوى البيان افتتاحيةً عن الصعوبات الماليّة التي تعصف بالجمعية منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر، والتي أضرّت بالجمعيات الخيرية في فلسطين إذ قيّدت وصول التبرّعات من الخارج، وليس انتهاءً بآثار فيروس "كورونا" الذي كشف عن عجز الجمعية المالي وفاقم منه. أما خاتمة البيان، فكانت إعلاناً عن إغلاق بعض الأقسام التشغيلية للجمعية وإنهاء خدمة 18 موظفاً وموظّفة. 

قد يبدو الخبرُ عاديّاً للوهلة الأولى، لكن من يُجري مسحاً لتعليقات الناس على المنشور، يفهم أنّ الخطب جلل. كانت تعليقات الناس أشبه بعجالٍ مُشتعلة أمام صفحة الجمعية، فمن استفاد من الجمعية وأفاد فيها - وهم كُثر - يشعر بأنّ الجمعية بيته، وهو بيتٌ أوّلٌ عند كثيرين، ولا أحد يُحبّ أن يُمسّ بيته بسوء.1أنظر مثلاً؛ مقطع على اليوتيوب بعنوان: "قصة ياسمين وأمل في إنعاش الأسرة" على قناة الجمعيّة. قليلون برّروا للإدارة خطوتها هذه، ولكنّ مُعظمهم أرجع القرار لا إلى الأزمة الماليّة فحسب، بل إلى سوء إدارتها أيضاً، ودفعهم ذلك إلى الترحّم على أيّام زمان وصاحبة تلك الأيّام.

الخالة أم خليل

اندفعت سميحة خليل إلى العمل المجتمعي بما تحمله من ذاكرة عن النكبة وأهوالها؛ من المجدل إلى غزّة، ومن هناك - وعبر قاربٍ في البحر - إلى شاطئ بيروت، ثمّ إلى سوريا فالأردن وصولاً إلى طولكرم وفيما بعد رام الله. 

خلال هذه الرحلة الطويلة من التهجير، حملت أم خليل معها مشهداً لقسوته في نفسها صارَ على كتفيها: فتياتٌ دفعتهنّ الحاجة إلى الخبز لبيع حُليّهن. كبُرت هذه الندبة حتّى استقرّت عام 1965 في مشروع جمعيّة "إنعاش الأسرة"، والتي هدفت إلى تمكين الأسرة الفلسطينيّة (قبل أن تُلوّث المؤسسات الأجنبية شعار التمكين)، من النساء والأطفال تحديداً، وإسناد المجتمع الفلسطيني ودعم صموده.

عملت الجمعيّة في ظروفٍ صعبة كان المجتمع الفلسطيني في أمسّ الحاجة لها. بحسب فريدة العمد، الرئيسة الثانية لمجلس إدارة الجمعيّة،2رئيسات مجلس الإدارة بالترتيب: سميحة خليل (1965-1999)، فريدة العارف العمد (1999-2019)، رسمية مسروجي (2019-2020)، ريم مسروجي (2020-حتّى الآن). دعت أم خليل عضوات الجمعيّة في الأسبوع الأوّل بعد حرب عام 1967، وأخبرتهنّ بحزم: "الآن جاء وقت العمل". كانت "إسرائيل" قد أتمّت هدم قرى اللطرون الثلاثة: عمواس ويالو وبيت نوبا، الواقعة جنوب غرب مدينة رام الله بمحاذاة القدس، وقامت بتهجير أهلها وطردهم. وقتها ساندت الجمعيّة الذين هُجّروا من القرى إلى رام الله والبيرة، ووفّرت لهم الضروريّات بما يضمن لهم حياتهم وصمودهم.

إضافةً لاحتضانها الناس والعمل على تقوية صمودهم حين تشتدّ عليهم الأوضاع، ساهمت الجمعيّة بما تملكه من أدوات في أوقات الانتفاضات الشعبيّة. ففي الانتفاضة الأولى، وتحديداً عام 1990، أنشأت الجمعيّة كليّة للمهن الطبيّة. كما تقول العمد، فإنّ ذلك جاء استجابةً للظروف التي خلقتها الانتفاضة، إذ كان هنالك نقصٌ بالمُمرضين والمسعفين. 

عضوات الجمعية خلال مشاركتهم في مسيرة احتجاجية على إحراق المسجد الأقصى عام 1969، أرشيف الجمعية.

كانت الجمعيّة بمثابة منظمة تحرير مُصغّرة داخل فلسطين؛ بعلاقاتها وحضورها في الشارع ومُساهمتها في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والأكثر أهميةً من ذلك هو دورها في مجابهة العدوّ. فمثلاً؛ شاركت نساء الجمعيّة في نشاطات وفعاليّات وتظاهرات ضدّ الاحتلال، من ذلك خوضهنّ اعتصاماً داخل كنيسة القيامة عام 1967، ومُشاركتهنّ في مسيرة احتجاجية بعد جريمة إحراق المسجد الأقصى عام 1969. 

علاوة على ذلك، ومن الأمثلة الطريفة، أن شرعت أم خليل ورفيقاتها في الجمعيّة بصنع "البسكويت" نكايةً بالاحتلال الذي بدأ بتوزيع "البسكويت" عند احتلاله ما تبقى من بلادنا، مثلما تحدّث عبد الجواد صالح، رئيس بلديّة البيرة وقتها. وهذا كان ديدن الجمعيّة، كما يقول صالح، فصنعوا البيجامات والقمصان، والطواقي التي كانت توزّع للفدائيين. وهو ما جعل أم خليل تتعرّض ذات مرّة للاعتداء بوحشيّة من قبل ضابط إسرائيلي، والاستدعاء مراراً من قبل الاحتلال، ومنعه إيّاها من السفر.

57 عاماً

انصبّ عمل الجمعية على مقوّمات أساسيّة للمجتمع: جناحي الأسرة الذين هما المرأة والطفل، والتراث الذي يُشكّل تاريخ المُجتمع وهويّته. وبحسب ما تشرح فريدة العمد، فقد وضعت الجمعيّة مجموعة من الأهداف تسعى لتحقيقها من خلال نشاطها ذلك: أهداف وطنيّة؛ تتصدّى للاحتلال وتحتضن العائلات المُتضرّرة من الشهداء والأسرى، ومثالُ ذلك أن أطلقت الجمعيّة برنامج الرعاية بالإنفاق للأيتام والأسر المستورة، وكذلك خصّصت منزلاً لبنات الأسرى والشهداء وأصحاب الحالات الإنسانيّة. أهداف اجتماعيّة؛ إقامة مراكز تدريب مهني للمرأة، إذ رأت الجمعية أنّ استقلال المرأة المادي يُمكّنها من إعالة أسرتها في حال تعذّر عمل الزوج بسبب الاعتقال أو الاستشهاد أو غير ذلك. أهداف اقتصاديّة؛ استقلال الجمعيّة اقتصاديّاً حتّى تُحافظ على استقلاليّة قرارها، فأقيمت منذ البداية، وبشكل تدريجي، مراكز انتاجيّة حتّى تُغطّي للجمعيّة مصاريفها والتزاماتها الماديّة، فكان الاعتماد عليها أكبر من الاعتماد على التبرعات والتمويل المحلّي والخارجي غير المشروط. عن هذه النقطة، أشارت سميحة خليل في إحدى مُقابلاتها عام 1983: "كانت مصروفاتنا جميعها تعتمد على التبرعات، أما الآن فإن الجمعيّة تمكنت من تغطية أكثر من 60% من نفقاتها، وذلك بإيجاد المصانع الصغيرة والإنتاج المحلي من منسوجات وأغذية وغيرها".

اقرؤوا المزيد: "كيف يُرمّم الدمار؟ اللجان الشعبية إحدى الإجابات".

كبُرت الجمعيّة شيئاً فشيئاً، وكانت أم خليل ترقب نموّها وتحتفي به. من ذلك؛ ما صرّحت به عام 1983: "فازداد عدد أعضائنا وأصبح يُقارب الـ 100 عضو، أما المُتدرّبات فقد بدأنا بثمانية من المُتدرّبات في قسم الخياطة والآن عندنا أكثر من 300 مُتدربة في أقسام الخياطة والسكرتارية والنسيج والتجميل والتطريز على الطارة". وفي مقطعٍ آخر، تقول: "كان عند الجمعية موظفة واحدة تتقاضى خمسة دنانير شهريّاً، والآن عندنا 76 موظفة يتقاضين 54 ألف دينار سنويّاً".3لقاء مجلة "الجديد" مع سميحة خليل في كانون الأوّل 1983، مأخوذ من أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة.  

بعد أم خليل، ازدادت الأقسام والنشاطات في الجمعيّة وتوسّعت، وازداد عدد موظفيها حتّى تجاوزوا المئة… لكنّ هذا لم يدم! 

ماذا تقول الموظّفة؟ 

أما اليوم، مع نهاية صيف عام 2022، فإنّ قسمي الروضة والحضانة والألبسة الجاهزة أُغلقا بشكلٍ كامل، وبقرار من إدارة الجمعيّة ضمن خطّتها لإعادة الهيكلة وتقليل فاتورة الرواتب التي باشرت بتنفيذها. أما قسم العلاج الطبيعي تُرك بدون موظفة تُديره مما يعني إغلاقه ضمنياً، وذلك بعد أن قدّمت المسؤولة عنه استقالتها في فترة شهدت تقديم استقالاتٍ كثيرة في الجمعيّة. كذلك، ألغي تخصّصا التجميل والتصوير بموظّفاته وسيُستبدل بدوراتٍ أكثر تخصّصاً وبعقودٍ استشاريّة مع المُدرّبين، واستُغني عن موظّفي الدائرة الثقافيّة فيما خطّة الإدارة أن تعمل هذه الدائرة من خلال متطوعين. 

وبمعيّة هذه الإجراءات، استُغني عن  18 موظفاً وموظفة بحجة تخفيف فاتورة الرواتب، وقد نظّم المفصولون وقفةً احتجاجيّة على ذلك في 7 أيلول/ سبتمبر الجاري. إحدى المُحتجّات سيّدة كبيرة بالسنّ، تعمل في الجمعيّة منذ أكثر من 30 سنة وراء ماكينة الخياطة، تتساءل في أحد التقارير بشيءٍ من الحزن والاستنكار: "بهالسهولة يستغنوا عني!"، ثمّ تستدرك فتقول: "مع إني عشت في الجمعية أزود ما عشت بداري، أنا بنتمي إلها وبحبها". 

تواصلتُ مع نقاء حامد، وهي إحدى اللواتي طالهنّ قرار الفصل، وقد عملت في الجمعيّة كمُديرة دائرة العلاقات العامة والإعلام ومنسقة ضمن الدائرة الثقافيّة. "هناك مشكلة مالية نعم، ولا حده بنكر، بس لا تختلف عن مشاكل مؤسسات البلد"، تقول نقاء. وهي بذلك تُحيل المُشكلة الرئيسيّة إلى الطريقة الجديدة التي يُعالج المجلس الحالي من خلالها الأمور. تشرح حامد بعض ملامح ذلك، فتقول: "كل حده كان يستقيل ما يجيبوا بداله، ولما يفضى [القسم] كان بيتسكّر". وهذه استراتيجيّة بدت واضحة في قسم العلاج الطبيعي، الذي تُفكّر الإدارة إما بتضمينه أو ببيع أجهزته. 

أما في الأقسام التي التي لم تُغلق، عنى فصل موظفيها أو تقديمهم الاستقالة، ترحيل العبء على موظفين في أقسام أخرى. تصف نقاء ذلك فتقول: "كان في سوء لتوزيع الشغل والحمل. الموظفين صاروا أوفر لوديد، مين ما سألت بقلك مضغوط وتعبان". 

اقرؤوا المزيد: "التهمة: توزيع طرود غذائية!".

مُنذ أن تسلّم مجلس الإدارة الحالي زمام الجمعيّة بالتزكية عام 2020 وهو يُفكّر بهذه الخطوة، وتشغله "مَهمة إنقاذ الجمعيّة" من مأزقها المالي. وفق هذا الهاجس، كان مجلس الإدارة كثير التدخّل في سير العمل، "حتّى في أقلّ التفاصيل" كما تقول نقاء؛ الأمر الذي - بحسبها - يُخالف منطق الإدارة المعمول به في الجمعيّة الذي يحصُر وظائف المجلس في رسم السياسات والإشراف والمراقبة، وهو كذلك يؤخّر العمل ويُعرقله في كثيرٍ من الأحيان. 

إن كانت الأزمة الماليّة قديمة في الجمعيّة، فإنّ بوادر ظهورها على السطح جديدة. تؤرّخ نقاء لذلك من خلال الإشارة إلى الأزمة الواقعة بين الإدارة والموظفين منذ سنة من الآن؛ والتي تمثّلت بتقديم عددٍ لا بأس به من الموظفين استقالاتهم (فيما يبدو احتجاجاً على تلقي رواتب مقتطعة، أو بسبب ضغوطات العمل). ثمّ كان التطوّر الثاني لهذه الأزمة حين أُغلقت الروضة والحضانة، وقد تعلّق فيها الأهالي قبل الموظفات فيها. بعد ذلك، تفاقمت الأزمة حتّى وصلت إلى منتهاها مع قرار فصل الموظفين. 

ماذا تقول الإدارة؟

أخذتُ كلام نقاء، وذهبتُ بهِ إلى جمعيّة إنعاش الأسرة لأقابل سهى البرغوثي، نائبة رئيسة مجلس الإدارة. قبل أن أقابلها، سألتُ موظّفة الاستقبال عن إمكانيّة استعارة كتاب، وكان كتاباً يُفيد مقالي هذا، فأجابت: إنّ المكتبة مغلقة. حين استقبلتني البرغوثي، كرّرت عليها السؤال ذاته، فأشارت إلى أنّه لا نيّة لديهم في توظيف أحد والاستعاضة بذلك إما بتفتيت هذه المَهمّة على الموظفين الموجودين حاليّاً وإمّا بإسنادها إلى متطوّعين، وذلك لسببين: الأوّل الذي عبّرت عنه بقولها: "سفينة إنعاش الأسرة بطلت تقدر تحمل هاد العدد من الموظفين"؛ أما الثاني فهو أنّ "الدائرة الثقافية مش دائرة عمليّاً… ولا دائرة إنتاج ثقافي"، بحسب تعبيرها، وربّما عنت بذلك أنّ وضعها الحالي لا تحتاج إلى أكثر من متطوّعين. 

يُذكر أن الدائرة الثقافية تضمّ مكتبة التراث والأرشيف، ومتحفاً، وكانت تجري من خلالها أنشطة ثقافيّة. كما يتبع لها مركز التراث والأبحاث الذي صدرت من خلاله مجلّة "التراث والمجتمع"، وكان آخر إصدار لها عام 2020، وهي من أهمّ المجلات الثقافية المحلية التي عُنيت منذ انطلاقتها أوائل السبعينيات بدراسة التراث الشعبي الفلسطيني بشكلٍ أساسي، وبشكلٍ أقل تركيزاً بتقديم دراسات في العلوم الاجتماعية والثقافية عن المجتمع الفلسطيني، وعمل وساهم فيها عددٌ من الباحثين المُعتبرين فلسطينيّاً، مثلَ: شريف كناعنة، وعبد اللطيف البرغوثي، ونبيل علقم، وعبد العزيز أبو هدبا، وسميح حمودة، وغيرهم.

وممّا تجدر الإشارة إليه، أنّ التطوّع مهمٌّ فعلاً، وتجييره لصالح الجمعيّة يُكسبها قيمة إضافيّة. ولكن لا يُمكن تقديمه على أنّه بديل للتوظيف، فلكلّ مجاله ومحدوديّته وقدرته على الإنتاج وقطف الثمار.

من حصص تعليم الكاراتيه في النادي الصيفيّ الذي أُقيم في الجمعية عام 1995. أرشيف الجمعية.

ليست البرغوثي، والأخريات في مجلس الإدارة، غُرباء عن الجمعيّة وفكرتها، فهم في مُعظمهن بناتُ عضواتٍ سابقات، تربّوا في الجمعيّة وشاركوا في بنائها (حرفيّاً) وأخذوا قيمها من أمّهاتهم وصارت بعضاً منهم، وهنّ الآن يعملنَ تطوّعاً. "[مرّات] بحس أمي بتطلّع علي"، تصف البرغوثي شعورها تجاه المسؤولية التي أحسّوا بها حين أخبرهم المُدقّق المالي عن التعثر المالي في ميزانية المؤسسة قائلاً: "يجب العمل جديّاً لضمان ديمومة جمعيّة إنعاش الأسرة".

لكنّ السؤال الذي يُستلهم من عبارة المُدقّق: كيف تكون الإجراءات الأخيرة بإغلاق أقسام إنتاجيّة حفاظاً على ديمومة الجمعيّة؟ وهناك موظّفات، حرفيّاً، عشن في الجمعيّة؛ كيف يكون الاستغناء عنهنّ يصب في صالح الجمعيّة وهو يقع على النقيض من فكرتها الأساس؟ هذا ما كان يشغلني حين توجّهت إلى مبنى الجمعيّة. 

عن ذلك أجابت البرغوثي بالقول: "تقليص التخصّصات أحياناً بزيد الإنتاجية وبطوّر الموجود". وفق البرغوثي فإنّ الأقسام التشغيليّة التي أغلقت بدأت تأخذ من الجمعيّة أكثر ممّا تُعطيها، والهدف الأساسي منها هو إرفاد الجمعيّة بالمال لا العكس؛ "صرنا نصرف عليها بدل ما تصرف علينا بنشاطنا الإنساني". 

كما تقول البرغوثي إنّ هذه الأقسام من غير المُمكن أن تُنافس في السوق، فهي لم تعد تُقدّم خدمات حيويّة واستثنائيّة، كما كانت في السابق، لا للأهالي ولا للفتيات اللواتي يتدرّبن، حتّى باتت تتكبّد خسائر ماليّة. يُذكر أن خسائر الجمعية وصلت عام 2020 وحده إلى حوالي 3 مليون شيكل، وأن تراكم الخسائر في السنوات الأخيرة وصل إلى ما يقارب 8 ملايين شواكل.

"مسؤوليتنا تجاه المتدربات أعلى من مسؤوليتنا تجاه الموظفات"، تقول البرغوثي، وتُشير إلى أنّ فلسفة تمكين النساء التي يمشون وفقها هي في تأهيل الفتيات لسوق العمل؛ "أنا بدي مركز إنتاجي ربحي يصرف على مشاريع تمكين المرأة والإنسانية.. أنا مش مستعدة اعتمد على التمويل، من البداية بدنا مراكز إنتاجية أشبه بالقطاع الخاص عشان تصرف على أهداف الجمعية". 

وفي كلام البرغوثي ما يُشير إلى فلسفةٍ لتمكين السوق أكثر من تمكين المرأة، إذ أنّ الوضعيّة التي خَنَق بها شكلُ السوق اليوم الجمعيةَ جعل من غاية "تأهيل الفتيات لسوق العمل" مُتعارضةً مع غايةٍ قديمةٍ عند الجمعيّة، تمثلت قديماً في  تشغيل واستيعاب النساء واليتيمات اللواتي ربّتهنّ الجمعيّة. وإغلاق مثل تلك الأقسام التشغيلية قد يؤدي إلى فقدان الجمعيّة لإحدى رسائلها التاريخيّة والإنسانيّة المُتمثّلة باستيعاب المُهمّشات وتمكينهنّ.

إحدى المشاكل الأساسيّة الجادّة، التي تحدّثت عنها البرغوثي، هي في عدم قدرة الجمعيّة في السنوات الأخيرة على الالتزام بصرف رواتب كاملة لموظّفيها. فبسبب ضعف الإيرادات القادمة من الأقسام التشغيليّة وضعف التمويل والتبرّعات تقاضى الموظّفون نصف راتب، وفي أحسن الأحوال 70% منه، وفي مرتين فقط استطاعت الجمعيّة صرف راتبٍ كامل نتيجة تبرعّات. 

"بعتنا 50 مراسلة تقريباً لشركات دولية ومحلية وأسماء وعلاقات شخصية، حاولنا نجمع بعض التبرعات، واشتغلنا بشكل شخصي لحد إنه اصدقاءنا بطلوا حابين يسلموا علينا" تقول البرغوثي. مع ذلك، تشير البرغوثي إلى استحالة أن تُشكّل التبرعات حلّاً جذريّاً لمشكلة الرواتب، تقول: "شعرنا أنه في قربة مخزوقة اسمها الرواتب". 

بحسب تصريحات الجمعيّة، بلغت فاتورة الرواتب 300 ألف شيكل لـ 100 موظف تقريباً، أي ما يعادل 62 ألف دينار؛ وهذا رقم أجده قريباً على فاتورة الرواتب لعام 1983، كما أشارت إليها سمحية خليل، إذ بلغت لـ 76 موظفة 54 ألف دينار. 

بناءً على ذلك، بدأت الإدارة بتقليص المصاريف وإغلاق بعض الأقسام التشغيلية، في مقابل تطوير بعض الأقسام الإنتاجيّة، كما تُشير البرغوثي. عنى ذلك ترحيلاً لبعض الموظفين وإغلاقاً لبعض الأقسام، مُقابل تطوير مشروع مطبخ "زعفران" بآلات حديثة وإنشاء خطّة لزيادة إنتاجيّة التطريز، وكذلك ترشيد استهلاك الكهرباء من خلال إنشاء خلايا شمسيّة. إنّ منطق بقاء المطبخ مثلاً، والعمل على تطويره، قائمٌ على ذات المنطق في إغلاق الأقسام، فهو حاليّاً يُدرّ أرباحاً للجمعيّة، لكنّه كما تقول البرغوثي: "إذا لقدام بطل يعمل دخل ما منكمل فيه".

يبدو من الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الجديدة، أنّ الأزمة الماليّة للجمعيّة كانت بمثابة مُناسَبة لإحداث تغييرات في هيكلة الجمعيّة وليست سبباً وحيداً إذا ما تلاشى فإنّهم يتراجعون عن قرارات الفصل والإغلاق. يتضح ذلك مثلاً في دائرة التدريب المهني، التي تقوم مُقاربتهم لها على شقّين: أولاً؛ إلغاء التوظيف واستبداله بالعقود الاستشاريّة المؤقّتة. ثانياً؛ إلغاء بعض المساقات التي لم تعد على صلة بواقع السوق مثلَ السكرتاريا، واستبدالها بدوراتٍ أكثر تخصّصاً وتركيزاً وطلباً في السوق مثلَ "الشيف". 

في المُحصّلة، تُقارب إدارة الجمعيّة اليوم العمل المُجتمعي وفقَ فلسفة تختلفُ قليلاً عن سابقتها، وهي بحسبهم فلسفة لإنقاذ الجمعيّة والحفاظ على ديمومتها والتقدّم بها وتطويرها. غير أنّ الجمعيّة التي فتحت مجموعة كبيرة من الأقسام والدوائر لا يكون تقدّمها بتقليص هذه الأقسام والدوائر، مثلما لا يكون تطوير المباني الخمسة التي تمتلكها الجمعيّة بإغلاق بعضها. وهذه الأقسام، وعلى أهميّة أن تُشكّل دخلاً للجمعيّة كي تبقى غير مُعتمدة بشكل كبير على الدعم والتبرّعات، فإنّ أهمّيتها الحقيقية لا تُقاس بما تُشكّله من دخلٍ فحسب، لأنّ منطق الجمعيّة الخيريّة يختلف عن منطق الشركات الربحيّة أولاً، وثانياً لأنّ هذه الأقسام تتقاطع مع أبعادٍ تُراثيّة وهويّاتيّة وقيميّة للجمعيّة والمُجتمع، وإن ارتقى الربح إلى مكانٍ يُصبح هو فيه المُحدّد الذي وفقه يُفتح قسم ويُغلق آخر، فقد تكون هذه بداية النهاية. 

 سميحة خليل تحمل الميكرفون على مظاهرة على الحدود اللبنانية الفلسطينية احتجاجاً على إبعاد أكثر من 400 فلسطيني إلى مرج الزهور في لبنان، عام 1992. المصدر: أرشيف الجمعية.

يجب ألا تترك وحيدة

من الأهميّة بمكان أن تُحقّق الجمعيّة قوّة واستقلاليّة لكي لا ينتهي بها الحال في حُضن الارتهان إلى شروط التمويل واستبداده، ومن الأهميّة بمكان أن تستمرّ إنعاش الأسرة لأنّها نتيجة تفاعلٍ حيويّ مع المُجتمع ولأنّها مشاعٌ لا حقوق مُلكيّة عليه، ولأنّها - وهذا هو الأهم - تؤدّي دوراً مُهمّاً في إسناد المُجتمع ودعم صموده، وهي مَهمّة نادرة حاليّاً بعد الذي تعرّضت له الجمعيّات الخيريّة في الضفّة الغربيّة من مُحاربة من قبل الاحتلال والسلطة ورأس المال. فمنذ الانتفاضة الثانية، شنّت سلطات الاحتلال والسلطة الفلسطينية حملةً على البُنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة لشلّ المُجتمع أمام أي حالة مواجهة قادمة، فقد حٌلّت أكثر من 130 جمعيّة خيريّة تحت شعار "تجفيف منابع الإرهاب"، وأغلقت بعضها وسيطرت على آخر. 

اقرؤوا المزيد: "لجان الزكاة.. فصل من تدمير العمل المجتمعي".

ما تمرّ به إنعاش الأسرة يكشف الضعف العام الذي وصلت له أعمالنا الأهلية والجماعيّة، وهو يعطينا مؤشّراً مؤسفاً بأنّ المؤسسات التي تستطيع أن تستمر هي تلك التي ربطت مصيرها بماسورة التمويل. تضع الجمعيّة على موقعها 25 شركة ومؤسسة وجمعيّة محليّة تحت بند "شُكر وتقدير"، ومن ضمنها شركات عملاقة بأرباح خياليّة؛ ما هو دور هذه الشركات وما هي المسؤولية المجتمعية التي تقع على عاتق رؤوس الأموال أمام انقراض ما تبقّى من مؤسسات مجتمعية وطنية في البلد؟

أمّا السلطة، فما الذي تفعله حيال إنقاذ مؤسسات من هذا النوع؟ مثلما لم تُحرّك ساكناً عندما أغلق البنك العربي حسابات الجمعيّة عام 2013 بتبنّيه أنّها "مُنظّمة إرهابيّة"، ومثلما كانت ردّة فعل اشتيّة حيال المؤسسات التي أغلقها الاحتلال هذا العام بعد قرار حظرها العام الماضي ضمن حملةً لتصفيتها بأن يذهب "أصحابها يفتحوها". اللهم إلا إمرٌ واحد بإمكانهم تقديمه: إحدى المصادر، أشارت إلى أنّ الأمن الوقائي ذهب إلى الجمعيّة في عزّ أزمتها بعد فصل الموظّفين للسؤال عن الاحتجاج ومحاولة معرفة القائمين عليه؛ هذا هو الدور الوحيد للسلطة، وهذا هو السؤال الوحيد الذي يشغلها.