15 أبريل 2021

غولُ التَّهويد يلتهمُ خان العمدان في عكَّا

غولُ التَّهويد يلتهمُ خان العمدان في عكَّا

 في فبراير/ شباط الماضي يكون قد مرّ عامٌ على انطلاق أعمال الترميم الإسرائيليّة في مبنى خان العمدان، أحدِ أهمّ معالم مدينة عكّا، شمالَ فلسطين. في ختام أعمال الترميم، سيُحوّل الخانُ العثمانيّ الأصل إلى فندقٍ فاخرٍ تملكه سلسلة "أورتشيد" الإسرائيلية، في خطوةٍ أُخرى تُضاف إلى سلسلةٍ طويلةٍ من أعمال نهب المدينة ومواقعها التاريخيّة، وتحويلها إلى موقعٍ "سياحيّ عالميّ مريحٍ وعصري"، كما تُعبُّر عن ذلك بلدية عكّا الإسرائيلية.

شُيّد خان العمدان عام 1784 من قبل أحمد باشا الجزار، والي عكا وصيدا، ويتكوّن من طابقين على مساحةٍ تُقدّر بحوالي دونميْن، ويقعُ بمحاذاة مرفأ المدينة بالضبط. تستندُ أروقة الخان على 32 عموداً ضخماً من الغرانيت، ويأوي أكثرَ من 40 غرفةً في طابقيه، وفي ساحته نافورةٌ مثمَّنة الأضلاع سُحبت إليها المياه قديماً من نهر الكابري. كما يتميّزُ الخان عن غيره من خانات عكّا ببرجٍ يعلوه هو برج السّاعة المُزخرف بشعارِ الدولة العثمانيّة، والذي شُيّد بمناسبة مرور 25 عاماً على اعتلاء السّلطان عبد الحميد الثاني العرش، وذلك في العام 1900.

حينَ هوتْ فلسطين.. من مركزٍ تجاريّ إلى مأوى للاجئين

ساهمَ خان العمدان مع غيره من خاناتٍ عكا ومرافقها العمرانيّة وأبرزها الميناء، في تنشيط واستقطاب الحركة التجاريّة والاقتصاديّة نحو المدينة.1مجمع الجزار الخيري، عنان محيبش، مؤسسة الأسوار- عكا، 1999.   فقد ازدهر في القرن الثامن عشر كفندقٍ للاستراحة والمبيت في غُرفه العُليا، ولراحة الدوابِّ والبهائم ومخازن القمح في الطابق الأرضي، وباتَ فيه التجَّار الأوروبيون الذين وفدوا إلى عكا في ذلك الوقت بهدف شراء منتجاتٍ زراعيّة كالسُّمسم والقطن، وعقدوا في ساحته صفقاتهم التجاريّة.2 المعالم العربي والإسلامية في الأرض المباركة، لواء الجليل، خالد سليمان أبو راس، دار النهضة للطباعة والنشر – الناصرة، 2008.

منذ منتصف القرن التاسع عشر بدأت عكا تفقُد دورها التجاريّ بفعل عدّة عوامل، منها الخرابُ الذي حلّ بها وبمرفئها في المعركة بين العثمانيين والجيشِ المصري على المدينة (1831-1833). وحتى بعد ترميم المدينة والذي تطلَّب عقداً من الزمن، لم يعد ميناؤها ملائماً للسفن البخاريّة والحربيّة الجديدة. ومن العوامل أيضاً إنشاءُ خطّ سكة الحديد حيفا – درعا عام 1905، وبالتالي انتقلَ مركز الثقل التجاريّ إلى مدينة حيفا ومينائها وقطارها الجديد. في تلك الفترة حُوّل الطابق العلوي من خان العمدان إلى مساكنَ لأهالي عكا في حين استخدم طابقه السفليّ للورش والمخازن.3المعالم العربي والإسلامية في الأرض المباركة، لواء الجليل، خالد سليمان أبو راس، دار النهضة للطباعة والنشر – الناصرة، 2008.

اقرؤوا المزيد: "عكا دون سحرها.. أهلاً بكم في فولسفون".

ومنذ ذلك الحين وحتى انتهاء الانتداب البريطانيّ على فلسطين، أي عندما كانت تُدار الأوقاف من قبل المجلس الإسلاميّ الأعلى في فلسطين، استمرَّ استخدامُ بعض غرف الخان كمساكن، وتحوّل جزءٌ من طابقه السفليّ إلى مصنعٍ للحلويات، ومن ثم استُخدم جزٌء منه عام 1944 كمدرسةٍ أيضاً، وبعد النكبة لجأت إليه بعض العائلات التي هُجّرت من قرى ومدنٍ مجاورة.4مجمع الجزار الخيري، عنان محيبش، مؤسسة الأسوار- عكا، 1999.

الغولُ الكبير يضع يدهُ على الخان

بعد احتلالِ الجزء الأكبر من فلسطين عام 1948 وإعلان تأسيس دولة الاحتلال، اعتُبرت أراضي وأملاك الأوقاف الإسلاميّة، شأنها شأن تلك الأملاك الخاصّة باللاجئين، "أملاك غائبين"، وأُحيلت لـ"القيّم على أملاك الغائبين". لاحقاً، فُصِلَت الأوقاف ذات الطابع الدينيّ (حسب تصنيف الاحتلال) كالمساجد والمقابر، ووُضعت تحت إدارة وزارة الشؤون الدينيّة الإسرائيليّة، عن تلك "العلمانية" أي الأملاك الوقفية التجاريّة، ومنها الخانات. في العام 1965، جرى تعديلٌ آخر على قانون أملاك الغائبين، حُوّلت بموجبه الأوقاف التي بقيت حتى ذلك الحين تحت إدارة "القيّم على أملاك الغائبين" لحساب ما سُمّي بـ"مجالس أمناء الوقف" والتي عيّنتها الحكومة الإسرائيليّة بشكلٍ مباشر. وبطبيعة الحال، فإنّ سياسة التعيين هذه تعمَّدت اختيارَ من سيُنفذون سياسة الحكومة دون اعتراض.5سياسة إسرائيل تجاه الأوقاف الإسلامية في فلسطين: ١٩٤٨-١٩٨٨؛ مايكل دمبر. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت. 1992، ص 59-119.

وهكذا، أصبحَ خان العمدان في عُهدة "لجنة الأمناء" التي عيّنتها حكومة الاحتلال عام 1966 في عكا. تمتَّعت هذه اللجنةُ بصلاحيّة إدارة الأملاك الوقفيّة في عكّا وبيعها أو تأجيرها أو التصرّف بها "وفقاً لما تراه ملائماً". وفي العام 1975، أجّرتْ اللجنةُ مقابل إجارات رمزيّة، وباتفاقٍ لم تُعلن بنوده على الملأ، عدداً من الأملاك الوقفيّة الهامة في المدينة لشركةٍ إسرائيليّة هي "شركة تطوير عكا"، من بينها خانُ العمدان. تسري الاتفاقيّة لمدة 99 عاماً، وتمنحُ الشركةَ حريّةً شبه كاملة في التصرّف بتلك الأملاك.6 سياسة إسرائيل تجاه الأوقاف الإسلامية في فلسطين: ١٩٤٨-١٩٨٨؛ مايكل دمبر. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت. 1992، ص 59-119. وقد حاولت لجنة الأمناء الجديدة التي استلمت إدارة الوقف عام 2009 الاعتراضَ على هذا الاتفاق وتوّجهت للمحاكم لإلغائه وإبطاله، لكنها لم تنجح في ذلك.

خان العمدان كما يظهر من مرفأ عكّا القديمة، فبراير 2019، تصوير: توماس كويكس AFP

استمرّت بعضُ العائلات بالسكن في خان العمدان حتى بعدما استأجرته شركة "تطوير عكا". ثمّ خرجت آخر عائلة فلسطينيّة منه في الثمانينيات، ليتحوَّل الخانُ إلى مكانٍ مُهمَل بالكامل على مدار ثلاثة عقود على الأقلّ، ما عدا مواظبة الشركة على تبديل علم "إسرائيل" المُعلّق على أعلى برجه (والذي ألقاه شبّان عكا مراتٍ عديدة ونصبوا مكانه العلم الفلسطيني). لاحقاً، أغلقت "شركة تطوير عكا" الخان ومُنع الدخول إليه وذلك بعد أن أصدرت بلدية عكا حوالي 10 إعلانات عن مواقع آيلة للسقوط بداخله.

اقرؤوا المزيد: "للإيجار على Airbnb.. بيوتنا المسروقة في يافا".

لم تنتهِ القصة بعد. تحقيقاً لرؤيتها للمدينة، سعتْ شركة "تطوير عكا" إلى تحويل خان العمدان إلى فندقٍ فاخر ففتحت عدّة مناقصات لتأجيره. كانت الأولى عام 2008، وفاز فيها رجلُ أعمالٍ يهوديّ بريطاني، لكنّ الشركة التي نافسته وخسرت المناقصة اعترضت عليها واعتبرت أن فساداً إداريّاً تخلَّل عملية الاختيار، فأُلغيت المناقصة من قبل المحكمة العُليا.

لافتة وضعت على خان العمدان بعد إغلاقه ومنع الدخول إليه

في العام 2013، أُعلن عن المناقصة الثانية، ولكنّها كانت تضمُّ هذه المرّة خان العمدان ومعه خان الشونة و36 منزلاً، في توجهٍ واضحٍ يهدف لتهجير السكان، وبناء "فندقٍ يضم 200 غرفة" وفقاً للإعلان. تبعَ هذا الإعلان حراكٌ شعبيّ في عكا، وامتلأت جدرانُ الخان والأحياء المجاورة له بلافتاتٍ كُتب عليها "بيتي مش للبيع" و"عكّا مش للبيع"، في تحدٍّ لموجة الاستثمار الإسرائيليّ العقاريّ في المدينة تحت ذريعة "التطوير". وفي العام 2014، وبعد نضالٍ شعبيّ وقانونيّ مكثّف، أصدرت المحكمةُ المركزيّةُ في حيفا قراراً بإسقاط المناقصة.

فندقٌ فاخر "يليق" بمهمَّة طرد جيرانه

فتحت شركةُ "تطوير عكا" مناقصةً أخرى عام 2019 فازت بها سلسلة فنادق "أورتشيد" المملوكة لـ"الأخوة نكاش"، وهم ثلاثة أشقاء أثرياء إسرائيليون جنوْا ثروتهم التي قُدّرت العام الماضي، بنحو 1.5 مليار دولار، في الولايات المتحدة. وتشترطُ المناقصة أن تقوم الشركة الاستثمارية، بترميم الخان حتى 2024، لتنشأ فيه فندقاً فاخراً بـ 50 غرفة، يضاهي فندق "سطاي" الذي تملكه الشركة ذاتها، وأُقيم في أحد المباني التاريخيّة في مدينة يافا، وتُكلّف الليلة الواحدة فيه أكثر من 2000 شيكل. وتعتزمُ الشركةُ بناء بركة ماء على سطح الخان المقابل لأسطح منازل بلدةٍ تنهشُ سياسة الإفقار والقمع بأهلها من كلِّ زاوية، يُمكن لزواّره الأثرياء أن يشاهدوا من على شرفته "متحفاً حيّاً" لبؤس أهالي البلاد المُهجّرين بعد أن حاولوا مراراً بما يملكون من بقايا قوةٍ منعَ بيعه وتهويده. 

سياح يتجولون في خان العمدان، أبريل 2014، تصوير: توماس كويكس AFP

وينضمُّ خان العمدان إلى قائمةٍ أخرى من العقارات المهدّدة في عكا، إذ سيطر الاحتلالُ بعد الـ1948 على ما يقارب 85% من مباني عكا القديمة وحوّلها إلى "أملاك غائبين". هذه العقارات تُديرها اليوم شركتان حكوميّتان هما "شركة الإسكان الحكومية – عميدار"، و"شركة تطوير عكا". بدأت الشركتان في العقدين الماضيين على الأقلّ بتصفيةِ أملاك اللاجئين في المدينة عبر بيعها. فمثلاً، تدير الأولى أكثر من 600 منزلٍ في عكا القديمة، وتعرضُ الكثير منها للبيع لمستثمرين. هؤلاء المستثمرون، هم في أغلبيتهم الساحقة يهودٌ إسرائيليون، إمّا على شكل أفراد أو جماعاتٍ ذات عقيدة استيطانية، أو شركات. 

وهكذا، أصبحت في عكّا القديمة عشراتُ الفنادق والنُزل الفاخرة، غالبيتها الساحقة لمستثمرين إسرائيليين، تأسست وازدهرت داخلَ منازل لاجئين فلسطينيين وعلى أنقاض أحلامهم بالعودة. وستؤدي موجةُ الاستطباق هذه إلى ازدياد أسعار كافة العقارات في البلدة القديمة، إلى أن يُصبحَ من الصعب على أهالي المدينة الفقراء أن يواكبوها، وهو ما يعني تهجيرَهم في نهاية المطاف، لصالح أحلامِ "إسرائيل" ببناء مدينةٍ سياحيّة.