23 يناير 2022

في كفر مالك.. الخيمة في مواجهة الاستيطان

في كفر مالك.. الخيمة في مواجهة الاستيطان

"المستوطن فش اشي يمنعه من إنه يطخك بأي لحظة، يعني إنت لما تكون بعيد في الجهة الشرقية بقتلك وبطخك وما حدا بدري عنك، كل يوم حتى لما لكلاب يعوين بفكر بالمستوطن، الوحش نسينا، الذيب نسينا، الضبع نسينا، الخطر الوحيد بس المستوطن، هو جاي هان للمشاكل أصلاً فش عندهم عائلات بس شباب، متفرغين للمشاكل".  

هكذا لخّص يوسف كعابنة (29 عاماً) في التجمع البدويّ راس التين القائم على أراضي قريتي المغير وكفر مالك، شمال شرق رام الله، حالةَ الاستعداد لأيّ اعتداءٍ قد ينفّذه المستوطنون من المستوطنات القريبة، وبالأخص من البؤرة الاستيطانيّة التي أُقيمت على أراضي القرية الشرقيّة نهاية العام 2020، وما زالت قائمة حتى الآن، وتُدعى "مزرعة ميخا"، إذ يمارس عشرات المستوطنين فيها نشاطاً زراعيّاً ويرعون الأغنام، في محاولةٍ للتشبه بالفلسطينيّ صاحب المكان الأصيل.

منذ سبعينيات القرن الماضي، يعيش البدو، وغالبهم من عرب الكعابنة، وينصبون خيامهم في المنطقة الشرقيّة من أراضي قرية كفر مالك، على مساحةٍ تُقدّر بحوالي 53 دونماً، كلّها ضمن المنطقة المصنّفة (ج)، وفقاً لاتفاقية أوسلو، وهي المناطق التي تُفرض فيها الإدارةُ العسكريّة والمدنيّة المباشرة لقوات الاحتلال، ويُقيّد الفلسطينيّ فيها في وجودِهِ وعمرانه.1تمتد قرية كفر مالك على أكثر من 52 ألف دونم، فقدت جزءاً كبيراً منها لصالح المستوطنات والطرق الاستيطانيّة والقواعد العسكريّة. في العام 1977 مثلاً، صادرت سلطاتُ الاحتلال 433 دونماً منها لبناء مستوطنة كوخاف هشاحر. تبلغ نسبة الأراضي  المصنفة (ج) حوالي 87% من مجمل أراضي القرية، أما مناطق (ب)، فلا تزيدُ نسبتُها عن 12.7% من مجمل أراضي القرية. الأرقام من دليل قرية كفر مالك، معهد الأبحاث التطبيقية- القدس: أريج، 2012.

البؤرة الاستيطانية "مزرعة ميخا" في الأراضي الشرقية لكفر مالك. تصوير: كيرن منور، ActiveStills

التجمع البدويّ حمايةً للأرض

يصل تعدادهم اليوم إلى حوالي 300 شخص. يستند وجودهم في تلك المنطقة على عقودٍ شفويّة أو مكتوبة بينهم وبين أصحاب الأراضي من القرية، تنصّ في بعضها على مشاركة محصول الأرض، أو على دفع مبلغٍ رمزيّ مقابل البقاء فيها، أو في بعض الأحيان دون أي مقابلٍ يُذكر. وتتمثّل أهمية هذه العقود بدورها القانوني في حماية البدو ومنع ترحيلهم، إذ يقتحم جيش الاحتلال المنطقة بشكلٍ دوريّ لتهجير البدو بحجة "عدم ملكيتهم للأرض"، وهو شكّلٌ من أشكال التهديد الذي يطال معظم الفلسطينيّين في مناطق (ج)، وبالأخصّ البدو منهم.

يُمثل هذا الشكل من التضمين حالةً من "الربح" المشترك بين أصحاب الأرض، وبين البدو. من جهةٍ، يحمي أصحابُ الأرض أراضيهم من المصادرة الإسرائيليّة بحجة عدم استخدامها وفراغها من السّكان، وبالتالي يتصدون لعمليات نهب الأراضي وبناء المستوطنات، خاصّةً في ظلّ تراجع الفلسطينيّين عامةً في ريف الضفة الغربيّة عن ممارسة النشاط الزراعيّ بتوسع. ومن جهةٍ أخرى، يستفيد البدو في تأمين مستقرٍ لهم يأوون إليه ويستفيدون من الأراضي في تربية مواشيهم والحفاظ على نمط حياتهم الرعويّ.

اقرؤوا المزيد: "دولة المستوطنين..كيف تُرك الناس وحدهم دون حماية؟"

عن تلك العقود يقول أحمد محمد كعابنة (59 عاماً)، من التجمع البدويّ: "لما تيجي عليك الإدارة المدنية [الإسرائيلية] وتقلك ليش ساكن هان؟ الأرض مش الك هاي الأرض لفلان الفلاني، وهاي الأرض مسجلة باسمه يلا لازم تروح من هان، بدوروا على أي طريقة يطلعوك، بقلهم هي معي ضمان [معي عقد]،  أنا مستأجر"، ويضيف: "في ناس كاتبة وراق وما ترضى توخذ، وفي ناس بتوخذ وفي ناس كاتبلك ورقة بس عشان تحمي أرضه".

هكذا يُشكّل التواجدُ البدويّ في تلك المنطقة أهميّةً حيويّةً في التصدي للسياسات الإسرائيليّة الساعية للسيطرة على الأرض والتوسع الاستيطانيّ فيها. وفي هذا السياق أيضاً يدفع البدو ثمن التواجد في الأرض وإصرارهم على البقاء، فيواجهون المستوطنين واعتداءاتهم بشكلٍ دوريّ، وبالأخص من البؤرة الاستيطانيّة.

"المستوطن بطخ نار!"

يبقى البدو في حالة تأهبٍ لأي اعتداء استيطانيّ مفاجئ سواء عليهم جسديّاً، بالرصاص تارةً و بالحجارة تارةً أخرى، أو على مزروعاتهم بحرقها وتخريبها، أو على مواشيهم بتسميمها. يقول أحمد محمد كعابنة: "سكان البدو بتعرضوا لتهديدات بالليل ولسرقة من قبل المستوطنين، وطبعاً مع حماية من جيش الاحتلال".  

ذلك الوضع يحرم الأهالي هناك أحياناً من النوم. يقول أحمد محمد كعابنة: "والله قبل فترة، كانوا يمروا حولين الزرع، رحنا خلينا الغنم يرعوا خوف ما ينحرق اشي، واحنا بيوتنا خيش، ودايما بنضل قلقانين إذا أجا واحد يزت اشي يولع.. اشي نار يرمي ويحرق البيوت (خيمنا). في الليل مرات ما نسترجي ننام خوف انهم يرموا اشي يحرق الخيم كلهم". 

وضمن حلقة العنف الاستيطانيّ المستمرة، يواجه أطفال التجمع البدويّ تهديداتٍ من المستوطنين تطالهم في مدرستهم في منطقة رأس التين. لا يتوانى المستوطنون عن مهاجمة المدرسة في أوقات الدوام متعمدين خلق حالة من التوتر والخوف في نفوس الأطفال. تقول المعلمة في المدرسة بيان بعيرات (36 عاماً)، سكان قرية كفر مالك: "بصيروا يطلعوا علينا من الشباك ويعملوا اشارات التهديد بايديهم، حتى يخوفونا، بس أنا لما يجي بكمل حصتي عادي وبحاول أخلي لولاد يغنوا أناشيد لحتى نتجاهل وجودهم، المستوطنين بكون معهم هراوات، بعرفش اذا بكون معهم أسلحة واحنا مش شايفينها". 

بعض من خيم عرب الكعابنة في المنطقة الشرقية من كفر مالك. عدسة: فيروز سلامة.

وكما يشهد محمد، لا يأتي المستوطنون - المُسلّحون أصلاً - للاعتداء وحدهم، بل يُرافقهم في العادة جنودُ الاحتلال. تعكس تلك العلاقة الوثيقة بين المستوطنين والجنود ما يُمكن تسميته بمأسسة عنف المستوطنين من قبل دولة الاحتلال، إذ يُوفّر الجنود "حمايةً مضاعفةً" لهؤلاء المستوطنين، وللدقة، يوفّرون غطاءً أمنيّاً إضافيّاً يُسهل عمليات الاعتداء الفعليّ والمباشر على الفلسطينيّين وتخريب مزروعاتهم.  

يؤكد على ما يقوله أحمد كعابنة: "راح مصطفى قبل سنتين يقدم محضر شكوى في شرطة بنيامين على المستوطنين اللي اجوا علي وضربوا حجار على بيته، الا المستوطن شافه هناك وصار يقول هذا اللي ضربني، وخلص احنا اللي ورطنا مش المستوطن، الجيش والشرطة رسمي معهم". يتدخل ابنه … بالحديث، ويقول: "الجيش حماية الهم، المستوطن يجي يضربك والجيش يتفرج عليك وما يحكي معه، بس إذا انت ضربته مستعد يطخك حماية للمستوطن، هو بقلك انا حماية الهم".

التهجير مقدمة لتوسع الاستيطان

يُشكّل ذلك العنف الاستيطانيّ مراكمةً لفعل العنف الأول وهو السيطرة على الأرض. ويأتي في محاولةٍ يقول فيها المستوطن مرةً تلو المرة بأنه هو "السيد في هذه الأرض"، والمواجهة التي تتم بينه وبين البدو أو سكان القرية تهدف بالأساس إلى تعزيز فكرة السلب بقوّة السلاح، سعياً للوصول إلى حالةٍ يتردد فيها النّاس أصحاب الأراضي في التوجه إلى أراضيهم، ويرتدعون فيها عن فعل المواجهة.

يقول يوسف حماد أحمد القاق (75 عاماً)، من أهالي كفر مالك: "في الجهة الجنوبية من مستوطنة كوخاف هشاحر، إلي قطعتين أرض خارج المستوطنة، وهي مش مصادرة ، ومسجلة باسم أبوي، بس أنا بقدرش أصلها، اليهود بلحقونا ببقى معهم كلاب أو بطخوا علينا، حالياً الواحد بقدرش يوصل أرضه. وكمان في إلي قطعتين مش بعاد عن البؤرة الاستيطانية أكثر من 300 متر، بقدرش أصلهم لأن المستوطن بطخ نار".

اقرؤوا المزيد: "عند عتبة البيت.. اعتداءاتُ المستوطنين في الضفّة".

وبحسب شهادات من أهالي القرية والبدو، فقد أدّى تكرار حالات الاعتداء الاستيطاني إلى تقليل تواجدهم في المنطقة الشرقيّة. تلك المنطقة التي كانت تُشكّل، إلى وقتٍ قريب، ملجأً لأهالي القرية للترفيه عن أنفسهم، خاصّةً أوقات الربيع، لم تعد كذلك في ظل الممارسة الممنهجة لعنف المستوطنين، وحتى بعض عائلات البدو بدأت تفكر ببدائل في ظلّ الخطورة على حياتهم وحياة أطفالهم، وما يتكبدونه من أضرار وخسائر. وفي إحداها، انتهت المسيرة بمواجهات على مدخل قرية المغير أدت إلى استشهاد الطفل علي أبو عليا.

من هذا الباب، لا يُمكن النظر إلى حلقة العنف المستمرة باعتبارها أعمالاً لمجموعاتٍ متفرقة من المستوطنين فحسب أو مجرد نشاطٍ مؤقت، بل هي عملية منهجيّة مستمرة، فالعنف الماديّ مثل وسيلةً لاستلاب الأرض وتحقيق هدف البقاء في البؤرة الاستيطانية. وكلما استمرت عملية الاضطهاد هذه  تحوّلت الأرض المُستلبة إلى "فراغٍ" يتم تعبئته بالبنيان الاستيطاني. أي أنّ ذلك العنف يهدف في النهاية إلى إعادة هندسة الحيز الجغرافيّ الذي أُقيمت فيه البؤرة الاستيطانيّة وتهجير أهله منه، وذلك وفق المنطق الأمنيّ للمستوطنين لتأمين وجودهم وتسهيل توسعهم، وتحوّل بؤرتهم لاحقاً إلى مستوطنة "شرعيّة". 

لكن ذلك لم يحدث دون مواجهة، إذ يحاول أهالي القرية الدفاع عن أراضيهم بما أوتوا من وسائل، في ظلّ غياب احتضانٍ رسميٍّ فلسطينيّ حقيقيّ – وبعيد عن الشعارات والتصريحات- لخيار المواجهة الشعبيّة. فقد شهدت قرية كفر مالك، وجارتها قرية المغير، مسيرات شبه أسبوعية للاحتجاج على إقامة البؤرة الاستيطانيّة، طيلة عامي 2020 و2021، إذ يدرك أهالي القرية أنّ بقاء تلك البؤرة يعني فتح الباب أمام التمدد الاستيطاني على أراضيهم وسرقتها. وكانت بعض تلك المسيرات تنطلق نحو البؤرة وتنتهي بعشرات الإصابات بالرصاص المطاطي والغاز، وتشنّ في أعقابها قوات الاحتلال حملات اعتقال للشبان. لكن تلك المسيرات، وبحسب شهود عيان، تتعرض أحياناً لضغوطات أمنيّة فلسطينيّة تسعى إلى ضبطها وتحديد سقفها.

 في المقابل، فإنّ وجود التجمع البدويّ رأس التين يمثل سياسةً مضادّة للسياسة الإسرائيلية في محاولات سيطرتها على الأرض في مناطق "ج"، وهو ما يُعبّر عنه أهالي كفر مالك، إذ يرون أن التجمع ساهم في دفع الضرر عن أراضيهم وحمايتها، وأنّ جزءاً من الثمن يدفعه البدو.