13 يوليو 2020

في موجتها الثانية.. كيف تواجه السّلطة "كورونا"؟

في موجتها الثانية.. كيف تواجه السّلطة "كورونا"؟

مهزوزةً مرتبكةً، بلا "سلطة"، أو "خطّة" واضحة يُصدقها النّاس ويطمئنون لها، هكذا بدت السّلطة الفلسطينيّة مساء أمس الأحد، الثاني عشر من يوليو/تموز. بعد اجتماعات استمرّت طويلاً في النهار، وانتظار طال للحصول على الأخبار، خرج مساءً المتحدث باسم الحكومة الفلسطينيّة ليُعلن إغلاق 4 محافظات في الضفة الغربيّة، ومنع للحركة بعد الساعة الثامنة مساءً، وذلك بعد إغلاق سابق استمر 10 أيام عقب بدء "الموجة الثانية"من انتشار فيروس  "كورونا". 

إلا أنّ المحافظين وأعضاء الغرف التجاريّة، والذين يبدو أنّ لهم نفوذاً متزايداً في الساحة الفلسطينية مؤخراً، خرجوا بعد زمن قصيرٍ، يؤكد كلّ منهم استثناء محافظته من أوامر الإغلاق. وبين هذا وذاك، خرج النّاس وخاصّة التجار في الخليل ورام الله يحتجون على قرارات الإغلاق التي لن يُعوضهم عن خسائرها أحد. بعدها عاد رئيس الوزراء ليحاول فرض قرار الإغلاق بشكل نهائيّ مطالباً المعترضين أن يعترضوا من خلال الغرف المغلقة، لا على العلن وأمام النّاس. بعد حالة الارتباك هذه، أعلن مساء اليوم الإثنين عن استثناء "المنشآت الصغيرة" من قرار الإغلاق، وفي الغالب يشمل ذلك محلات الملابس والأحذية والأدوات المنزليّة.

يعكس ما حدث ليلة أمس وصباح اليوم- من ضمن أمور كثيرة- حالة الضيق والتذمر التي وصل إليها النّاس في ظلّ الضائقة الاقتصاديّة التي نتجت عن سياسات الإغلاق كخيار وحيد، دون أن تكون هناك سياسات اقتصاديّة حقيقية وداعمة.

على عكس الموجة الأولى، التي بُثّ خلالها الرعب في نفوس الناس، وسوّقت إجراءات السّلطة كـ"فعالة" و"ناجحة"، والتزام النّاس التام بها، لم يعد كثيرون مستعدين اليوم لالتزام بيوتهم في ظلّ تراكم ديونهم على الناس أو على البنوك. كما يسود الشعور أنّ قرار الإغلاق لا يأخذ بعين الاعتبار أي توصيات أو مشورات تقول الحكومة إنها تعقدها وتسمع إليها قبل الخروج بقراراتها. هذا عدا عن تشكيك البعض بإمكانية الوصول إلى "حلّ" لانتشار الفيروس عن طريق تكرار قرارات الإغلاق بوصفها حلّاً وحيداً.

ماذا تعلّمت السّلطة من "الموجة الأولى"؟

بالعودة إلى السؤال الأساسي في هذه الأزمة، وهو سؤال الاستعداد الصحيّ والطبيّ، بدا أنّ السّلطة الفلسطينيّة تفاجئت تماماً بالموجة الثانية من الفيروس، وذلك رغم التحذيرات والتصريحات التي صدرت منها هي بالذات عن احتمالية عودته للانتشار. ومع أن "الموجة الأولى" كانت أقلّ انتشاراً وكان يُمكن من خلالها مراكمة الخبرة، ووضع الخطط والاستعداد لما هو أشد، إلا أن ما نشهده اليوم في التعامل مع الفيروس يؤكد عدم وجود استعدادات جديّة وشاملة للمواجهة والوقاية. 

اقرأ/ي أيضاً: "ما المفزع أكثر من كورونا؟"

في المرة الأولى، قيل إنّ الإغلاق مهم لأجل تسطيح دالّة المنحنى، وتوزيع الإصابات على مدار الأشهر، وضمان جاهزية المستشفيات ومختلف المنشآت الصحيّة، فهل تحقق ذلك فعلاً؟ ما إن عادت أرقام الإصابات للصعود في منتصف يونيو/حزيران حتى بدأت تظهر يوماً بعد يوم أوجه التقصير الحكوميّ صحيّاً ومجتمعيّاً، ويتضح أكثر غياب الخطط. 

في 19 يونيو/ حزيران الماضي، ومع تسجيل ما يقارب مئتي إصابة في محافظة الخليل، قالت وزيرة الصحة مي كيلة، إنّهم يواجهون صعوبة بالغة في إيجاد مراكز للحجر الصحيّ. قبل هذا التصريح بأيام قليلة كانت هناك زيارة لوفد طبيّ صينيّ للضفة الغربيّة، وقالت وزيرة الصحّة في ختامها أنّ الفريق "أشاد بإجراءات الوزارة والتزامها بإجراءات تصاعديّة أفضت إلى السيطرة على تفشي المرض". هذا الكلام جاء قبل أيام قليلة من بدء التفشي في الخليل، ولكن يبدو أنّه كان مجرد "تصريحات". 

ومع ازياد الإصابات في الخليل، بدا واضحاً أنّه لم تكن هناك أي خطّة مسبقة واضحة المعالم لتوزيع المستشفيات وتجهيزها تقسيمها بين تلك التي تستقبل مرضى كورونا، وتلك التي تستقبل المرضى الآخرين. وعندما وقعت الإصابات في مخيم الجلزون شمال البيرة، استغرقت وزارة الصحّة أسبوعاً كاملاً لتحضير مكان للحجر الصحيّ، خلاله، ارتفعت الإصابات من معدودة إلى أكثر من 100 إصابة. كما أن إصابة عدد كبيرمن الطواقم الطبيّة، ورغم كونه متوقعاً في أي مكان، إلا أن يُلقي الضوء على تراخٍ في إجراءات استقبال المرضى في المستشفيات، وعدم أخذ الاحتياطات اللازمة. هذا عدا عن سلسلة طويلة من التأخر في فحص المخالطين، وإخبار المصابين، أو نقلهم في سيارات الإسعاف عند تدهور حالتهم.

الإغلاق كخيار وحيد..

قبل عيد الفطر بأيام، بدا التذمر من إجراءات الإغلاق واضحاً عند الناس، خصوصاً مع التعويل على موسم الأعياد لتحريك السوق وإنعاشه. إلا أنّ السّلطة قررت في حينه إغلاق الضفة من آخر يومين في مضان وحتى انتهاء العيد، مع منع صلاة العيد. خرج الناس للشوارع في عدة أماكن ورفضوا الالتزام (خاصّة مع انخفاض أعداد الإصابات)، فاضطرت السّلطة الرضوخ، ولحقت الناس في قرارهم. 

بعد أسبوع من ذلك، أعلنت السّلطة "العودة للحياة الطبيعية"، وأصدرت وزارة الصحة بروتوكولات وتعليمات حول إجراءات الوقاية والسّلامة العامة  لمختلف القطاعات. في وزارة الأوقاف مثلاً، اشترط أن يُحضر كلّ مصلٍّ معه سجادة الصلاة، وأن يرتدي الكمامة، وأن يمتنع عن المصافحة. في المواصلات العامة، وُضِعت قيود على عدد الركّاب في كلّ مركبة، وفي الوزارات وُضِعت شروط حول دوام الموظفين، وتعليمات فيما يخص دوام الأطفال في الحضانات، وغيرها.

اكتفت الوزارة بنشر هذه البروتوكولات على صفحاتها على "فيسبوك"، دون أن تُلاحَظ أي متابعة حكوميّة أو بلديّة محليّة حريصة على نشرها وضمان تطبيقها، سواء على المستوى الرسميّ، أوالشعبيّ. كما لوحظ انخفاض واضح في حملات التوعية والتثقيف. 

اقرأ/ي أيضاً: "هل منع التجول هو الحلّ لمواجهة كورونا؟"

وهكذا، وجدت السّلطة نفسها في وضع تتضاعف فيه الإصابات يوماً بعد يوم. وماذا كان "الحلّ" الأول؟ الإغلاق. عادت هذه الإغلاقات في 20 يونيو/ حزيران، بإعلان إغلاق محافظة الخليل بشكل كامل ومنع الخروج منها أو الدخول إليها، وذلك بعد وصول مجمل الإصابات فيها في ذلك اليوم 258 إصابة، وإغلاق مدينة نابلس لمدة 48 ساعة من أجل حصر الإصابات.

ثم تبعها في الثالث من تموز/ يوليو الجاري الإعلان عن إغلاق شامل لكل مدن الضفة الغربية لمدة 5 أيام، ويشمل إغلاق الأسواق، ومنع التنقل، والسماح فقط بعمل المخابز والبقالات والصيدليات. ثم جُدّد لمرة أخرى لمدة 5 أيام، وها هو يُجدد مرة أخرى لأسبوعين.

تلجأ السّلطة الفلسطينيّة إلى الإغلاق باعتباره الأداة الوحيدة والأولى في يديها، دون أن تُخبرنا ما هي بالضبط خططها في الوقاية، أو على مستوى الجهوزيّة الطبيّة، أو على مستوى معاش النّاس وصمودهم. وفي مقابل الإغلاق كأول إجراء تبادر إليه السّلطة، تعلو فيه أصوات أطباء وخبراء من متخصصي الأمراض السّارية والمعدية، والذين يؤكدون أنّ الإغلاق "مخدر" لا أكثر، وأنّه لن ينجح في وقف الفيروس. الطبيب ربيع عدوان، والذي استقال من اللجنة الوبائية لأنّ "القرارات لا تصدر منها"، وتوصياتها لا تؤخذ بعين الاعتبار، قال إن الحلّ الأفضل والمتاح للقضاء على الفيروس هو نشر التثقيف الصحيّ، وتفعيل أدوات حقيقية في تقليل التجمعات، ووضع بروتوكولات فعالة وتطبيقها في ذلك، فيما يرى أنّ الإغلاق هو تأجيلٌ لانتشار المرض، لا وقف له. 

إذا كان الإغلاق هو "الحلّ السحريّ"، الذي تلجأ إليه السّلطة، فإلى متى يستمر؟ وإلى أي مدى يمكن أن يتحمل الناس ذلك؟ وإن عاد "الكورونا" بعد هذه الموجة، هل سيعود الإغلاق؟ في مطلع مارس/ آذار، وبعد إعلان 7 إصابات فقط، سارعت السّلطة إلى خيار الإغلاق الشامل، فاستنفذت من أول الأزمة خيار الإغلاق، ولم يعد استمراره اليوم ممكناً بعد استنزاف الناس.

وفي السياق السياسي، يُعلن عن الإغلاق، بينما تعرف السّلطة الفلسطينيّة، ويعرف اشتية نفسه (كما صرح) أنّها لن تكون قادرة على تطبيقه إلا في ما يقارب 18% من أراضي الضفة الغربيّة (مناطق أ)، بينما لا تستطيع أجهزتها الأمنيّة الوصول إلى مناطق ج، أو بعضاً من مناطق ب. فلماذا يُعلن إذاً؟ وهل يُشكّل إعلان الإغلاق غطاءً لعجزها عن أي إجراءات وقائية صحيّة جادّة؟

أصابع الاتهام دائماً جاهزة

في ظلّ هذا كلّه، تستمر السّلطة الفلسطينيّة في البحث عن "كبش الفداء"، أو عن "الخاصرة الرخوة"، التي تُلقي عليها مسؤولية انتشار الفيروس، وتقوم بتذنيبها في خطابها الإعلاميّ، وتصريحات مسؤوليها. وإن كان "التذنيب" في الموجة الأولى قد نال العمال الفلسطينيّين في الأراضي المحتلة عام 1948، فإنّه هذه المرة كان متعدد الأقطاب. 

في البداية، وُجِهت "أصابع الاتهام" إلى الفلسطينيّين أهالي الداخل ممن يأتون للتسوق في أسواق الضفّة الغربيّة، والذين وجّه لهم رئيس الوزراء وغيره من المسؤولين "رجاءً" بعدم القدوم إلى الضفّة. ولاحقاً، تحدث علي عبد ربه، مدير الطب الوقائي في وزارة الصحّة، عن أولئك الذين لا يستحقون "صفة المواطنين"، مروراً بلوم أصحاب الأعراس وبيوت العزاء، أو "الكرم الخليليّ" كما في تصريحات لوزيرة الصحّة - وصولاً إلى خطاب رئيس الوزراء محمد اشتية في السادس من يوليو/ تموز الجاري، والذي كرر فيه جزءاً مما قاله من قبله من مسؤولين، وأضاف إليه التهديد باستخدام القوّة "بما يُتيحه القانون".

وبالتزامن مع حملة التقريع وعدم الرضى عن "المواطنين"، لم تنجح السّلطة طوال فترة الأزمة لا في إعالة الفقراء، ولا في توفير تعويضات لأولئك الذين انضموا حديثاً إلى دائرة الفقر والبطالة. بل إنّها حتى فشلت في كثير من الأحيان في إخبار المُصابين بإصابتهم، ولم يعرفوا عنها إلا من خلال تسريب الكشوفات عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فشلت تجربة صندوق وقفة عزّ، واليوم يُترك الناس وحدهم يصارعون البقاء، ويحاولون سدّ احتياجاتهم، ويكتفي رئيس الوزراء بتهديدهم بالقوة في حال عدم الالتزام بالإجراءات.

ومن المفيد الإشارة هنا أن موجة اتهام الناس بالإهمال وتحميلهم المسؤولية تتجاهل تماماً أن ما أدّى إلى حالة من اللامبالاة عند شرائح واسعة من الناس هو في حقيقة الأمر ضيق أفق الحلول الاقتصاديّة والصحية التي قدّمتها السّلطة لهم، والتي كانت تستند على إنقاذ القطاع الخاصّ والبنوك، وتجاهل الفئات الأكثر ضعفاً. ومن ناحية ثانية، فإن عدم جديّة السّلطة نفسها في اتباع الإجراءات وتنفيذها - تدعو لوقف التجمعات وتُقيم مهرجاناً حاشداً في أريحا- يدفع النّاس إلى التشكيك بجديّة تعليمات السّلامة.