12 أكتوبر 2022

شعفاط: حكاية مخيّم يُطارد محاصريه

شعفاط: حكاية مخيّم يُطارد محاصريه

بعد عملية إطلاق النار على جنود الاحتلال عند حاجز مخيّم شعفاط مساء السبت الماضي (8 تشرين الأول/أكتوبر 2022)، والتي نفّذها المطارد عدي التميمي (22 عاماً)، وبعد الحصار الشديد الذي يعيشه المخيم لأيام بفعل إغلاق الحاجز الذي يفصله عن القدس، عاد اسم المخيم وما يحيطه من أحياء وبلدات مقدسية ليتكرر في عناوين الأخبار.

في تشرين الأول/ أكتوبر كذلك من العام 2015، أي في مثل هذه الأيام تقريباً قبل 7 سنوات، كان حاجز مخيم شعفاط بارزاً في عناوين الأخبار كواحدٍ من أبرز نقاط المواجهة التي شهدتها مدينة القدس آنذاك. كان ذلك الشهر ميداناً لتصاعد اعتداءات المستوطنين وشرطة الاحتلال في المسجد الأقصى، بالتزامن مع أعياد رأس السنة وعيد العرش اليهودي، وميداناً أيضاً لتصاعد هبّة القدس، أو ما يُعرف أحياناً بـ"انتفاضة السكاكين" التي جاءت ردّاً على تلك الاعتداءات. 

في أكتوبر ذلك العام كان مخيّم شعفاط يزفّ شهداءه واحداً تلو الآخر، أحمد صلاح، ووسام المنسي، اللذين استشهدا خلال المواجهات على الحاجز، ومحمد سعيد محمد علي الذي نفّذ عملية طعن باب العامود ذلك الشهر، واحتُجز جثمانه إلى مطلع 2016، وكذلك الأسير صبحي أبو خليفة الذي نفذ عملية طعن في الشهر ذاته في إحدى مقطورات الترام الإسرائيلي الاستيطاني وسط القدس.

اقرؤوا المزيد: "مذبحة الأقصى".. ذكريات حيّة واستهداف مستمر.

إذن، ليس حضور المخيم حديثاً في ساحات النضال، وبالعودة إلى أراشيف الأخبار والصور، نرى حضوره البارز في سنوات الانتفاضتين الأولى والثانية، بل إنّ المخيم كان دوماً ميداناً نشطاً في مواجهة الاحتلال بصفة شبه يوميّة، حتى في الأوقات التي وُصِفت بـ"الهدوء". وفي أيامنا المعاصرة ليس بعيداً عنا الشهداء: فادي أبو شخيدم، ابراهيم العكاري، وليس بعيداً أيضاً حملات التكاتف والحاضنة الشعبية التي كان أبرزها ما حملت شعار "إذا هدوها راح نبنيها" في إشارة إلى توفير بيت بديل لعائلة الشهيد العكاري بعد أن هدمه الاحتلال.

جانب من المواجهات التي اشتعلت ضدّ جنود الاحتلال عند حاجز مخيم شعفاط، عقب إعلان الثاني عشر من تشرين الأول 2022 يوم إضراب عام في القدس وسائر الضفة الغربيّة احتجاجاً على إغلاق الحاجز وسياسة التنكيل الإسرائيلية ضد أهالي المخيم. (عدسة: أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية).

بطاقة تعريف

يقع مخيم شعفاط شمال شرق مدينة القدس على أرضٍ تابعة لقرية شعفاط تاريخياً، كانت تُعرف باسم "قطعة كَـنْـوَر"، تقع إلى الشرق من مركز القرية. كانت تلك المنطقة أراضٍ زراعية، يستذكر مسنو شعفاط تاريخ فلاحتها والاهتمام بها. 

ما بين عام 1965-1966، أقامت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) بالتعاون مع الحكومة الأردنيّة، مخيم شعفاط على تلك الأرض (حوالي 200 دونم في ذلك الوقت)، وكان آخر مخيم يُبنى من مخيمات النكبة. نُقل إلى المخيم الناشىء لاجئون فلسطينيون من مختلف قرى أقضية القدس واللد والرملة، من الذين هُجّروا عام النكبة من قراهم، وانتقلوا إلى مخيم "المعسكر"، الذي أقيم في "حارة الشرف" في قلب البلدة القديمة للقدس.

اقرؤوا المزيد: أحياء "خلف الجدار": صراع الديموغرافيا والأمن.

وكما يُخلط بينه وبين القرية نفسها، فإنّ البعض يتوه في فهم التصنيف الإداريّ لهذا المخيم. بينما يظنّه كثيرون مصنفاً ضمن مناطق (ج) من أراضي الضفّة الغربيّة، يقع المخيم فعلياً ضمن النفوذ الإداري لبلدية الاحتلال في القدس، أي أنّه كان من بين المناطق التي شملها قرار الضم عام 1967. ويُعتبر مخيم شعفاط مخيم اللاجئين الوحيد الذي يقع ضمن ما يُعرف بـ"حدود إسرائيل". (مخيم قلنديا مُصنّف كمناطق (ج) في غالبه)1فور احتلالها شرق القدس عام 1967، أصدرت حكومة الاحتلال قراراً بضم ما مساحته 72 كيلومتراً مربعاً من أراضي قرى وبلدات القدس وبيت لحم، وأعلنت "توحيدها" مع غرب القدس لتصبح "القدس الموحدة" عاصمة لـ"إسرائيل". هذه المساحة شملت بطبيعة الحال البلدة القديمة والبلدات المقدسية المحيطة بها، كسلوان وشعفاط وبيت حنينا وجبل المكبر وغيرها، لكنها لم تشمل كل قرى القدس، فمثلاً لم تُضمّ العيزرية ولا أبو ديس. يُقدر مختلف الباحثين أنّ معيار اختيار الأماكن التي يتم ضمها لتكون جزءاً من "إسرائيل"، كان في غالبه معياراً أمنياً صرفاً يتعلق بخطوط الدفاع والمواجهة، أي أنهم اختاروا أماكن يسهل بناءً عليها تأسيس حدود بلدية دفاعية بما فيه الكفاية، إضافة إلى المعيار الديموغرافي، فقد بحث الاحتلال عن الأراضي التي تحمل أقل عددٍ ممكن من السكان، ولهذا مثلاً ضُمّت بيت حنينا ولم تُضم العيزرية مثلاً، لأن عدد السكان في الأخيرة قُدّر بأنه أكثر في ذلك الحين، بينما المساحات في بيت حنينا أكثر مقابل سكان أقل..

الجدار طارداً المخيّم

بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 ومباشرة حكومة الاحتلال ببناء جدار الفصل، خُطّط مسار الجدار بطريقة تُقصي المخيم وما حوله من أحياء تقع أيضاً ضمن نفوذ بلدية الاحتلال، وهي أحياء: رأس شحادة ورأس خميس (من أراضي شعفاط)، وضاحية السلام (من أراضي قرية عناتا)، والتي يسكنها عشرات آلاف المقدسيين، من حملة بطاقات الإقامة الإسرائيليّة (الهوية الزرقاء). وللتوضيح أكثر، فإنّ التسمية الرائجة اليوم في الإعلام "مخيم شعفاط" تُشير، في كثيرٍ من الأحيان، إلى مجموع تلك الأحياء الملاصقة بالمخيم، خاصّة مع ضبابية التقسيمات الجغرافية، وتقاطع المشهد العمراني في كثير من جوانبه بين المخيم وتلك الأحياء.2يُذكر أن هذه الأحياء متصلة ببلدة عناتا، ولكن الأخيرة ليست ضمن النفوذ الإداري لبلدية الاحتلال، وتعتبر منطقة ضفة، مُصنّفة في غالبها كمناطق ب أو ج. 

فلسطينيون ينتظرون في صفٍ للمرور عبر حاجز شعفاط العسكريّ باتجاه البلدة القديمة في القدس للمشاركة في احتفالات المولد النبوي الشريف، نيسان 2005. (عدسة: عمّار عوض/وكالة الصحافة الفرنسية).

عام 2011 أتمت سلطات الاحتلال بناء الجدار، ليلتفّ حول كل تلك المنطقة من الجهة الشمالية والجنوبية والغربية، ويُبقيها مفتوحة من الجهة الغربية على بلدة عناتا (تصنيفها (ج) و(ب))، وحوّلت حاجز مخيم شعفاط الذي كان في سنوات الانتفاضة الثانية مكوناً من مجموعة من الجنود والمكعبات الإسمنتية والجيبات العسكرية، حوّلته إلى منشأة ضخمة، فيها مسارات للمشاة وأخرى للسيارات. في ذلك العام أتمّ الاحتلال عزل تلك الأحياء عن قلب مدينتهم القدس، وأصبح مرورهم اليوميّ نحو وظائفهم ومقاصدهم المختلفة، مشروطاً بالانتظار ساعات للمرور عبر ذلك الحاجز.

بالتوازي مع ذلك، أدّى الارتفاع الفاحش في متطلبات استئجار شقة أو بنائها في مدينة القدس من جهة، وقلق المقدسيين من إلغاء إقاماتهم الإسرائيلية في  حال أقاموا في مناطق الضفة الغربية من جهة ثانية، إلى التوجه إلى منطقة مخيم شعفاط، بما تشمله من المخيم وبقية الأحياء. 

كونها تقع معزولة بواسطة الجدار عن وسط القدس، وكون بلدية الاحتلال تغيب بشكل كبير عن مراقبة البناء وفرض الغرامات واشتراط رخص البناء في تلك المنطقة، أصبحت مقصداً مفضلاً ومتاحاً من الناحية المالية للراغبين بالجمع بين "الإقامة في قلب حدود بلدية القدس الإسرائيلية"، وبين "التوفير في إيجارات البيوت المرتفعة التي قد تصل إلى 1200 دولار للشقة ذات الـ90 متراً مربعاً"، وحالها في ذلك شبيه بضاحية كفر عقب، الشهيرة. 

رجل يمرّ بقرب الجدار الفاصل الإسرائيليّ وتظهر من ورائه البنايات الشاهقة في حي رأس خميس، القريب من مخيم شعفاط، 2014. (عدسة: Thomas coex/ وكالة الصحافة الفرنسية).

هكذا، في ظلّ تضييق الاحتلال المستمر على المقدسيين، وصعوبة استصدار تراخيص البناء، وجريمة هدم المنازل المتتالية منذ اليوم الأول لاحتلال المدينة، تحوّل المخيم إلى مكان شديد الاكتظاظ، من حوالي 5000 فلسطيني إلى أكثر من 25 ألف فلسطيني اليوم في المخيم وحده، وتحوّلت أحياء راس شحادة وراس خميس وضاحية السلام من أحياء شبه ريفية تقع على أعتاب المدينة إلى مكان مزدحم بالعمران، مفتقر لأدنى مقومات الحياة البسيطة من خدمات بنية تحتية ومرافق. 

تحمّل أهالي القدس شظف العيش هناك لعيون "البقاء في القدس"، وعدم التعرض لخطر إلغاء إقامتهم. تختلف التقديرات والأرقام الرسمية حول عدد من يسكنون تلك المنطقة (المخيم وكل الأحياء)، إلا أن البعض يقدرهم بحوالي 150 ألف فلسطيني يحملون الإقامة الإسرائيليّة، وهو ما يعني تقريباً 40% من سكان القدس. (لكن البعض يعتبر أن هذا الرقم يشير إلى كل سكان أحياء خلف الجدار، أي أنه يشمل أيضاً سكان منطقة كفر عقب).

بعيد عن العين بعيد عن الاستهداف؟

تتعامل سلطات الاحتلال مع المخيم كبؤرة محتملة لما تُسمّيه "الخطر الأمني"، وكذلك كبؤرة ديموغرافية شديدة الخطورة يسكن فيها عشرات آلاف الفلسطينيين، الذين ترغب بكل ما أوتيت من قوة بتفريغ المدينة منهم، أو على الأقل ضبطهم وضمان كي وعيهم. وربما لهذين العاملين مجتمعين، كان القرار بأنّ يمرّ مسار الجدار الفاصل بطريقة تفصل المخيم وأحياءه المحيطة عن قلب القدس، فما حاجة "إسرائيل" لهذا المكان المعقد المركب ذي التاريخ المتراكم للنضال والقابل في أي لحظة للانفجار في وجهها؟

لكن عزله عن قلب مدينة القدس لم يعزله عن مخططات الاستهداف والإخضاع والتدمير الإسرائيليّة على اختلاف أنواعها. على مدار سنوات اشتغلت سلطات الاحتلال على ملاحقة الشخصيات الوطنية الفاعلة محليّاً والتنكيل بها بالتضييق على معيشتها أو باعتقالها فعلياً. وفي المقابل، اشتغل الاحتلال على صناعة ورعاية شخصيات محلية في قلب بيئة المخيم وأحيائه، تقوم بأدوار تُقيّض من التماسك الاجتماعي، وكذلك بأدوار وسيطة بين الناس الساعين لتأمين أبرز احتياجاتهم اليوميّة وبين مؤسسات الاحتلال كالبلدية وغيرها. يشمل ذلك أيضاً تفعيل مختلف أدواتها، عبر هذه الشخصيات، أو عبر مؤسساتها "المدنية"، كـ"المركز الجماهيري"، لتمرير أجندتها في تهدئة المخيّم ومنع أي مواجهة محتملة. كما أنها تغاضت وعززت بشكل أو بآخر من انتشار المخدرات، عدا عن تغاضيها عن انتشار الجريمة والسلاح الذي لا يُهدّد أمنها.

اقرؤوا المزيد: "القدس بعد عامٍ على هبّتها: كيف يُصان الأمل؟"

وبطبيعة الحال، تبقى الأدوات المباشرة في إخضاع الناس حاضرة، فقد عمل الاحتلال على تعزيز حضوره في بيئة المخيم. في العام 2016، وبعد سنتين تقريباً من المواجهة في القدس، وضع وزير الأمن الداخلي في حينه جلعاد أردان خطة لبناء 6 مراكز تسمى "مراكز الخدمة المدمجة"، تشمل مكتباً لشرطة الاحتلال، مكاتب لمؤسسات ووزارات حكومية اسرائيلية: وزارة الداخلية، والبريد، وزارة الرفاه، ومؤسسة "التأمين الوطني". الهدف منها مفهوم ضمناً: تعزيز الحضور الأمني والمؤسساتي للاحتلال على أمل بتعزيز السيطرة وتثبيت قمع الناس. وكان حاجز مخيم شعفاط أول مكان تُطبق فيه هذه الخطة، وقد افتتح ذلك المركز في أيار/ مايو 2017.3فيه حالياً مقر للشرطة، ويشكون فيه من "عدم الشعور بالأمان"، ولم يستكمل افتتاح بقية المكاتب الحكومية. 

 فلسطينيون يلقون الحجارة باتجاه آلية لشرطة الاحتلال في مخيم شعفاط، شمال شرق القدس، وذلك بعد حملة اعتقالات وتنكيل شهدها المخيم، شباط 2010. (عدسة: أحمد غرابلي/وكالة الصحافة الفرنسية).

من ناحية أخرى، كان المخيم عنواناً لحملة شنّها رئيس بلدية الاحتلال السابق نير بركات، عندما أعلن عام 2018 عن خطّته لإنهاء خدمات الأونروا في المخيم، بالذات المدارس التابعة لها، وذلك بالتزامن مع الحملة الأميركية آنذاك على الأونروا وعلى كل ما ترمز له من حق العودة ومعنى اللجوء. 

إنّ الناظر إلى حال مخيّم شعفاط بالذات، وما حوله من أحياء (راس خميس وأخواتها)، يدرك الواقع المركّب والمعقد الذي يعيشه المخيّم على الصعيد الاجتماعي والمعيشي، وعلى صعيد غياب القيادة الوطنيّة الحقيقية التي تحفظ له تاريخه النضاليّ وتعالج بصدق وأمانة، وبعيداً عن الارتهان لأجندة المؤسسات الإسرائيلية، قضاياه الاجتماعية والمعيشية الصعبة. ورغم كل ذلك، فإنّ المخيم قادر في كلّ مرة على النهوض من جديد والمراكمة على تاريخه النضاليّ، فيما يبقى السؤال حول استثمار الحالة النضالية اليوم وتثبيتها وتعزيزها مفتوحاً على مصراعيه، وهو سؤال مرتبط بعدة عوامل، ربما أبرزها آفاق تطور الهبّات والتحركات الشعبية التي حاولت التعويض عن غياب الحالة التنظيمية الجادّة.