28 أبريل 2024

حراك الخيام المنصوبة في أميركا

حراك الخيام المنصوبة في أميركا

متربعين في مجموعات، تغطي خيامهم البلاستيكية الصغيرة ساحات الجامعات التي من المفترض أن تستضيف حفلات التخرج خلال أقل من شهرٍ من الآن، تحوطهم مكبرات الصوت وهراوات الشرطة.. ما الذي يحدث في الجامعات الأميركية؟ كيف بدأ الحراك؟ وكيف تصاعد؟ ما هي أهم مطالبه؟ وأي أهمية يحملها؟ 

طوفان الجامعات

عشية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عمّت المظاهرات والاحتجاجات الطلابية المناصرة للقضية الفلسطينية جامعات الولايات المتحدة الحكومية والخاصة. غير أن أهم التحركات كانت تلك التي اجتاحت الجامعات النخبوية الأميركية والمعروفة بـ "رابطة جامعات اللبلاب" (Ivy League)، وهي جامعات براون وهارفارد وكولومبيا وييل وبنسلفانيا وبرينستون وكورنيل ودارتموث. تُعرَف هذه الجامعات بأدائها الأكاديمي المميز، وتاريخها العريق وتنافسية الدخول إليها، كما تجتذب اهتماماً حكومياً مضاعفاً لمكانتها ورمزيتها. 

لم تتوقف الحركة الطلابية بأطيافها المتعددة، وعلى رأسها حركة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" (SJP)، عن الاحتجاج والاعتصام والضغط طوال المئتي يوم الماضية، مطالبين بوقف إطلاق النار في القطاع، ووقف الدعم الأميركي العسكري والسياسي لـ "إسرائيل"، ودفع جامعاتها باتجاه تبني سياسات المقاطعة وسحب الاستثمارات من الجهات الإسرائيلية أو الداعمة للاحتلال. 

الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في جامعة نيويورك يحتلون ساحة في الحرم الجامعي، ويعلنون أنها مخيم تضامني مع غزة في 22 نيسان/أبريل 2024 في مدينة نيويورك. (تصوير أندرو ليختنشتاين/ كوربيس)

شكلت الحركة طوال الأشهر الماضية، مظلة طلابية جسورة عابرة للطبقات والأعراق والأديان، من حركات طلابية أخرى في الحرم الجامعي، على رأسها الطلاب اليهود المناهضين للصهيونية. وقد ظهرت "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" في أوائل تسعينيات القرن الماضي في جامعة بيركلي - كاليفورنيا، واكتسبت مع الوقت زخماً وقدرة على التنظيم والعمل حتى باتت مؤخراً أحد أهم المساهمين في إعادة تشكيل وجه الجامعات الأميركية والنشاط الطلابي فيها، كما ألهمت حركات مماثلة شكّلت في مجموعها جسماً طلابياً قوياً وقادراً على التأثير والتغيير، من أبرزها الحركة الطلابية التابعة لحركة "حياة السود مهمة" وتلك التابعة لمنظمة "أصوات يهودية من أجل السلام".

إضافة لذلك، تميّز الحراك الطلابي باحتوائه على فعاليات ثقافية وفنية ملهمة. فالحراك الذي ضم بين جنباته طلاباً وقطاعات واسعة من الهيئات الإدارية والتدريسية، لم يكتف بالوقوف أو الهتاف احتجاجاً على تواصل العملية العسكرية في القطاع، بل احتوى على ممارسات دينية وفقرات فنية وغنائية وعقد محاضرات وندوات خارجية، وهو ما أدى إلى جذب شرائح واسعة من الطلبة، ودفع بوسائل الإعلام الأميركية لتغطيته والاهتمام به. 

النسخة الأميركية من "السيوف الحديدية"

لم تسلم خلالها الحركة الطلابية المناصرة لفلسطين من العنف والتضييق، إذ طاردت الجامعات النخبوية حركة طلاب من أجل العدالة في فلسطين، فأوقفت جامعات مثل كولومبيا وبرانديز وروتجرز وجورج واشنطن، نشاط الحركة في الحرم الجامعي، وأوقعت عليهم عقوبات إدارية وصلت حد الفصل. 

اقرؤوا المزيد: وطنٌ من القواعد.. عن الوجود الأميركي بيننا

بينما تعرض الطلبة المناصرون للقضية الفلسطينية، لأعمال عنف من متطرفين أميركيين أو إسرائيليين، فمثلاً؛ أُطلق النار على ثلاثة طلاب في فيرمونت مطلع العام الجاري. بينما تعرض عشرات من الطلبة في جامعة كولومبيا، لاعتداءات من طلاب إسرائيليين رشّوا عليهم مادة كيميائية للاستخدامات الحربية، اضطروا على إثرها دخول المستشفيات وتلقي العلاج، وسط صمت من الجامعة وشرطة المدينة التي لم تقم بإدانة أو بتحقيق جدي يليق بهذا الفعل الجنائي.

عناصر في الشرطة الأمريكية يعتقلون متظاهراً خلال احتجاج مؤيد للفلسطينيين ضد الحرب في غزة في جامعة إيموري في 25 نيسان\ أبريل 2024، في أتلانتا، جورجيا. (تصوير إيليا نوفيلاج/ وكالة الصحافة الفرنسية)

جذبت التحركات الطلابية انتباه الساسة الأميركيين، فكال لها أعضاء جمهوريون في الكونغرس اتهامات بـ "التحريض" و"معاداة السامية"، مطلقين حملة لـ "محاربة معاداة السامية في حرم الجامعات النخبوية في الولايات المتحدة". وانطوت الحملة على استدعاء رؤساء الجامعات إلى جلسة استماع أمام الكونغرس، لفحص الإجراءات التي يتخذونها لمحاربة "معاداة السامية" في جامعاتهم. وقد هُدّد وضُغط بالقوة على رؤساء الجامعات الذين رفضوا التضييق على حرية الطلبة بالتجمع والتعبير، لترك مناصبهم، إذ جرى استبدالهم بأسماء موالية للحركة الصهيونية، وعلى رأس الذين أقصوا؛ رئيسة جامعة هارفارد كلودين جاي ورئيسة جامعة بنسلفانيا ليز ماجيل، عقب جلسة استماع في الكونغرس كانون الأول/ ديسمبر الماضي.

أثمرت التدخلات الحكومية بالضغط على إدارات الجامعات النخبوية بتعديل سياسات الاحتجاج والتضييق على قدرة الطلبة على التجمع في عدد منها. فمثلاً؛ منعت كل من جامعة هارفارد والجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة، الاحتجاج في الأماكن المسقوفة في الجامعة، وقصرتها على الساحات المفتوحة، بينما ناقشت جامعة ميشيجان سياسة مشددة لما أسمته "الفعل المزعج"، تتوعد فيها بالفصل أو الطرد للطلبة المخالفين، وإنهاء عقد العمل للهيئة التدريسية والإدارية المخالفة.

كما منعت جامعة جنوب كاليفورنيا في قرار مفاجئ، الطالبة المسلمة من أصول آسيوية والمتفوقة أسنا تبسم، من تلاوة خطاب التخرج في الحفل المرتقب في أيار/ مايو القادم، مشيرة إلى مخاوف على الأمن والاستقرار خشية تطرق تبسم في خطابها للقضية الفلسطينية. الأمر الذي فجّر موجة من الغضب والاحتجاج في أروقة الجامعة، دفعها لإلغاء خطابات بقية المتحدثين، في مخالفة لتقليد راسخ منذ عام 1942. 

فجأة، ومنذ السابع من أكتوبر، تحولت ساحات الجامعات الأميريكية إلى أماكن غير آمنة للطلبة المناصرين للقضية الفلسطينية، يتعرضون فيها لكافة أنواع المضايقات والتحرشات، وتطبق عليهم سياسات "الإسلاموفوبيا" و"معاداة العرب". وقد أكد طلبة يهود مشاركين في الحراك لأجل غزة، أن اعتصامهم يأتي تضامناً لا مع أهل غزة فحسب، ولكن أيضاً مع الطلبة الفلسطينيين والمسلمين الذين لا يشعرون بالأمان في حرم الجامعة، بسبب الموقف المنحاز لإدارة هذه الجامعات، ما أدى إلى أن تكون بيئة خصبة للتمييز والعنصرية.

ومما تجدر الإشارة إليه، بأن قمع الحركة الطلابية المناصرة للقضية الفلسطينية لا يُعدّ حدثاً جديداً. يُظهر تقرير لمنظمة "فلسطين القانونية" (Palestine Legal) الناشطة في الولايات المتحدة، أن السواد الأعظم من قمع حركة التضامن مع القضية الفلسطينية كان موّجه للحركات الطلابية ونشاطها في حرم الجامعات، ففي عام 2019 كانت نسبة القمع والتضييق الأميركي الموّجه للحركة الطلابية يبلغ 74%. وإضافة لذلك، واجهت الحركة الطلابية قمعاً متزايداً من أذرع اللوبي الصهيوني، فطاردتهم "رابطة مكافحة التشهير" (ADL) المنظمة الصهيونية الأبرز في الولايات المتحدة، ومشروع "كناري" ومنظمة "مراقبة الحرم الجامعي"، كما يستمر اللوبي الصهيوني بالضغط في أروقة الكونغرس لتقييد الحرية الطلابية وملاحقة مناصرين القضية الفلسطينية بدعاوى "التحريض" و"معاداة السامية".

اقرؤوا المزيد: رابطة مكافحة التشهير في خدمة اللوبي الصهيوني

اقرؤوا المزيد: "عملية كناري".. ملاحقة وتعقّب أكاديميي المقاطعة

كيف تدحرجت أحجار الدومينو؟

بدأت الأحداث بالتسارع بعد 17 نيسان/ أبريل الجاري، حين استُدعيت رئيسة جامعة كولومبيا، المصرية الأصل، نعمت شفيق، أمام لجنة مجلس النواب، ضمن حملة "محاربة معاداة السامية في الجامعات". أكدت شفيق التزامها بحماية الطلاب اليهود ومحاربة أي تحريض أو تعدٍ عليهم من قبل الحراك الطلابي المناصر لفلسطين، كما اعتبرت عبارات مثل "من البحر إلى النهر" و"تحيا الانتفاضة"؛ عبارات "معادية للسامية". ولم تكتف بذلك، بل أكدت إشمئزازها من دعم الزائر للجامعة، أستاذ الدراسات العربية محمد عبده، لهجمات المقاومة يوم السابع من أكتوبر، مشيرة إلى أنه قد فُصل من عمله بالفعل. بينما أكدت تعرض أستاذ السياسة العربية المعاصرة جوزيف مسعد، والذي أبدى إعجابه بهجمات السابع من أكتوبر، إلى توبيخ رسمي من الجامعة، وأنه أُقيل من منصبه كرئيس لجنة تحكيم أكاديمية؛ الأمر الذي نفاه مسعد، مؤكداً أن عقده ينتهي من تلقاء نفسه خلال الأسابيع المقبلة.

على إثر جلسة النواب هذه، باشرت جامعة كولومبيا بالتضييق على قدرة الطلبة على التجمع، وذلك من خلال منع المظاهرات بعطل نهاية الأسبوع، وجعلها في ساعات معينة فقط، وبإذن مسبق من الجهات المختصة في الجامعة. الأمر الذي خالفه المعتصمون، الذين أصرّوا على استمرارية حراكهم حتى يُستجاب لمطالبهم. ردّت الجامعة بفصلهم من الكلية، واستدعاء الشرطة لإخلائهم بالقوة كمنتهكين لسياسات الجامعة ومعتدين على "ممتلكات الغير".

رئيس جامعة كولومبيا نعمات شفيق خلال امتثالها للجنة التعليم والقوى العاملة بمجلس النواب حول معاداة السامية في الحرم الجامعي، في الكابيتول هيل في العاصمة الأمريكية واشنطن، 17 نيسان\ أبريل 2024. (تصوير: درو أنجيرر/ وكالة الصحافة الفرنسية)

ومنذ 18 نيسان/ أبريل، أخذت الأمور منعطفاً دراميتيكياً، حين قامت شرطة ولاية نيويورك باعتقال 100 طالب وطالبة، كانوا يعتصمون في ساحات الجامعة، وهو ما قرأته الحركات الطلابية كتهديدٍ خطيرٍ لحرية التجمع والتعبير والنشاط الطلابيّ في حرم الجامعات. على إثرها، انضم عدد من جامعات النخبة الأميركية للاعتصام تضامناً مع المطالب بوقف العدوان الإسرائيلي وتأكيداً على حق الطلبة بالتعبير والاحتجاج، كرد فعل على القمع والاعتقال الذي تعرّض له عدد من الطلبة المعتصمين في ساحات جامعات الساحل الشرقي، خاصة طلبة جامعة كولومبيا. 

ومن الجامعات والحركات الطلابية التي انضمت للحراك، طلبة جامعة بيركلي- كاليفورنيا العريقة، حين نصب طلبتها خيامهم في الساحات الجامعية وأعلنوا اعتصامهم تضامناً مع طلبة جامعة كولومبيا. كما اجتاحت المظاهرات الطلابية الجامعات الأميركية النخبوية، وعلى رأسها جامعة نيويورك وجامعة ييل وجامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهي جامعات تحتل المراتب الاولى كأفضل الجامعات في الولايات المتحدة. هكذا، إلى أن تنامت حركة الاحتجاج الطلابية في أكثر من 58 جامعة أميركية. 

نصب الخيام والطرق العديدة لاقتالاعها

نصب طلاب جامعة ميشيغن الخيام تضامناً مع طلبة كولومبيا، وكذا فعل طلبة جامعة مينيسوتا الذين اعتقلت الشرطة 9 منهم، فاجتمع مئات الطلبة في مظاهرة مطالبين بالإفراج عنهم. وقد تكرر المشهد ذاته في عشرات الجامعات حول الولايات المتحدة.

ومنذ اللحظات الأولى، قوبل الحراك الطلابي في مختلف الجامعات بالقمع بالهراوات والاعتقال من قبل الشرطة وقوات القمع. فعلى سبيل المثال، وفي يوم واحد هو 22 نيسان/ أبريل، أعلنت دائرة شرطة نيويورك اعتقال ما يزيد على 120 طالباً معتصماً في جامعة نيويورك ، بتهم "السلوك غير المنضبط" و"التعدي على ممتلكات الغير"، ليُخلى بعدها سبيلهم في انتظار جلسات المحكمة للنظر في التهم الموجهة إليهم. وكذا اعتقلت الشرطة الأميركية 60 متظاهراً في جامعة ييل، إثر استدعاء إدارة الجامعة لقوات الشرطة ومطالبتهم بفض الاعتصام بالقوة. ومثلهم في ولاية أريزونا، حيث اعتقل 69 شخصاً بتهمة "التعدي على ممتلكات الغير"، وذلك بسبب نصبهم الخيام دون تصريح. ومنذ بداية الاعتصامات، كانت الشرطة الأميركية قد اعتقلت أكثر من 600 طالب.

متظاهرون مؤيدون للقضية الفلسطينية يحتلون حرم جامعة كولومبيا في نيويورك، ويقيمون فيه مخيماً تضامنياً يطالبون خلاله أمريكا بقطع إمداداتها المالية للاحتلال، في 22 نيسان\ أبريل 2024. (تصوير تشارلي تريبالو/ وكالة الصحافة الفرنسية)

وعلى مستوى الجامعات نفسها، فقد حاولت مواجهة الحراك بالعقوبات الإدارية المتمثّلة بالفصل، وكذلك بإجراءات لاحتواء الأزمة، غير استدعاء الشرطة للقمع. إذ أغلقت جامعة كال بولي هومبولت الحكومية في أركاتا بكاليفورنيا أبوابها، بعد أن احتل طلاب متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين مبنى الحرم الجامعي، فاعتقل 3 منهم، لتقرر الإدارة بعدها نقل التعليم إلى النظام الإلكتروني مؤقتاً. بينما أعلنت جامعة كولومبيا نقل كافة صفوفها حتى نهاية العام الدراسي إلى النظام المختلط، بحيث يتمكن الطالب الذي لا يرغب بالحضور وجاهيّاً متابعة محاضراته عن بعد، في محاولة لامتصاص الحالة. 

ومن نافلة القول، أن موقف جامعة كولومبيا كان معادياً للحراك المناصر للقضية الفلسطينية منذ البداية، إذ أصدرت الجامعة عشية السابع من أكتوبر بياناً شديد اللهجة تدين فيه المقاومة الفلسطينية وتعلن تضامنها الكامل مع الجانب الإسرائيلي. استمر النهج المنحاز للجامعة طوال الأشهر التي تلت معركة الطوفان، وتنوعت ردود أفعالها بين الفظاظة في الاعتداء على الطلبة المتضامنين مع فلسطين وفصلهم من الجامعة، وتجاهل اعتداءات الطلبة المؤيدين لـ "إسرائيل".

اقرؤوا المزيد: صناعة العداء.. كيف مُهّدت الطريق لـ "إسرائيل"؟

أما على المستوى السياسي الرسمي، فحاول الرئيس الأميركي جو بايدن، الموازنة بين الطرفين، لكنه بالطبع لم يستطع إخفاء انحيازه، إذ أدان في بيان صحفي مطلع الأسبوع الجاري ما اعتبره "مظاهرات معادية للسامية"، كما أدان ودون توضيح "أولئك الذين لا يفهمون معاناة الفلسطينيين". بينما اعتبر المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية المقبلة والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، المظاهرات الطلابية "فوضى عارمة وعار". في المقابل، اتهم المتحدث باسم مجلس النواب الممثل الجمهوري مايك جونسون الطلبة بأنهم "عصابات معادية للسامية"، مدعياً أن الطلاب اليهود لا يشعرون بالأمان في جامعاتهم بسبب تلك المظاهرات، ومطالباً باتخاذ إجراءات صارمة بحقهم. 

ما الذي يريده المحتجون؟

ضمّت الاحتجاجات الطلابية الأخيرة إلى مطالبها المتمثلة أساساً بوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وإحجام الولايات المتحدة، الراعي الأساسي لآلة الحرب الإسرائيلية، عن تسليح ودعم الكيان سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، مطلباً رئيساً باحترام حق التعبير والتجمع السلمي للطلبة في ساحات الجامعات، وهي الحقوق المكفولة لهم دستورياً، وتعدّ عماد الحراك الطلابي الأميركي عبر التاريخ.

كما يطالب المعتصمون جامعاتهم بقطع علاقاتها بمثيلاتها من الجامعات الإسرائيلية، وإيقاف برامج التبادل الأكاديمية والشراكات البحثية والعلمية معها. كما يطالبونها بمقاطعة مزودي الأسلحة لـ "إسرائيل"، وكافة الشركات المستفيدة من الصراع. وقد تبنت الحكومات الطلابية لعدة جامعات، منها جامعة كولومبيا وهارفارد والجامعة الأميركية في العاصمة واشنطن، قرارات تدعو لإنهاء الاستثمارات والشراكات الأكاديمية مع الاحتلال.

تسلط هذه الحركات الضوء على تورط الجامعات والمؤسسات الأكاديمية العريقة في نظام الإجرام والفصل العنصري الإسرائيلي، إما بالشراكات والتعاون المباشر مع الحكومة الإسرائيلية ومكونات المجتمع الإسرائيلي وإما بالشراكات مع شركات ومؤسسات منخرطة بانتهاكات مباشرة لحقوق الفلسطينيين ومساندة للسياسة الإسرائيلية أو مستفيدة منها. فعلى سبيل المثال، تتلقى بعض المعاهد ذات الطبيعة التكنولوجية، وعلى رأسها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تمويلاً مباشراً من "وزارة الدفاع الإسرائيلية" لتطوير معدات ومواد ذات طبيعة عسكرية.

نشطاء وطلاب يحتجون في ساحة جامعة جورج واشنطن في 26 نيسان\ أبريل 2024 في واشنطن العاصمة، رغم إغلاق الشرطة الأمريكية للمكان ومنع وصول المتظاهرين إليها. (تصوير آنا موني ميكر/ غيتي إيماجز)

وبينما تشترط وزارة التعليم الأميركية على الجامعات الإبلاغ عن الهدايا والهبات والمنح المالية التي تتلقاها من جهات خارجية، إلا أنها تشير إلى لجوء الجامعات إلى حيل تصريف المال الخارجي لجهات ومؤسسات منفصلة عن الجامعة وتعمل باسمها أو لصالحها. وقد قدّرت الوزارة المنح الإسرائيلية التي تصل للجامعات الأميركية النخبوية، بحوالي 375 مليون دولار، موزعة على 100 جامعة ومعهد على امتداد عقدين من الزمان. غير أن هذا الرقم يجانب الدقة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الشراكات والاستثمارات التي لا تُعتبر هبات بحتة، إضافة إلى التمويل الهائل الذي تتلقاه الجامعات من شخصيات صهيونية وموالية للسياسة الإسرائيلية. 

يعتبر هذا التمويل وهذه المصادر، عماد عمل هذه الجامعات، وهو ما يفسر جزءاً من التدخل السافر في قراراتها ومسؤوليها. لذلك، ترى الاعتصامات الطلابية تطالب جامعاتها بتبني سياسات الشفافية المالية والإعلان عن مصادر التمويل والعلاقات التي تربط جامعاتهم بـ "إسرائيل" بصورة مباشرة أو غير مباشرة، للكشف عن حجم التأثير المتبادل بينهما.

اقرؤوا المزيد: الطوفان يقتصّ من ماكدونالدز وأخواتها: هل تستمر المقاطعة؟

نجحت الحركة الطلابية في بعض الجامعات، خاصة جامعات دافيس ولوس أنجلوس كاليفورنيا، بانتزاع قرارات من جامعاتهم بالالتزام بقائمة "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS)، بعدم الاستثمار في أي جهة ضالعة بحرب الإبادة في قطاع غزة. بينما نجحت الاعتصامات في جامعات أخرى، مثل جامعة نيويورك، بفتح تحقيق رسمي في الجامعة في  العلاقات التي تربطها بجامعات وأطراف إسرائيلية، في استجابة لمطالب المعتصمين.

ميزان لفضح الزيف

يجري الحراك الطلابي اليوم في الولايات المتحدة، في الجامعات الأميركية العريقة والنخبوية، والتي تستقطب اهتمام الممولين والرعاة ووسائل الإعلام، وتعدّ محط أنظار مراكز استطلاعات الرأي والمؤسسات المعنية بالتخطيط والسياسات. وتشكّل هذه الجامعات نواة مصغرة عن التوجه المهني والسياسي للشاب الأميركي، وهو ما قد يعطي مؤشراً حول شكل المستقبل السياسي الذي ينتظر الولايات المتحدة.

اقرؤوا المزيد: فلسطين في أميركا: جيل Z لم يضل الطريق

بهذا، فإن من أهمية الحراك الطلابي الحالي، توفيره عينة لمواقف وتوجهات الشباب الأميركي، الذي بدأ وفق استطلاعات الرأي يميل إلى العداء المطلق مع "إسرائيل"، في مخالفة للأجيال الأقدم التي كانت تدين بالصهيونية.

وبينما تتعرض جامعات النخبة لضغط من المؤسسة الصهيونية، بالتهديد بسحب التمويل وتهديد السلامة الشخصية لمسؤوليها، فإن الحراك ما زال يكشف هشاشة المنظومة التعليمية والادعاءات الشكلية بالتعددية والديمقراطية والحق بالتعبير، ما فتح أعين الحركة الطلابية على ضرورة تغيير سياسات هذه الجامعات. هكذا كانت فلسطين أيضاً ميزان فضح الزيف، وطريق الطلبة نحو أعلى الدرجات…