11 مايو 2021

كيف اختنق الفلسطينيون جميعاً في نفق السُّلطة؟!

كيف اختنق الفلسطينيون جميعاً في نفق السُّلطة؟!

صدق نبوءة قديمة..

"إنّ إقامة دولة فلسطينية في الضفّة الغربيّة وغزّة، قبل إنجاز مشروع التحرير، وبالاستناد إلى التسوية السلميّة، تعني السقوط في فلك الوصاية الإسرائيلية والإمبريالية، وخلق كيان هزيل صوريّ مجرّد من كلّ مقوّمات الدولة المستقلة، وتحويل هذه الدويلة إلى كيان يصفّي القضية، ويعترف بـ "إسرائيل"، ويكون لها بمثابة جسر، أو ممرّ، اقتصاديّ وسياسيّ وثقافيّ إلى العالم العربي، لتحقق بذلك ما لم تحقّقه بالحروب والتوسع العسكريّ، وليكون هذا الكيان الفلسطيني وسيلةً لتصفية الثورة المسلحة، والقيام بدور العازل عسكريًّا لمصلحة الكيان الصهيوني.

إنّ هذه الدولة ستكون مجرّدةً من سلاحها، ملتزمةً بإنهاء العداء للاحتلال، ومنع المقاومة المسلحة، مفتقرةً إلى المقوّمات الاقتصاديّة والعسكريّة والسياسيّة، مما سيجعلها رهينةَ المساعدات العربيّة والأجنبيّة لصرف رواتب موظفيها، لتكون كياناً هزيلاً تابعاً، ومحكوماً بالنفوذ الإسرائيلي والسيطرة الأمريكيّة".

هذا كلام للأستاذ منير شفيق، كتبه عام 1972، تحت عنوان "لماذا يرفض الفلسطينيّون مشروعَ الدولة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة؟"، مع قدر من التصرّف والاختصار منّي. واللافت الآن أنّ ما تنبأ به منير شفيق، قد تحقّق أضعافُه للاحتلال الإسرائيلي دون أن يكون للفلسطينيين دولة، وإنّما بفضل سلطة حكمٍ ذاتيّ محدودة الصّلاحيات للغاية، كفّت عن التبشير بالتحوّل إلى دولة.

أمّا الدولة المقترحة، كما في صفقة ترمب، فليس لها من مفهوم الدولة إلا الاسم، مع بقاء المضمون على ما هو عليه الآن من حيث الصلاحيات، ومع استفادة استعماريّة مُضاعفة عمّا هو عليه الآن، بإنهاء الصّراع والإجهاز على الوجود السياسيّ للفلسطينيين وتحويلهم إلى كائناتٍ خادمةٍ للأمن الإسرائيليّ. ومع رحيل ترمب فإنّ الوقائع الاستعمارية ما عادت تسمح بمجرّد توهّم إمكان الدولة في الضفّة الغربية وغزّة. وبالرغم من هذه الحقائق الثقيلة الجاثمة على صدر الإمكان الفلسطينيّ، فإنّ مشروع السُّلطة في حيّز الاحتلال تحوّل إلى مجال العمل الوحيد للفلسطينيين جميعاً، بما في ذلك هؤلاء الذين رفضوا هذا المشروع جذريّاً عند توقيع اتفاقية أوسلو، ثم عند دخول السّلطة الفلسطينيّة غزّة والضفّة الغربيّة، وقاطعوا انتخاباتها في العام 1996.

رفضت العديد من فصائل منظمة التّحرير، وبطبيعة الحال "حماس" والجهاد الإسلاميّ، ذلك السياق الذي أفرز السُّلطة الفلسطينيّة، وتنبأت بما تنبأ به منير شفيق، وإن كانت المآلات أسوأ، كما هو حاصل الآن، فقد أفضت السُّلطة واشتراطها سبيلاً وحيداً للفعل الفلسطينيّ، إلى تمزيق الفلسطينيّين، وسمّمت إمكانَ الكفاح بأدواته المتعددة، فوفّر وجودها قطعاً مع أدوات المقاومة الشّعبيّة التي احترفها الفلسطينيون في الانتفاضة الشعبيّة الكبرى عام 1987، وأفرغ الكثير من تلك الأدوات من معناها. ومع إعادة انتشار قوات الاحتلال، حافظ الاحتلال على سيطرته، مع تخليص وجوده الفيزيائيّ من الاحتكاك بالفلسطينيين، وإحلال حاجزٍ فلسطينيٍّ مكانه. كما وفّر وجود السّلطة الذريعة لردود الأفعال الإسرائيليّة الباطشة على الأعمال المقاومة التي تنطلق من أراضيها، باعتبارها أراضٍ تخضعُ لسلطةٍ فلسطينيّةٍ مُنفصلة عن الاحتلال، وهو الأمر الذي كابده الفلسطينيون في انتفاضة الأقصى، وفي سلسلة الحروب والمواجهات في قطاع غزّة.

الوقوع في الفخّ المكشوف

بيد أنّ تلك الفصائل التي قاطع بعضُها انتخابات العام 1996، رفضاً للسياق، وخشيةً من المآلات، عادت وشاركت في انتخابات العام 2006، تأسيساً على انتفاضة الأقصى ومفاعيلها، فقد تعاظمت المقاومة في غزّة، وكانت حركة "فتح" وقطاعات من السُّلطة ما تزال قادرةً على الاتصال بإرثها الكفاحيّ، وهو ما انعكس مقاومةً فعليّةً في الميدان. ومن ثمّ وبما أنّ السلطة باتت أمراً واقعاً، يتعامل معه الجميع وكأنه مرجعيّة الأمر الواقع السياسيّة والاقتصاديّة والقانونيّة، بما في ذلك الرافضون للمشاركة في انتخاباتها، فإنّه لا ينبغي، بالنسبة لهم، السماح للسلطة بالعودة إلى ما قبل انتفاضة الأقصى، فإذا كانت انتخابات العام 1996 قد مثّلت الإطلاق الثاني الفلسطينيّ الذاتي، للسلطة بعد توقيع اتفاقية أوسلو، فإنّ فصائل أساسية، وفي طليعتها "حماس"، اعتقدت أنّ ثمّةَ إمكانيةً للتعديل في وظيفة السُّلطة، بما يضعها على مسارٍ آخر غير مسار أوسلو. ولم تكن المسوّغات للمشاركة في انتخابات 2006 لتخلو من القول إن "أوسلو" قد داستها جنازير الدبابات الإسرائيلية، في عبارة تكرّرت حتّى في المرّة الأخيرة لتسويغ العودة مجدداً إلى المسار نفسه!

لقد فشلت تجربةُ إخراج السُّلطة عن سياقها الأوسلوي، لجملة عوامل، أهمّها أنّ هذا السياق لا يمكن الخروج منه بالانتخابات، ولو بالفوز بالأغلبية المطلقة، الدالّة على الرغبة الشعبيّة الجارفة في التعديل على هذه السلطة ولو في سياقها الإداري الذاتيّ المحض، المتسم بالفساد، والعاجز عن تعزيز صمود الفلسطينيّين في أرضهم.

اقرؤوا المزيد: "كيف ابتلعت حركة "فتح" منظمة التحرير؟".

إنّ السُّلطة التي اشتُرِطَ وجودُها بوظيفتها الأمنيّة، واشتُرِطَ استمرارُها بنفس الوظيفيّة، يمكن إخراجها عن مسارها المحكوم بهذه الوظيفة، فقط في إطار إرادة وطنيّة جامعة. وهذا ما نقص تجربةَ العام 2006 حينما مثّلت حركة "فتح"، العاملَ الذاتي الأهمّ في إسقاط التجربة، وحصارها، وتحويلها إلى أزمة ثم اقتتال داخليّ، وذلك لرفض فتح (العملي) لنتيجة الانتخابات، فلا هي تحوّلت إلى حركة ديمقراطية، ولا هي في وارد التخلّص من وسواس التمثيل واحتكار القرار الفلسطيني، ولا هي في وارد التخلّي عن السلطة التي تحوّلت إلى الشبكة الناظمة للوجود الفتحاوي، والضامنة لاستمراره. هذا فضلاً عن تشكّل نخبةٍ حاكمةٍ مستفيدةٍ من وجود السُّلطة على حالها، ولو بلا أفق سياسيّ، وهي نخبةٌ متصلةٌ ببنيةٍ عميقةٍ لا يُمكن تغييرها بانتخابات تجري في سياقٍ غير ديمقراطي، ومحكومٍ بقدرات الاحتلال، وأموال المانحين، ومحاطة بأنظمة عربية تُكنّ العداء لمحاولة تخليص السُّلطة من ذلك الدور الوظيفي.

يُضاف إلى ذلك رئاسة حركة "فتح" للسلطة، والتي كانت قد فازت بها للتوّ قبل فوز "حماس" بالتشريعيّ، الأمر الذي وضع قيادة السُّلطة في تناقضٍ جوهريٍّ بين برنامجين يتمعتان بالشرعية الانتخابيّة لقيادة السُّلطة. وهو ما لا يمكن حلّه، بالنظر إلى ما سبق من عوامل، إلا بتقديم "حماس" تنازلاتٍ سياسيّة، وهو ما ظلّت قيادة "فتح" تسعى إليه، وتستجيب له "حماس" جزئيّاً لحلّ الأزمة مع "فتح"، أو لتحصيل القبول المشروط لدمجها في النظام السياسيّ، كما في تبنيها لفكرة إقامة الدولة على الأراضي المحتلة عام 1967، وهو ما عبّر عن نفسه فيما يعرف بوثيقة الوفاق الوطني، وفي وثيقة "حماس" السياسيّة الجديدة، وفيما سوى ذلك من بيانات وتفاهمات وتصريحات. وقد بات هذا التنازل يُسمى في الأدبيات السياسية الفلسطينية بـ "برنامج الحدّ الأدنى المشترك"، وأمّا وأنّ هذا البرنامج لم يكن كافياً لحلّ التناقض بين "قيادتي السلطة" فإنّ الاقتتال أو الانقسام المتنفس الوحيد لهذا التناقض، وهو ما حصل بالفعل!

أوسلو.. الوظيفة السياسيّة والهندسة الاجتماعيّة

إنّ القول بأن اتفاقية أوسلو قد انتهت، هو قولٌ شديدُ التضليل، أو شديدُ القصور، لنظرِهِ من زاوية تنصّل الاحتلال من التزاماتِهِ المُترتبة عليها، أو من الزاوية القانونيّة، دون الاعتبار بالوقائع على الأرض، أو دون النظر إلى أوسلو بوصفها مساراً وعمليةً مفتوحة، أنتجت واقعاً محكوماً بالكامل للهيمنة الإسرائيليّة، ولإرادة المانح الدوليّ، على النحو الذي يجعل من تصوّر الجمع بين المقاومة واستمرار هذا الواقع ضرباً من الوهم المنفصل عن الواقع. وبالإضافة إلى حصار تجربة عام 2006، كانت تجربة الامتناع عن استلام أموال المقاصة أخيراً، لتؤكد ما هو معلوم بالضرورة عن استحالة التعديل على وظيفة السُّلطة من الداخل.

لم تكن مفاعيلُ اتفاقية أوسلو، وما انبثقَ عنها، مقصورةً على الهيمنتين الإسرائيليّة والدوليّة، بل في عمليات الهندسة الاجتماعيّة، التي سعت إلى تحييد الجماهير، وصرفها عن واجبها التاريخيّ في مقاومة الاحتلال، وإعادة موضعتها داخل نمط اقتصاديّ وثقافيّ واجتماعيّ، مختلف بالكامل عن مسارها التاريخيّ وعن واجبها الكفاحيّ، وعلى النحو الذي استغرق الواقعَ الفلسطيني، خاصّةً في الضفّة من بعد الانقسام، وبترسيخٍ بعيد الغور، وشديد العمق، داخل المجتمع الفلسطيني، وبالاستناد إلى ثقافةٍ اقتصاديّةٍ جديدةٍ ذات سماتٍ استهلاكيّة صارخة، وتحوير في الأولويات الفلسطينيّة على مستوى الدور والثقافة والاجتماع. وقد تضافر عامل الوظيفة الأمنية، مع عامل العمالة داخل المستوطنات والأراضي المحتلة عام 1948، مع عامل "السّلام الاقتصاديّ"، مع عامل شعار "بناء المؤسسات"، في محاولة حثيثة لإنتاج "الفلسطيني الجديد"، وهندسة المجتمع بالكامل، في استجابة مطلقة للنفوذ الدولي والشرط الإسرائيلي من بعد الانقسام، وفي إدراك من النخبة الحاكمة لضرورات المرحلة والحفاظ على بيضة النفوذ والمال.

اقرؤوا المزيد: "هناك انقسام ولكن حول ماذا؟"

لقد كان مركب الوظيفة الشارطة لوجود السلطة، وعمق العامل الإسرائيلي، واستحالة التحرّر من هيمنة المؤسس والراعي، وإدراك نخبة أوسلو لطبيعة التناقض مع برنامج المقاومة، ووعيها بإمكان استثمار سياسات كي الوعي الإسرائيلية أثناء انتفاضة الأقصى، دافعاً للاشتغال المبكّر لترسيخ تلك الوظيفة، بما ينفي عن السلطة أيّ برنامج مناقض، أو نخبة جديدة منافسة. وقد تجلّى ذلك في تنظيم عمليات الفلتان الأمنيّ المُبَرْمَج في ذيول انتفاضة الأقصى، وربطها بالمقاومة، لتسهيل محاربة سلاح المقاومة، وهو الأمر الذي أخذ مداه بعد الانقسام، مما كان يحتم على الدافعين نحو إدخال المقاومة في السُّلطة إدراك هذا التدبير المبكر لإعادة صياغة مسار أوسلو بما يُعمقه داخل المجتمع. وأمّا التصوّر بأن سلاح المقاومة في غزّة كان كفيلاً بحماية مسار التغيير، فهو ضرب آخر من الوهم المفارق للرؤية الكلّية للصراع وساحاته.

المُمْكِن السهل مكان استراتيجيا التحرير

إنّ سيادةَ منطقِ التفكير العمليّ ذي الطابع التكتيكيّ على الفعالية السياسيّة الفلسطينيّة، بفضل الإدارة الفتحاويّة التاريخية، بنمطها الفهلويّ وبِبُنيتها الزبائنيّة، دفعَ الفعالياتِ السياسيّة، بما في ذلك قوى منظمة التحرير المعارضة لمسار التسوية، وحركة "حماس"، للتفكير في المُمكن السّهل أكثر من تفكيرها بالواجب الصّعب. نتيجةً لذلك، انجذب الجميعُ لمسار السُّلطة، المحكومة من البرنامج الوظيفيّ المؤسِّس النقيض، وبات إثباتُ الحضور داخل السّلطة ومؤسساتها الحافز الأكثر ظهوراً في مجال الفكر والممارسة، وذلك باعتبار السلطة أمراً واقعاً لا بدّ من التعامل معه.

لم تكن هذه مشكلةُ "حماس" وحدها، فقوى اليسار ظلّت صوتاً هامشيّاً في منظمة التحرير المؤسِّسَة للسلطة والمستخدَمة لشرعنة نخبة السُّلطة، كما انخرطت قطاعاتٌ منها في مؤسسات المجتمع المدنيّ بشرط المُمَوّل الغربيّ مُؤسِّس السُّلطة، وانفصلت فعليّاً عن خطابها التاريخيّ الذي يُمكن به خلقُ مساراتٍ جديدة لتحريك الشارع، والالتحام بالناس وهمومهم، لصالح خطابات منفصلة عن ثقافة المجتمع وعن أولوياته.

ولم تلحظ هذه القوى مسؤوليتها التاريخيّة، لا هي ولا حركة الجهاد الإسلاميّ، تجاه حقيقة الانقسام البرامجي، حتّى لو أخذ شكلَ الصِّراع على السُّلطة، وشكل الانقسام المؤسسي. ولم تكن قاعدةُ المقاومة التي تأسست في غزّة، بفضل هذا الانقسام، بكافية لخلق جبهة وطنيّة تتعالى على الصغائر الحزبيّة، وعلى المصالح الضيقة والأوهام الأيديولوجية. وظلّ التعاطي مع الانقسام وكأنه انقسامٌ سلطويّ يستوي فيه الفريقان، ويلقي بظلال الاستقطاب الثنائيّ على الفصائل الأخرى، والتي ظلّت عاجزةً دون التقاط الفرصة بإدراك جذر الانقسام البرامجيّ، وما تَبِعه من حروب مدمرة على غزّة، في شق مسارٍ أصيلٍ خارج السُّلطة التي يختنق فيها الجميع حتى الذين يتوهمون أنهم خارجها.

اقرؤوا المزيد: "الانتخابات وقد تأجلت.. كيف نخرج من نفق السّلطة المظلم؟".

وفي المقابل، وبغض النظر عن الأداء السُّلطوي لـ"حماس" في غزّة المشوّش بالانقسام والحصار والشعور بالمؤامرة والمظلومية، فإنه لا يُعرف إن كانت الحركة، قد فكّرت بالفعل، أو إلى أيّ مدى قد ذهبت، لدمج معارضي مسار التسوية، دعاة المقاومة، والمدركين للأثر الفادح للسلطة ومسارها على شلّ النضال الفلسطيني وخنقه، في جبهةٍ وطنيّةٍ، أو شق مسار أصيل خارج هذه السّلطة، إلا إذا كانت "حماس"، قد انتهت إلى تكييف تفكيرها مع وجود السُّلطة، بما يصعّب مهمة التفكير بالعمل من خارجها بأدوات لا تنتظر الالتحاق الفتحاويّ. وقد تبين في السعي للشراكة مع "فتح" في الانتخابات التشريعيّة التي ألغاها أخيراً الرئيس عبّاس، أنّ الحركة أكثر تكيّفاً مع واقع السُّلطة، من امتلاكها الخيال الكافي للتفكير من خارجها. بيد أنّ هذا التكيّف مع واقع السُّلطة، لم يُلاحِظ بُنيتَهَا ووظيفتَها ونخبتها الحاكمة وتحولاتها من بعد انتهاء انتفاضة الأقصى والانقسام، الأمر الذي لا ينمّ عن إدراكٍ كافٍ لهذا الواقع.

السُّلطة إذ تحجب الرؤية

ذلك فضلاً عن عدم إدراك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الفلسطينيّ في الضفّة، بفعل سياسات الهندسة والتدجين والإغراق في مفاعيل أوسلو، وكثيراً ما كشفت السجالاتُ على مواقع التواصل الاجتماعي أثناء الحروب على غزّة، غيابَ ذلك الإدراك. إذ يتطلب الإدراكُ التكاملَ التنظيمي، وصبّ القدرات، لصالح استنقاذ ساحة الصراع الرئيسة، ووضع البرامج لمواجهة عمليات الهندسة الاجتماعيّة، والحاصل أنّه وبدلاً من تقييم تجربة العام 2006 وما تلاها، ظلّ التفكير يراوح المسار المرسوم من الخصم السياسيّ المؤسِّس لنفق السلطة، لانعدام التقييم الحرّ والمسؤول داخليّاً، ووطنيّاً، وللظلال الثقيلة التي ألقاها الاستقطاب الثنائي على الحالة الوطنية برمتها، ولتجريف العمل السياسي والحركة الوطنية في الضفّة الغربية، ولغياب المنابر النقدية داخل التنظيمات الفلسطينية، واقتصار النقد، على جزئيات مسلكية، لا على المقاربات الكبرى لقضايا الحالة الوطنية، وهو الأمر الذي ينمّ، على تغليب التفصيلي، على الكلي، والإدارة الجزئية على المشروع التحرري.

ليس أدلّ على ذلك، من تفاهم "حماس" على قائمة مشتركة مع "فتح"، الخصم السياسيّ، والنقيض البرامجي، حتّى بالرغم من استئناف قيادة السُّلطة للتنسيق الأمنيّ مع الاحتلال.  إنّ لغة التكتيك، أسهل اللغات، وأكثرها توفيراً للذرائع والأفكار التي تبدو "عمليّة"، بما في ذلك تسويغ فكرة القائمة المشتركة، والتي يمكن تزيينُها كذلك بمنطق الحرص على الحضور في النظام السياسيّ. إلا أنّ السؤال الأكبر والأهم هو السؤال عن الغطاء الذي توفّره فكرةٌ كهذه لمشروع التسوية، وخنق النضال، وشلّ الكفاح، وإعلاء قيمة العجز، وتوظيف المجموع الفلسطينيّ خلف أسوأ الخيارات الفلسطينيّة طوال تاريخ الفلسطينيين، هذا فضلاً عن جزئيات كثيرةٍ كبيرةٍ وصغيرة انطمست في غمرة الحماسة لمقترح كهذا.

لقد عظّمت قيادة "فتح"، من المنجزات الشّكليّة التي نجمت عن تأسيس السُّلطة، كرفع العلم ووجود قوات فلسطينيّة، فضلاً عن المناطق (أ) التي استثمرت في انتفاضة الأقصى، والانسحاب الجزئيّ من قطاع غزّة، ويمكنها أن تقول إنّ ذلك وفّر الخطوة الأولى نحو ملحمة انتفاضة الأقصى وتأسيس قاعدة المقاومة في غزّة. ويمكن لـ"حماس"، وعلى نحو أوضح أن تربط قاعدةَ المقاومة الآن في غزّة بقرار الدخول في الانتخابات العام 2006، كما أن الذرائع القبلية لذلك الدخول أوضح وأكثر إقناعاً مما قيل في الانتخابات الأخيرة، لكن ماذا عن النتائج الإستراتيجية الكارثية، والتي تتحمل "فتح" المسؤولية الأولى عنها، وماذا عن تحوّل سلاح المقاومة من سلاح استنزاف وإشغال إلى سلاح دفاع، محكوم بمعادلات السلطة والسياسة وإدارة شؤون الناس وعلاقات الإقليم، على النحو الذي قد يحوّله عن وظيفته الأساسية إلى وظيفة سياسية جزئية لرفع الحصار، الناجم أساساً عن قرار الدخول في السُّلطة!

السُّلطة إذ تبتلع العقل الوطني

لقد كشفت السّجالاتُ التي رافقت التعقيب على قرار الذهاب نحو انتخابات تشريعيّة جديدة تسبق إعادة بناء منظمة التحرير، وبخلاف الواجب والمنطق والاتفاقات الوطنيّة السابقة، بل وبخلاف القانون الأساس للسلطة الذي يشترط تزامن انتخابات التشريعي والرئاسة.. كشفت عن ابتلاع السُّلطة للعقل الوطنيّ الفلسطينيّ، بعدما ابتلعتْ من قَبل منظمةَ التحرير، وعطّلَتْ دورَ اللاجئين خارج الأرض المحتلة، وتركت فلسطينيي الـ 1948، بل حتى القدس، لمصيرهم، ليقلعوا شوكهم بأيديهم.

الآن تبتلع السُّلطة معارضيها، والمقاومين الذين يشترط وجودُها بالقطع معهم وملاحقتهم وتحطيمهم، فبات معارضوها يتحدثون عنها، لا بما هي عليه من أمرٍ واقعٍ ينبغي التعامل معه، بل بما هي من وضعٍ "طبيعي". ومن هنا ينبثق سؤال العجز في صيغة السؤال عن البديل، وكأنّ السلطة واقع أصيل، ومن ثمّ لم نكن نجد، على نحو واضح، طرحاً جدّيّاً يتناول العودة لشقّ المسارات الأصيلة من خارج السُّلطة، وأخذنا نسمع تنظيراً عجيباً للديمقراطية بالرغم من أنّ الانتخابات تجري في سياق غير ديمقراطيّ، وبالتناقض مع فكرة القائمة المشتركة غير التنافسيّة، مما ينمّ عن دفعٍ للعودة إلى حضن السُّلطة باستخدام كلّ أدوات التنظير مهما تناقضت.

حتى عند بعض الذين عارضوا الذهاب إلى هذه الانتخابات من بعض كوادر "حماس" وعناصرها، بدا الدافع الأساس، هو الإحساس بالظرف القاهر للحركة في الضفّة، والاعتبار بالتجربة الطويلة المريرة من بعد انتخابات 2006، وعدم الثقة بالخصم السياسيّ ولا في نواياه، والإدراك القريب لبنية السُّلطة ونخبتها، مما لا يبشّر بإمكان التغيير بالانتخابات، بيد أنّ هذا كلّه على أهميته، وما يكشفه من وعي متقدم عند هذا الوسط الناقد، يدور في فلك السُّلطة نفسه، فلك التفاصيل والظروف والأعراض، لا فلك المبدأ والموقف الجذري وإعادة تقييم الخيار نفسه من أساسه، ومن ثم فقد كان النقد الجوهري يبدو عدميّاً وتنظيراً متعاليّاً، بالرغم من أنّه المعبّر عن الموقف الأصيل لحركات المقاومة، صاحبة الواجب في شقّ المسارات الأكثر تحرّراً من قيود السلطة.

ملخّص ملامح الاختناق

لم يكن الحديثُ عن تجديد شرعيات السُّلطة، دون الوقوف عند وظيفتها، أو معالجة الجذر البرنامجيّ في مشكلتها، بأكثر من الحديث عن تجديد شرعية مسارها السياسيّ ومسلكيتها الوظيفيّة، ومن هنا كانت إرادة قيادتها بتوالي الانتخابات لا بتزامنها، لا بهدف المناورة فحسب، وقياس النتائج بعد كلّ مرحلة والبناء عليها، ولكن في الأساس لأنّها ترفض تغيير وظيفتها، أو خطّ مسار سياسيّ آخر. ومن هنا جعلتْ السُّلطة إعادةَ بناء منظمة التحرير أمراً مرجأ في الظاهر، ومعدوماً في الحقيقة، فالمطالبة بالبدء بمنظمة التحرير التي قال بها البعض، لم تكن فقط لفحص جدّية قيادة "فتح" وصدق نواياها، ولتحقيق ضمانات معقولة مسبقاً، ولكن لأنّ هذا هو السبيل الوحيد لإعادة بناء المؤسسة الفلسطينيّة على مسارٍ تحرّري، بخلاف تجديد شرعيات السّلطة المستجيب لإرادة التكيّف مع المشروع الإسرائيلي.

لقد حوّلت سياساتُ حركة "فتح" القضيةَ الفلسطينيّةَ، من شعارات حرب التحرير الشعبيّة في ستينيات القرن الماضي، إلى قضيةٍ تفاوضيّةٍ غير مكلفة تُديرها نخبةٌ حاكمةٌ مستفيدة، بما يتطلب تحييد الجماهير وصرفها عن واجبها الكفاحيّ، وهو الفخّ الذي اصطاد كلَّ من رأى الحلَّ في بطن نفق السّلطة لا خارجه، فلم يؤدِ الدخولُ في السُّلطة إلا إلى تكريس النمط الأوسلويّ الذي سعى لاستيعاب النّاس داخل ثقافتِه الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وفي حين صار سلاح المقاومة في غزّة منظّماً بالكامل ومحكوماً لضرورة السلطة هناك، فإنّ الفصائل صارت إزاء الضفّة والقدس محرضةً وداعية لا فاعلة ولا حاشدة ولا منظمة، وبينما تنخرط نخبةٌ فصائليّة في الحوار مع "فتح" لإعادة ترتيب السلطة، تقبع القواعد الشعبية بعيداً عن الفعل واتخاذ القرار ومراجعة السياسات، وتطالَب بالاصطفاف خلف القيادة.