12 مايو 2019

دولة المستوطنين

كيف تُرك الناس وحدهم دون حماية

كيف تُرك الناس وحدهم دون حماية

بينما تخشى السّلطة الفلسطينية من تحول البرامج الانتخابية الإسرائيلية حول ضمّ الضفة الغربية أو ضمّ مناطق (ج) فيها إلى حقيقة، يعيش المستوطنون مسألة الضمّ واقعاً وممارسةً فعليّة. بعربدتهم المتصاعدة على القرى الفلسطينية؛ سيطرتهم على الأراضي بحماية جيش الاحتلال، ونشر البؤر الاستيطانية فوقها، والاعتداء على سيارات الفلسطينيين وقتلهم، يفرض المستوطنون “دولةً” لهم على أراضي الضّفة الغربية، بينما يُترك الفلسطينيون أسرى مظاهرات الجمع الأسبوعيّة بلا أفق واضح إلا ما ندر.

في الأشهر الأخيرة برزت قصص عدد من القرى الفلسطينية حول رام الله تواجه بأهلها عربدة المستوطنين تلك، وتُقدم في مواجهتهم دماء أبنائها. المشترك بين تلك القرى سعي المستوطنين للاستيلاء على مزيد من أراضيها إما لبناء المستوطنات أو شق الشّوارع المؤديّة إليها.

المغيّر.. تاريخ من الاستيطان ومواجهته

عصر السبت، 26 يناير/ كانون الثاني 2019، عَلَتْ أصواتُ التكبيرات والنداءات من مسجدي قرية المغير شمال شرق رام الله: “البلد الآن تتعرض لهجوم من المستوطنين، على الجميع التوجه لحماية البلد، أخرجوا لحماية بلدكم”. بدأ بعدها الناس يفزعون نحو المنطقة الشماليّة الشّرقيّة للقرية لحماية عدد من البيوت البعيدة والمتفرقة.

في خلفية النداء، يستمرُّ إطلاق النّار من المستوطنين، ويتبادر في أذهان أهالي القرية جريمة حرق المستوطنين لعائلة الدوابشة في قرية دوما القريبة فجر 31 يوليو/تموز 2015. على مدار ساعتين كان المستوطنون قد نصبوا “مصيدتهم” في ذلك المكان وأحكموها؛ ومنها أطلقوا النيران على الأهالي. أحد شهود العيان يروي أنّ مستوطناً كان يُطلق النّارَ دفعةً واحدةً من سلاحين يحمل كلّ واحدٍ منهما بيد.

أُصيب خلال اعتداء المستوطنين ذاك 20 فلسطينيّاً، بينهم حمدي النعسان (38 عاماً)، الذي استشهد لاحقاً، بينما كان منشغلاً بنقل غيره من المُصابين. انتهى الهجوم ذلك اليوم مع حلول الظلام، وانتشار قوات جيش الاحتلال على أسطح المنازل لحماية انسحاب المستوطنين “بسلام”.

لم يكن ما جرى في قرية المغير ذلك اليوم، التي تبعد 30 كم عن مدينة رام الله وتعتبر آخر قُراها من الجهة الشّمالية، حدثاً عشوائيّاً أو وليد تصدي المزارعين للمستوطنين كما يجري بين الحين والآخر في قرى الضّفة الغربيّة. يرى الأهالي أنّ ذلك كان عمليةً مخططٌ ومُعَدٌّ لها، بدأت بملاحقة مزارعيْن اثنيْن أثناء عملهما في الأرض وإحراق مُعِدّاتِهم، وصولاً  إلى مناطق قريبة من بيوت القرية وإطلاق النّار.

في الضفة الغربية وتحديداً في قراها، لم يعد اعتداء المستوطنين محصوراً بالشوارع الاستيطانية التي تجتمع فيها سيارات الفلسطينيين مع سيارات المستوطنين، أو بالعفوية الفردية أو الجماعية، بل تعداه إلى عمل منظم جماعيّ يصل إلى الاقتحام المباشر لقلب التجمعات القرويّة الفلسطينية، سعياً لفرض الاستيلاء على الأراضي بقوة الترهيب وبنزف الدم.

شارع .. فبؤرة.. فمستوطنة

قرية المغير إحدى قرى رام الله الصغيرة التي تتوسط ترمسعيا وخربة أبو فلاح (غرباً) وقرية دوما (شمالاً) وقرية كفر مالك (جنوباً) وغور الأردن (شرقاً). تمتدّ على مساحة 30 ألف دونم، غالبيتها أراضٍ مزروعة باللوزيات والزيتون. أضحت القرية محط طمع الاحتلال منذ سبعينيات القرن الماضي، حينما بدأ بشقّ الشّارع الاستيطاني وسط الضفة الغربيّة، شارع “ألون” شرقي القرية.

أمين أبو عليا، رئيس مجلس المغير، يقول إنّ الشّارع اخترق الأراضي الزراعيّة وفصّل ما يقارب 90% منها شرقي الشّارع بعيداً عن مركز القرية، عدا عن وقوع غالب تلك الأراضي لسيطرة عسكرية إسرائيلية، ضمن تصنيف (ب) و(ج) من أراضي الضّفة، مما يعني إعاقة وصول المزارعين إليها في كثيرٍ من الأحيان.

عام 1976 بدأ جنودٌ في كتيبة الـ”ناحل” في جيش الاحتلال بإقامة معسكر “مفو شيلو” على أراضي شرقي القرية. تكوّن المعسكر من مجموعة من الخيم والبيوت المتنقلة خدمت جنود الكتيبة كمركزٍ استيطانيٍّ لهم. لاحقاً بُنيت في المكان مبانٍ تستخدم لصيانة المعدات العسكريّة الثقيلة ومستودعات للأسلحة، وكان المكان في الثمانينيات معسكراً لسلاح المدفعية الإسرائيليّ، إلى أن أصبح معسكراً يخدم الجنود في الحملات العسكريّة، ولكنه قليل الاستخدام في يومنا هذا.

عام 1998 أقام مستوطنو مستوطنة “شفوت راحيل” بؤرةً استيطانيّةً جديدةً قريبة من المغير باسم “عدي عاد”، كردٍّ فعليٍّ منهم حينها على اتفاقية واي ريفر. تقع تلك البؤرة حتى اليوم على أراضي تتوّزع فيها الملكيات ما بين قرى المغير وترمسعيا وقريوت، وتقدر مساحتها بنحو ألف دونم.

شيئاً فشيئاً مع توّسع الاستيطان حول القرية، بدأت خلال التسعينيات وبداية الألفية سلسلة من اعتداءات المستوطنين على القرية ومزارعيها. شمل ذلك، تقطيع الأشجار وحرقها، وسرقة معدات المزارعين، وإطلاق النّار على الخيول، وغيرها.  خلال تلك الفترة، طوّق الاحتلال القرية من جهتيها الشمالية والشرقية بسياجٍ عسكريٍّ، تمكّن الأهالي من إتلافه بمحاولات فرديّةٍ متتاليةٍ.

بالتوازي مع ذلك، منع جيش الاحتلال لأهالي من الوصول إلى أراضيهم شمالي المغير بدون “تنسيق” للحصول على “تصريح”، وفي أحيانٍ أخرى منعهم كليّةً. وكما حوربوا في الزراعة، مُنع أهالي القرية الذين يعتمدون على رعي المواشي، من التوجه بمواشيهم إلى المنطقة الممتدة من شرقي المغير حتى فصايل في الأغوار.

عام 2011، تمادى المستوطنون خطوة أخرى؛ اقتحموا القرية فجر السّابع من يونيو/ حزيران، وأحرقوا مسجد المغير الكبير. يعلق أبو عليا: “هذا الاعتداء كان له أثر نفسيّ كبير على أهالي القرية، كما حَمَلَت هذه السهولة في الوصول إلى قلب القرية للأهالي رسالة تخويف وترهيب”. في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2014 أحرق المستوطنون مسجداً ثانياً في القرية هو المسجد الغربيّ.

بعد حرق المستوطنين المسجدين في المغير، طرحت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان على أهالي القرية تشكيل لجان حماية أسوةً بعدة قرى خاضت هذه التجربة. يقول أبو عليا إنها فكرة جيّدة، ولكنها بحاجة لدراسة وإعادة تقييم.

المواجهة الحالية

بدأت قصة المواجهة الأخيرة التي تدور حول السيطرة أراضي منطقة “الطبون” الممتدة شمال شرقي القرية، منذ عام 2015 تقريباً. في ذلك العام، فكك جيش الاحتلال المباني المتنقلة التي كانت تخدم إحدى معسكراته في المنطقة، فتنفس الأهالي الصعداء برحيل الجيش.

إلا أن النيّة الإسرائيلية كانت بتحويل المكان إلى بؤرة استيطانية جديدة، وهكذا بدأ يتوالى بناء الكرفانات الاستيطانية. في أمام هذه المحاولات الاستيطانية، خرج أهالي القرية عام 2015 في سلسلة من التظاهرات دفاعاً عن أراضيهم التي يملكون وثائق تؤكد ملكيتهم لها.

أمين أبو عليا، رئيس مجلس المغير، يقول إنّه رغم تصدي أهالي القرية للاستيلاء الاستيطانيّ على منطقة الطبون، إلا أن المستوطنين لا يكلّون، ويواصلون شنّ هجماتهم واعتداءاتهم على المنطقة. وفي مارس 2017، نُصبت من جديد كرفانات استيطانية بهدف إقامة بؤرة عليها وتحويلها شيئاً فشيئاً إلى مستوطنة.

وهكذا عاد أهالي المغير إلى التظاهر مرة أخرى منذ يناير/ كانون الثاني الماضي حتى الأيام القليلة الماضية. وثق مجلس القرية نحو 100 إصابة منذ انطلاق تظاهرات الطبون، معظمها تركزت على منطقة الركبة لإلحاق أضرار جسدية بالمصابين وصدهم عن العودة للمكان.

عدا عن انتظام التظاهرات أيام الجمع، تشهد القرية مواجهات متكررة وإلقاء للحجارة والزجاجات الحارقة اتجاه مركبات المستوطنين.

عدا عن الاحتجاج، شكّل الحاج رتيب النعسان (80 عاماً) نوعاً آخر لتصدي أهالي المغير للاستيطان؛ منذ 30 عاماً قرر العودة والاستقرار في قريته بعد سنوات من الاغتراب، وبدأ بشراء مساحات كبيرة في محيط المغير واستصلاحها. كان يهدف من ذلك تملكها وتوريثها لأبنائه. مع تصاعد الاستيطان باتت أراضي رتيب شوكة بحلق المستوطنين، وتعزيزاً للوجود الفلسطيني في المنطقة، إذ يعمل فيها نحو 60 عاملاً على مدار العام. ورغم حداثة أشجار الزيتون في أراضي رتيب إلا أنها تنتج سنوياً 1500- 2000 تنكة من زيت الزيتون.

مواجهة أخرى في جبل الريسان

إلى الغرب من رام الله، في قرية رأس كركر قصة مواجهة أخرى أمام الاستيطان. في أغسطس/آب 2018، بدأت جرافات الاحتلال بشقّ شارعٍ استيطانيّ على أراضي القرية بهدف ربط المستوطنات القريبة؛ تلمون وتلمون (أ) و(ب)، دوليف، ببعضها البعض. هذا الشّارع يعني مصادرة ألفي دونم من أراضي الفلسطينيين من قرى راس كركر وكفر نعمة وخربثا بني حارث، ويعني كذلك عزلاً للقرى عن بعضها البعض في مقابل تعزيز التواصل الاستيطانيّ.

“تيسير عطايا يُشير إلى الأراضي المهددة بالاستيطان في راس كركر. تصوير: شذى حمّاد”


وكما أهالي قرية المغير، يواصل أهالي قرية رأس كركر غرب رام الله دفاعهم عن أراضيهم في جبل الريسان ضمن فعاليات احتجاجية أسبوعيّة أيام الجمع. يُبيّن رئيس مجلس رأس كركر، راضي أبو فخيدة، أنّ الاحتلال أصدر عام 1983 قراراً بمصادرة تلك الأراضي بحجة أنها غير مزروعة وغير مأهولة استناداً للقانون العثماني واعتماداً على صور جويّة التقطت عام 1944، إلا أن القرار تم تجميده طيلة السنوات الماضية.

لكن لا شيء يبقى على ما هو عليه عند الاحتلال، رغم التجميد الطويل للقرار، إلا أن مجلس بنيامين الاستيطاني، الذي تتبع له مستوطنات تلك المنطقة، نقل بدوره إلى شركة “أمونا” الاستيطانية مهمة إدارة الأراضي بهدف استغلالها  لأغراض الزراعة. بنت الأخيرة على الأرض نواةً لبؤرة استيطانية، تشمل بركساً للأغنام وخزانات مياه، وزرعت في محيطها مجموعة من أشجار الزيتون. عدا عن تواجد عشرات المستوطنين فيها يومياً بحراسة جنود الاحتلال.

مستنداً على عكازه، يقف تيسير عطايا (65 عاماً) من قرية كفر نعمة، على بعد أمتار من أرضه البالغة مساحتها 104 دونمات، وبحسرةٍ يشاهد المستوطنين يعلمون فيها ويرعون مواشيهم. في كلّ يوم جمعة من جمع الاحتجاج يمشي الحاج تيسير وصولاً إلى أقرب نقطة فاصلة بينه وبين المستوطنين وأرضه، ولا يعود إلا مُجبَراً من جنود الاحتلال.

الأعداد التي تشارك في فعاليات الجمعة في جبل الريسان لم تشكّل قوة رادعة للمستوطنين الذين باتوا يعملون ليل نهار في بناء وتوسيع البؤرة الاستيطانية. يقول تيسير: “عام 1986 زرعنا فيها آخر مرة، قبل أن يطردنا الجيش.. كان لدى الناس الأمل أن المصادرة ستكون مؤقتة، ولكنهم لن يخرجوا من هنا إلا بالقوة، يجب ألا نضحك على أنفسنا، المفروض أن نأتي بأعدادٍ كبيرةٍ ونواصل الاعتصام”.

قصة ثالثة في المزرعة القبلية

إلى منطقة نعلان في قرية المزرعة القبلية غرب رام الله، تبدو الأمور أكثر هدوءاً واستقراراً. هناك تسهر مجموعة شبان حتى منتصف الليل في متنزه أقاموه في المنطقة التي شهدت مواجهات عنيفة مع الاحتلال بين عامي 2017-2018. إثر تلك المواجهات نجح أهالي القرية في صدّ مستوطني “كارم عريم” الساعين لمصادرة خمسة آلاف دونم لصالح توسيعها وربطها بالمستوطنات الأخرى.

عصر 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، شهدت منطقة نعلان المواجهات الأعنف منذ بدء الفعاليات الاحتجاجية لأهالي القرية. يومها أطلق جنود الاحتلال زخات من الرصاص الاحتلال بعد محاصرتهم من قبل مجموعة من الشبان، ليصاب 15 فلسطينياً ويرتقي الشهيدان عثمان لدادوة ومحمد شريتح.

رغم أن حضور المستوطنين للمنطقة تراجع بشكل لافت بعد المواجهات التي شهدتها منطقة نعلان، إلا أن جنود الاحتلال يواصلون منع أهالي المزرعة القبلية من الوصول إلى أراضيهم.

وفي محاولة شعبيّة لتثبيت الحقّ في الأرض، أُقيم منتزه نعلان الممتد على 10 دونمات تتوسط المنطقة، محتوياً على مقاعد خشبية تتوسطها نافورة مياه وكافتيريا، ما شجع العائلات للحضور والتنزه إلى المنطقة بشكل مستمر. وسيم لدادوة أحد نشطاء القرية يقول: “نصبنا الكشافات الكبيرة والأضواء التي باتت تضيء كل الجبل.. نتواجد هنا منذ ساعات الصباح حتى منتصف الليل”.

تُضيء قصص هذه القرى في محافظة رام الله على جانب من يوميات أهلها في مواجهة الزحف الاستيطاني، الذي يخنق وجودهم ويحاربهم في رزقهم، بصدورهم العارية حرفيّاً لا مجازاً. وفيما تبقى تصريحات التصدي للاستيطان الرسميّة رهينة التصريحات الإعلامية، يتصرف المستوطنون كأسياد على الأرض بلا رادع.



19 أبريل 2021
البكاء على أطلال الحارة

حتّى تَصِفَ المكانَ الضيّقَ الذي نشأتَ فيه، عليك أن تستخدم كلمة "الحارة"، فهي أصدقُ تعبيراً من كلمتي الحيّ أو المنطقة.…