5 مايو 2021

كيف ابتلعت حركةُ "فتح" منظّمةَ التحرير الفلسطينيّة؟

كيف ابتلعت حركةُ "فتح" منظّمةَ التحرير الفلسطينيّة؟

طفت على السَّطح مؤخراً نقاشاتٌ حول إمكانيّة إصلاح مُنظّمة التحرير، تحديداً مع استعداد حركتي "حماس" والجهاد الإسلاميّ المُشاركة في انتخابات المجلس الوطنيّ، التي كان من المفترض إجراؤها في شهر أغسطس/ آب المقبل (قبل أن تُلغى فجر 30 أبريل الماضي).

تُشكّلُ هذه الخطوة بالنسبة للحركتين بوابةً لدخول المُنظّمة وأملاً بتفعيل دورها المفقود، وهو ما أعاد طرح أسئلةٍ من نوع: هل بالإمكان أصلاً إصلاحُ المُنظّمة بعد ابتلاعها من حركة "فتح" والسّلطة الفلسطينيّة؟ أم أنّ "إكرامَ الميّت دفنُه"؟ وهل مُمارسة السياسة تحت السّقف الذي حدّدته "فتح" بـ"أوسلو"، وهو سقفٌ يسري على المُنظّمة كما يسري على السُّلطة، بُغية التغيير أمرٌ مُجدٍ؟ في سعينا للإجابة عن بعض تلك الأسئلة، نحن بحاجة أن نعرفَ كيف سيطرت "فتح" على المُنظمة؟ وما الأدوات التي استخدمتها لتحقيق ذلك؟

شرعيّة المنظّمة سجّادةٌ حمراءُ للرئيس

احتلّت قضيّةُ تمثيل الشّعب الفلسطينيّ سلّمَ أولويّات مُنظمة التحرير منذ تأسيسها عام 1964. وفي قمة الرباط عام 1974، تمكّنت المنظمة من تثبيت شرعيّتها مع اعتراف الدول العربيّة بها مُمثلاً شرعيّاً ووحيداً للشعب الفلسطينيّ. لاحقاً، ومع حضور السّلطة الفلسطينيّة وأجهزتها القويّ، تراجع دورُ المنظمة وحضورها، فتحوّلت وما تُمثِّله إلى ورقةِ شرعنةٍ تُستدعى وقتَ الحاجة. 

اقرؤوا المزيد: منظّمة التحرير.. رحلة الكفاح إلى التسوية.

كان أول من استدعى هذه الشّرعية الرئيسُ ياسر عرفات. أبرز الأمثلة على ذلك، عقدُ جلسةٍ خاصّة للمجلس الوطنيّ من أجل تمرير تعديلاتٍ على الميثاق الفلسطينيّ عام 1998، والتي تضمّنت التصويتَ على إزالة المواد الداعية لزوال "إسرائيل" والموافقة على استمرار عملية السّلام، من خلال رفع الجمهور أياديهم والوقوف والتصفيق بصورةٍ احتفاليّة، غابت عنها أدنى مظاهر الجديّة التي تناسب ضخامة الحدث وأهمية القرارات المتخذة فيه. 

أمّا محمود عبّاس، فقد ساعدته شرعيّةُ المنظمّة، ومنصِبُهُ كرئيسٍ للجنة التنفيذيّة فيها عام 2004، في تثبيت أركان حكمه ومواجهة خصومه داخل الحركة أو خارجها. مثلاً، استخدم عبّاس تلك "الشرعيّة" كأداةٍ لمواجهة وعزل حركة "حماس"، ففي المراحل الأولى لجولات المصالحة عام 2008، أصرّت حركة "فتح" على أنّ الإشكال ليس بين "فتح" و"حماس"، بل بين فصائل العمل الوطنيّ (منظمة التحرير) و"حماس". كما استخدمت "فتح" شرعيةَ التمثيلِ كفزّاعةٍ لمعارضةِ أيِّ نشاطٍ أو كيان يهدف إلى تجميع الفلسطينيّين خارج إطارها، مثلما جرى مع المؤتمر الشعبيّ لفلسطينيي الخارج الذي تعرّض لهجوم واسع، واتُهِمَ بمحاولة الالتفاف على تمثيليّة المُنظمة وإضعافها.

اقرؤوا المزيد: هناك انقسام، ولكن حول ماذا؟

أما التوظيفُ الأخطر، فكانَ في اللجوء إلى شرعية المنظمة كبديلٍ عن الشرعية الانتخابيّة. في عام 2008، وعند اقتراب انتهاء ولايته من رئاسة السُّلطة الفلسطينيّة، استدعى عبّاس -المُنتخب عام 2005- شرعيّةَ المنظمة من بوابة المجلس المركزيّ1 أنشئ المجلس المركزي عام 1977، وهو عبارة عن هيئة تشريعية ورقابية تشرف على التزام اللجنة التنفيذية بتطبيق قرارات المجلس الوطني بين دورات انعقاده، وتتكون من رئيس وأعضاء اللجنة التنفيذية وممثلين عن التنظيمات والاتحادات الممثلة في المجلس الوطني، ويرأس المجلس المركزي رئيس المجلس الوطني. لينتخبه رئيساً لدولة فلسطين، وذلك تجنباً لتنظيم انتخابات رئاسيّة أو شغور المنصب. لاحقاً، استكمل عبّاس مسارَ ترميم شرعيته بعقد جلسةٍ طارئةٍ للمجلس الوطنيّ، شهدت توافقاً على تشكيلٍ جديدٍ لأعضاء اللجنة التنفيذيّة بعد شغور 6 مقاعد فيها، وهكذا ثبّت عبّاس سيطرته وتحكمه في ثلاث رئاسات: اللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير، ودولة فلسطين، وحركة "فتح".

جلسة المجلس الوطني التي عقدت عام 1998 في غزّة من أجل التصويت على إجراء تعديلات في الميثاق الوطني الفلسطيني، وذلك بحضور الرئيس الأميركي بيل كلنتون

المال سياطٌ على من يفتح فمه

مع تولّيه رئاسة اللجنة التنفيذيّة لمُنظّمة التحرير عام 1969، خلفاً لأحمد الشقيري، حرصَ ياسر عرفات على فرض سيطرته على مالية المنظمة المُتمثّلة بالصندوق القوميّ الفلسطيني، وذلك بوضعه كوادر من "فتح" على رأس مكاتب المنظمة.2رأس عبد المجيد شومان الصندوق القومي خلال فترة الشقيري، فيما تسلّمت حركة "فتح" رئاسة الصندوق بعد تولّي عرفات حتّى عام 1974، إذ توافقت الفصائل حينها على أن يكون رئيس الصندوق من المستقلين. وفي ظلّ هذه السيطرة، حُوّلت مُعظم أموال المنظمة إلى ماليّة "فتح" بدلاً من الصندوق القوميّ. وهي أموالٌ كانت تأتي من مصادر متنوعة، أهمها: مساعدات الدول العربيّة والصديقة،3تضاعفت المساعدات العربية بدءاً من عام 1978، ما مكّن عرفات -وفقاً لبعض التقديرات- من التحرّك سياسياً بأصول مصرفية وصلت في أقل تقدير لها 1,5 مليار دولار: انظر يزيد صايغ، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1949-1993: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص642. والتبرعات التي كانت تجمعها المنظمة من الفلسطينيين حول العالم تحت مسمى "ضريبة التحرير".4ضريبة تراوحت ما بين 5% إلى 3,5%، كانت تُجمع من الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم وتحديداً من العاملين في الخليج العربي، وشكلت لسنوات مورداً أساسياً لمالية المنظمة.

تعرّض الصندوق القومي إلى تهميشٍ وإضعافٍ في دوره الرقابيّ والإداريّ، فوفقاً لخيري أبو الجبين، الذي شغل منصب أمين سرّ مجلس إدارة الصندوق لمدّة 15 عاماً، فإنّ نسبة إشراف الصندوق على ماليّة المُنظمة لم تتعدَ 22%. أما المُتبقّي من ذلك، فـ 20% من الميزانية كانت مُخصَّصةً لمؤسسة أسر الشُّهداء، و15% كانت مُخصّصةً للهلال الأحمر الفلسطيني، وهما مؤسستان لم يكن للصندوق إشراف عليهما. فيما ذهبت النسبة الأكبر من الميزانيّة، وهي 40%، إلى الدائرة العسكريّة التي خضعت لهيمنة عرفات5 خيري أبو الجبين، قصة حياتي في فلسطين والكويت: دار الشروق للنشر والتوزيع: ص 399-400.، تلك الدائرة هي جسم آخر تحكّم عرفات به وبمخصصاته، وهي دائرة تُشرف على قوات وكوادر المنظمة من العسكريين، الذين شكّلوا الجزء الأكبر من بيروقراطية المنظمة. ساعده في ذلك أنّه صاحب منصب القائد العام لقوّات الثورة الفلسطينية، فعزّز نفوذه على العسكريّين، مستخدماً حصتهم في المجلسين الوطنيّ والمركزيّ والهيئات القيادية الأخرى لموازنة خصومه في المنظمة. 

خيري أبو الجبين، يجلس على يمين ياسر عرفات، والذي شغل منصب أمين سرّ مجلس إدارة الصندوق القومي لمدّة 15 عاماً .

ومع تأسيس السّلطة الفلسطينيّة، تحوّلت أغلب المصادر التقليديّة للصندوق كالمساعدات والمنح إلى خزينة وزارة الماليّة، التي اعتمد عليها الصندوقُ بصورةٍ متزايدةٍ لتمويل مصاريف ورواتب وميزانيات مؤسسات وفصائل المنظمة.6 حوّلت وزارة المالية للصندوق القومي خلال الفترة ما بين 2014-2018، ما يقارب 3,29 مليار شيكل، وهو ما يُشير إلى اعتماديّة الصندوق على موازنة السلطة.

لم تختلفْ سياسة عبّاس الماليّة عن سياسة سابقه، سواءً في غياب الشفافية الماليّة أو في التحكّم بمالية المنظمة. إذ عيّن رمزي الخوري مديراً للصندوق، وتمكّن عبره من التحكم في المسائل الماليّة للمنظمة، مُستغلّاً ضعف حضور رئيس مجلس إدارة الصّندوق وعضو اللجنة التنفيذيّة محمد زهدي النشاشيبي. وعلى الرغم من انعقاد المجلس الوطنيّ عام 2018 وإعادة تشكيل اللجنة التنفيذيّة، إلا أنّ عباس كان حريصاً على إبقاء رئاسة مجلس إدارة الصّندوق شاغرة دون أن يتولى أيٌّ من أعضاء اللجنة التنفيذية إدارتها حتّى الآن.

اقرؤوا المزيد: القضاء الفلسطيني.. كيف يؤمّن عبّاس نفسه؟

مكّنت هذه الوضعية عبّاس من استخدام المال المُخصّص للفصائل الفلسطينيّة كأداةٍ للثواب والعقاب مع فصائل المنظمة.7وهي عبارة عن مخصصات شهريّة تدفعها منظمة التحرير من خلال الصندوق القومي للفصائل المنضوية تحت إطار المنظمة. لا توجد أرقام معلنة حول هذه المخصصات، والتي بلغت ذروتها في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، فمثلاً حصلت الجبهة الشعبية على مبلغ 400 ألف دولار شهريّاً في العام 1979. انظر يزيد صايغ، المصدر السابق: ص 691. خلال الفترة ما بين 2010-2018 استخدم أبو مازن ورقة قطع المخصصات الشهريّة عن فصائل في المنظمة في ثماني مناسبات، تتعلّق جميعها بانتقادات على سياسة السُّلطة الفلسطينيّة. عام 2010 مثلاً، أوقف محمود عبّاس مخصّصات الجبهة الشعبية من الصندوق على إثر تعليق مشاركتها في منظمة التحرير احتجاجاً على عودة السُّلطة إلى المفاوضات المباشرة مع "إسرائيل". تكرّر المشهد عام 2012 بعد انتقادها لسياسات حكومة سلام فياض الاقتصاديّة، وكذلك في أعوام 2014-2016-2017-2018 على إثر انتقادات وجهتها الشعبيّةُ لسياسات الرئيس عبّاس وطريقة إدارته لمنظمة التحرير وعدم التزامه بقرارات الهيئات القياديّة الصادرة عنها. ولم تقتصر هذه العقوبات على الجبهة الشعبية وحدها، بل امتدت لفصائل أخرى على رأسها الجبهة الديمقراطية

أمّا مؤخراً وخلال فترة تجهيز القوائم الانتخابيّة، وظّف أبو مازن مُقدّرات الصندوق في صراعه الداخلي في حركة "فتح"، إذ أوقف المُخصّصات المُقدّمة لمؤسسة ياسر عرفات التي يرأس مجلسَ إدارتها ناصر القدوة، وذلك إثر تشكيله قائمة مُستقلّة عن قائمة "فتح" الرسميّة للمنافسة في الانتخابات التشريعية التي كان من المنوي عقدها في مايو/ أيار الجاري.8يقدّم الصندوق دعماً مالياً وإدارياً لعدد من المؤسسات الفلسطينية داخل وخارج فلسطين، كمؤسسة محمود درويش والمجلس الأعلى للإبداع والتميز، ومركز الأبحاث وغيرها.

التلويحُ بالمقعد

سهّلت هيمنةُ عرفات على مالية المنظمة مَهمة التحكّم في مؤسساتها، والتي شهدت في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي توسعاً كبيراً في عمليات التوظيف، مدفوعةً بتزايد التدفقات النقديّة العربيّة وتحديداً الخليجيّة. لم يكن يُنفّذ إجراءٌ في المُنظّمة، من الابتعاث في دوراتٍ تدريبيّةٍ إلى الحصول على الإجازات المرضيّة والدراسيّة، إلّا ويمرّ على مكتب عرفات. كما احتكرَ عرفات أداةَ توزيع الوظائف والمنافع المرتبطة بها.

اقرؤوا المزيد: كيف خطّط عرفات للانتفاضة الثانية وكيف انقلبت عليه؟

ساهم هذا في سعي الكوادر والقيادات الوسطى نحو علاقةٍ مباشرةٍ مع مكتب القائد العامّ، مُتجاوزين القيادات العليا التي يتبعون لها، ذلك لأنّهم أدركوا أن مصالحهم الشخصيّة مرهونةٌ بموافقةِ مكتب عرفات. مكّن هذا الأمرُ عرفاتَ من السّيطرة على مؤسسات المُنظّمة عن طريق ضمان ولاءِ كوادرها، ومنعِ خصومِهِ فيها من تشكيلِ أي مراكز قوى قد تهدّدُ نفوذَهُ فيها، وبالتالي ضمان سيطرته على المنظمة.9 يزيد صايغ، المصدر السابق، ص 642.

لاحقاً، ومع تأسيس السّلطة الفلسطينيّة، لجأت بعض فصائل المُنظمة التي كانت عاجزةً عن تكوين قاعدة جماهيريّة لها، إلى تعاقدٍ جديد مع حركة "فتح". بموجب هذا التعاقد حافظت قيادات تلك الفصائل على حضورها "الرمزيّ" في الحياة السياسيّة الفلسطينيّة (من خلال مشاركتها في اجتماعات "القيادة الفلسطينيّة"، التي ضمّت أعضاء اللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير، وأعضاء اللجنة المركزيّة لحركة "فتح"، وقيادات في أجهزة السلطة)، وبمقابل ذلك التزمت بالخط السياسيّ لحركة "فتح" وعملت على تغطيته سياسيّاً.

استخدم عبّاس هذه الصيغة مع فصائل المنظمة في مُناسبات عدّة. فمثلاً، شهد تشكيلُ حكومة محمد اشتيّة مُقاطعة أغلب الفصائل الفلسطينيّة، فيما شارك حزب الشّعب، وجبهة النضال الشعبيّ، وحزب فدا، مقابل مقاعد وزاريّة.10على الرغم من عجز جبهة النضال الشعبي عن تجاوز نسبة الحسم في الانتخابات التشريعية عام 2006 إلا أن أمينها العام أحمد المجدلاني حافظ بشكل دائم على موقع وزاري في تشكيلات الحكومة الفلسطينية المختلفة. تكرّر المشهد ذاته في اجتماع المجلس الوطنيّ عام 2018، والذي شهد مقاطعةً من عددٍ من الفصائل الفلسطينيّة والشخصيات السياسيّة. إلا أن عبّاس ضمِنَ مشاركة آخرين من خلال وعدهم بالاحتفاظ بمقاعدهم في اللجنة التنفيذيّة للمنظمة، مثل: جبهة النضال الشعبيّ، وجبهة التحرير الفلسطيني، وجبهة التحرير العربية، وحزب فدا، والمبادرة الوطنيّة، والجبهة الديمقراطية.11 بعض هذه الفصائل، لم تنجح في تجاوز نسبة الحسم في الانتخابات التشريعية لعام 2006. أمّا الأخيرة فشاركت في المجلس طمعاً بالحفاظ على رئاستها لدائرة شؤون المغتربين التي تسيطر عليها لسنوات طويلة، إلا أنّ عباس تنكَّر لها ومنح "فتح" رئاسة تلك الدائرة. تكرر مثلَ هذا السيناريو مع المبادرة الوطنية، التي طمحت من وراء مشاركتها في المجلس تولّي أمينها العام مصطفى البرغوثي عضوية اللجنة التنفيذية، لكنها لم تحصل على ذلك.

كذلك، امتدّت لعبة حركة "فتح" في السّيطرة على اللجنة التنفيذيّة إلى مقاعد المُستقلين، إذ استخدمتها من خلال تعيين شخصيات فتحاويّة غير مستقلة فيها أو شخصيات مقرّبةٍ من "فتح". في التشكيل الأخير للجنة التنفيذية (2018)، اعتبر كلٌّ من الآتية أسماؤهم "مستقلين": أحمد أبو هولي النائب سابقاً عن حركة "فتح"، وأحمد بيوض التميمي عضو المجلس الثوريّ سابقاً، وعلي أبو زهري وزياد أبو عمرو الوزرين السابقين والمقرّبين من "فتح".

هل تُصلح انتخابات المجلس الوطنيّ ما أفسدتْهُ القيادةُ المُتنفّذة؟ 

إنّ الدعوات و"المحاولات" لإصلاح منظمة التَّحرير ليست جديدة. فمنذ تأسيسها والنقاشُ حول ضرورة إصلاحها حاضرٌ لدى الفصائل الفلسطينيّة، وتحديداً الجبهة الشعبيّة التي ركّزت معارضتَها على سياسة حركة "فتح" من عملية التسوية وشكل إدارتها للمنظمة.12شاركت الجبهة في تأسيس ثلاث تكتلات فصائلية لمواجهة اتجاه قيادة المنظمة نحو التسوية بدءاً من جبهة الرفض بعد برنامج النقاط العشر، وجبهة الإنقاذ الوطني بعد اتفاق عمان ما بين النظام الأردني والمنظمة، وتحالف القوى الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو. ومع اندلاع الانتفاضة الأولى، تصدّت حركة "حماس" لمهمة معارضة القيادة المتنفذة في المنظمة، ورفضت الانخراط في إطارها أو الاعتراف بها ممثلاً شرعيّاً للشعب الفلسطينيّ دون إجراء إصلاحاتٍ تنظيميّة وسياسيّة تكسر هيمنة "فتح" على المنظمة، وتشمل مراجعة الموقف من عملية التسوية والعلاقة مع الاحتلال.13 خاضت حركتا حماس وفتح خلال تسعينات القرن الماضي عدداً من جولات الحوار حول انضمام "حماس" للمنظمة، وفشلت جميعها بعد رفض "فتح" تشكيل المجلس الوطني وفقاً للانتخابات وليس التعين أو منح حركة حماس 40٪ من مقاعد المجلس الوطني.

مع نهاية الانتفاضة الثانيّة، وقّعت الفصائلُ الفلسطينيّة وعلى رأسها حركتا "حماس" و"فتح" اتفاق القاهرة 2005 الذي تضمّن اعترافَ "حماس" بالمنظمة ممثلاً شرعيّاً للشعب الفلسطيني، وتمَّ تشكيل الإطار القياديّ المؤقت للمنظمة على أساس.14 يتكون من رئيس المجلس الوطني وأعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة والأمناء العامين لجميع الفصائل بالإضافة الى شخصيات وطنية مستقلة ويجتمع بدعوة رئيس اللجنة التنفيذية. وعلى الرغم من أنَّ بند إصلاح المنظمة احتفظ بموقعٍ أساسيٍّ في كافة جولات الحوار واتفاقيات المصالحة ما بين الفصائل الفلسطينيّة، إلا إنه، وبفعل مماطلة "فتح"، لم يُبحث شكلُ هذا الإصلاح وكيفية إتمامه، فلم تلتقِ الفصائل خلال السنوات الماضية إلا لقاءً يتيماً في بيروت 2017 لبحث انتخابات المجلس الوطنيّ والتي أصبحت العنوانَ الأوّلَ لإصلاح منظمة التحرير.

أمّا في الإعلان الأخير للانتخابات العامة، فقد راهنت "حماس" والجهاد الإسلاميّ على انتخابات المجلس الوطنيّ باعتبارها مدخلاً لإصلاح المنظمة من العطب الذي أصابها نتيجة ابتلاع حركة "فتح" والسّلطة الفلسطينيّة لها. من خلال ضخّ دماء ووجوه جديدة في المنظّمة، رأت تلك الفصائل فرصةً لوضع حدٍّ لهيمنة "فتح" وبالتالي تفعيل الدور الرقابيّ والسياسيّ لها، وإعادة الاعتبار إلى دور اللاجئين الفلسطينيين في عملية صنع القرار.

اقرؤوا المزيد: اللجوء الفلسطيني الجديد.. أفق في بطن السّواد.

غير أنّ هذا المنطق، وعلى أهميته، تشوبه العديد من الفراغات، فليس ثمّة تفاصيل لكيف من المُمكن أن يتمّ الإصلاح من داخل المُنظمة التي انخفضَ سقفها مع السنين العجاف. ليست هناك قدرة "تقنيّة" ولا سياسيّة لإشراك اللاجئين، وليست هناك إجابات واضحة للإشكالية المتعلقة بإصلاح وتفعيل الشقّ التنفيذيّ من المنظمة، والمكوّن من مجموعة من الدوائر والمؤسسات والمنظمات الشعبية المنتشرة في مختلف بلدان العالم، والمهيمن عليها بشكل عام من كوادر "فتح".

أما الدليل الأخير على تلك الهيمنة الكاملة، فهو تفرّد هذه النخبة السياسيّة بقرار الانتخابات التي أجّلها (أو ألغاها بالأحرى) أبو مازن، فقطع أيَّ "أمل" كان معروضاً على تلك الفصائل. يصطدم منطق إصلاح المُنظمة بهذا الواقع بالأساس، والذي يُشير أيضاً إلى أنّ حزب السلطة لن يتردّد -في حال دخول "حماس" والجهاد المنظمة- في تفصيل المجلس الوطني على مقاسه بما يضمنُ سيطرته، وبالتالي تثبيت الوضع القائم والحيلولة دون إحداث تغييراتٍ جذريّة على بنية المنظمة. 

محمود عباس في كلمته الاحتفال بالذكرى الخامسة والخمسين لتأسيس حركة فتح، 31 ديسمبر 2019 في رام الله. تصوير: عصام الريماوي/ الأناضول

كسرُ الصنم

لسنواتٍ طويلة، تمكَّنت حركة "فتح" من فرض هيمنتها على منظمة التحرير، بل والمجال السياسيّ الفلسطينيّ، مُستفيدةً من توظيف مُقدّرات المنظمة لصالح قادتها، الذين نجحوا في التعامل مع المعارضة الفلسطينيّة الداخليّة، عبر احتوائها بصفقات وتفاهمات نالت بموجبها هذه الفصائل مكاسب تكتيكية على مستوى تقاسم السّلطة والحضور.

يُحتّم واقعُ منظمة التحرير هذا والتحديات التي تواجه عملية إصلاحها، عدمَ الاقتصار على مسار النضال من داخل المنظمة فقط، كما نظّرت لذلك فصائلُ اليسار سابقاً. بل العمل أيضاً على تحصين وتعزيز هذا المسار بتكوين تحالفٍ من الفصائل السّاعية للإصلاح، وتحديداً حركتي "حماس" والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية.

أما الجهدُ الأهم، فعليه أن ينصبّ خارج المجلس الوطني؛ في مجال العمل الشعبيّ والجماهيريّ والتنظيميّ، مع فئاتِ وشرائح الشّعب الفلسطينيّ المختلفة، وبالأخصّ من هم خارج فلسطين. هكذا، يُعاد إحياء السّياسة في مختلف الساحات والميادين، ويَحُولُ التنوّعُ في مسارات العمل السياسيّ دون أن يتحوّل مسارُ إصلاح منظمة التحرير إلى الممرِّ الإجباريّ الوحيد للنهوض بالحالة الفلسطينية. فما لا يُدرك كُلّه لا يُترك جُلّه.