16 نوفمبر 2025

بلا عكازات.. حربٌ لا نستطيع الفرار منها

بلا عكازات.. حربٌ لا نستطيع الفرار منها

لم يسقط الصاروخ على الأرض المجاورة لمنزل الطفل عمر رجب (11 عاماً)، بل سقط في قلبه. كان يدور حول نفسه، لا يتوقف عن السؤال، يشير بيديه لأمه: "وين نزل؟ وين القصف؟".

كل ما كان يراه عمر هو لهيب الصاروخ، أمّا الصوت فلا يصله جيداً، وأحياناً لا يلتقطه. كان خوفه مضاعفاً، لأنه لا يعلم أين تقع الصواريخ من حوله، فعمر يعاني من ضعف شديد في السمع منذ الولادة. تقول والدته: "لم يحمل طفلي سماعته الطبية منذ بداية الحرب، لأنه لم يجد لها بطاريات". 

المشكلة لم تكن في إعاقة عمر فحسب، بل في غياب المعينات السمعية ولوازمها من بطاريات وصيانة لها خلال عامين من الحرب على قطاع غزة. فعندما عاد عمر إلى ركام منزله في حي الشجاعية صيف 2024، وجد بطارية لسماعته الطبية التي لم تسعفه إلا أسبوعا واحدا قبل أن تنفد من جديد، من دون وجود بديل لها.

حال عمر كحال الآلاف من ذوي الإعاقة في قطاع غزة، الذين ضاعف الاحتلال أعدادهم خلال الحرب بما يزيد على 32 ألف حالة إعاقة جديدة، 70% منهم من الأطفال والنساء. وبذلك ارتفعت نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة في القطاع بنحو 55%، أي ما يزيد على 90 ألف شخص، حسب بيان صادر عن قطاع التأهيل في شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية.

فما أحوال ذوي الإعاقة في قطاع غزة اليوم؟ وما الذي عايشوه خلال الحرب؟ وهل وضعت المؤسسات المعنية خططا لإعادة تأهيلهم وإعانتهم؟ وما الفرص والخيارات المتاحة أمام المستقبل القادم؟ 

من يلعب بالكرة في غزة؟ 

سجل قطاع غزة أكبر مجموعة لمبتوري الأطراف في التاريخ الحديث، فبحسب وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، هناك نحو 6 آلاف مصاب ببتر أرجلهم أو أحد أطرافهم خلال الحرب. وقد بلغت نسبة الأطفال من إجمالي عدد حالات البتر نحو 25%، بمعدل نحو 10 أطفال يومياً خلال عامي 2023-2024، حسب الأونروا.

أمام هذه الأرقام الهائلة، تقف آلاف العائلات قلقة على حياة أبنائها الذين أصابتهم الإعاقة، وعاجزة عن إعانتهم ورعايتهم، وما زالت تحاصرها الأسئلة: "كيف ننزح؟ كيف نحميهم؟ كيف نعطيهم حقهم الكامل في الرعاية؟ كيف نحافظ على حياتهم؟" لكنّ معظمهم لم يجدوا الإجابة.

ففي الحرب كان ذوو الإعاقة في قطاع غزة ضمن أهداف جيش الاحتلال، من خلال الاستهداف المباشر أولاً، إذ وثق مكتب الإعلام الحكومي استشهاد نحو 200 فلسطيني من ذوي الإعاقة منذ بدء الحرب. 

إضافة إلى محاصرة ذوي الإعاقة وعائلاتهم، وتجويعهم، وحرمانهم من العلاج والغذاء، وليس أخيراً استهداف المراكز والمؤسسات التي تُعنى بذوي الإعاقة، بقصفها وتدمير مخازن الطوارئ فيها.

رجل فلسطيني نازح من ذوي الإعاقة يتلقى المساعدة في مخيم خيام مخصص للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، في دير البلح وسط قطاع غزة 8 آب/ أغسطس 2024. (المصدر: رويترز/حاتم خالد)
رجل فلسطيني نازح من ذوي الإعاقة يتلقى المساعدة في مخيم خيام مخصص للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، في دير البلح وسط قطاع غزة 8 آب/ أغسطس 2024. (المصدر: رويترز/حاتم خالد)

يروي خالد المغاري (66 عاماً) أنه اضطر إلى النزوح عبر شارع الرشيد الساحلي في نيسان/ أبريل 2025، وذلك بعد تصعيد الاحتلال قصف الأبراج والعمارات السكنية في مدينة غزة، التي كانت تؤوي أعداداً من ذوي الإعاقة وعائلاتهم. 

اقرؤوا المزيد: رسالة إلى بيتي العزيز في غزة 

كان خالد يجرُّ قدميه المثقلتين بالإعاقة، ويشد جسده بعكازٍ قديم، متوجهاً نحو جنوب وادي غزة بعد تفجير العربات التي وضعها جيش الاحتلال في مخيم الشاطئ غرب المدينة، محاولاً النجاة قبل أن يصيبه رصاص المدفعية، يتعثر بحجارة المنازل المقصوفة على الطريق، لكنه يُكمل، ليقطع أكثر من ستة كيلومترات.  

يقول خالد: "طريق النزوح وعرةٌ جداً، أنا متعب، لكنني خائف. مجبرٌ على النزوح على عكازين، فأنا لا أمتلك كرسياً متحركاً، ولا توجد مواصلات على الطريق". 

اقرؤوا المزيد: هكذا نجونا من مجازر حي الزيتون

ورغم ذلك كله، تمكن خالد من قطع ستة كيلومترات وصولاً إلى جنوب قطاع غزة، ونجا من الموت، ولكن حرباً أخرى بدأ خوضها بحثاً عن غذاء ودواء يقِيانه الجوع والمرض. يتحدث خجلاً أنه لا يستطيع الوقوف في طوابير المساعدات الإنسانية والتدافع للحصول على طرد غذائي. 

لم تراعِ المؤسسات المسؤولة عن توزيع المساعدات وجود فئات هشة كالأشخاص ذوي الإعاقة الذين منعتهم ظروفهم من الحصول على المساعدات بشكل لائق. ذلك ما يؤكده مدير الائتلاف من أجل النزاهة والشفافية (أمان) في قطاع غزة، وائل بعلوشة، أن الحصول على المساعدات الشحيحة كان حكراً على الفئات التي تمتلك القوة والمال، أو القدرة على الوقوف والتدافع وانتظار المساعدات على مفترقات الطرق.

على مقصلة الإعدام 

في كانون الثاني/ يناير 2023، عثر الأهالي على جثمان الشاب باسم أبو حليب الذي كان يعاني من إعاقة ذهنية، في منطقة القرارة شرق خانيونس، وقد تعرض لعدة طلقات نار متفرقة في جسده، ما يُشير إلى إعدامه على يد قوات الاحتلال من مسافة قريبة. في حين تؤكد عائلة جرير أن جرافات الاحتلال هدمت منزلها في منطقة أبو العجين شمال القرارة، على نجلها حسن جرير (64 عاما)، الذي كان يعاني من إعاقة ذهنية وفقدان النطق. 

تؤكد هاتان الحالتان، وغيرهما من الشهادات، أن قوات الاحتلال تعمدت إعدام وقتل العشرات من ذوي الإعاقة خلال عمليات الاجتياح البري، أو خلال عبور الناس من "الممرات الآمنة"، وقد سُجل العشرات منهم أيضاً في عداد المفقودين. 

الشهيد الأسير عز الدين البنا
الشهيد الأسير عز الدين البنا

كما لم يسلم ذوو الإعاقة من عمليات الاعتقال والتعذيب في سجون الاحتلال، ففي أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر اعتقل جيش الاحتلال عزّ الدين البنّا (40 عاماً) الذي كان يعاني من شلل نصفي من الخصر إلى الأسفل، بعد محاصرته وعائلته في مأوى بمدينة غزة. ورغم إعاقة عز الدين، فقد تعرض للضرب المبرح والسحل على الأرض من قبل جنود الاحتلال، حسب شهادة ابن عمه محمد البنا، الذي اعتُقل برفقته. 

اقرؤوا المزيد: صراخي لم يسمعه أحد.. عندما أغلقوا عليّ نعش السجن

وفي 24 شباط/ فبراير 2024، أعلنت هيئة شؤون الأسرى عن استشهاد الأسير عز الدين البنا في سجون الاحتلال بعد تفاقم وضعه الصحي ووصوله إلى مرحلة خطيرة جداً نتيجة تعرضه للتعذيب في سجن الرملة، وذلك بحسب شهادات الأسرى. في حين لم تعلن إدارة سجون الاحتلال بعد عن استشهاده. 

طابور الحاجة

وسط الظروف المأساوية التي أنتجتها الحرب، تشكل أبسط الاحتياجات اليومية لذوي الإعاقة معاناة لا حدود لها، بما في ذلك استخدام الحمامات، الذي كان يشكل لهم حرجاً كبيراً، كما تقول نهيل الشرافي (34 عاماً)، النازحة من منطقة الكرامة شمال غربي غزة إلى خان يونس.

تعاني نهيل من إعاقة حركية، وهذا ما يجعل استخدام الحمام في مخيمات النزوح "أصعب شيء واجهته" على مدار عامين وفق قولها، "فأنا أريد أن أسند يدي للوقوف، للجلوس. أريد حمّاماً واسعاً يلائم إعاقتي، يكفيني مع كرسيِّي المتحرّك (...) لا شيء في هذه الحرب يراعي وضعي، لا أحد يكترث".

اقرؤوا المزيد: المسموح والممنوع.. معابر تُحاصر غزّة

وكثيراً ما شعرت نهيل بالحرج من فئة لم تكن تأبه بأن لديها إعاقة حركية تمنعها من إتمام حاجتها بسرعة، ولذلك كانت تُضطر إلى الاستعجال، ومسح دموعها، والخروج من الحمّام قبل أن يبدأ الطرْق على الباب، حتى أنها باتت تضطر إلى إدخال والدتها معها لتساعدها على المشي والتعكز داخل الحمام. تقول نهيل: "أبتلع القهر في جوفي يومياً، تجربة النزوح قاسية بكل تفاصيلها، كل حركة أحتاج فيها إلى المساعدة".

رجل فلسطيني نازح من ذوي الإعاقة يتلقى المساعدة في مخيم خيام مخصص للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، في دير البلح وسط قطاع غزة 8 آب/ أغسطس 2024. (المصدر: رويترز/حاتم خالد)

لم يعد تتوفر في قطاع غزة أدوات المساعدة والمعينات لذوي الإعاقة، التي تلِفَ معظمها باستهداف مخازن الطوارئ للمؤسسات والمراكز، حسبما يشير ظريف الغرّة، رئيس شبكة الأجسام الممثلة للإعاقة في غزة. بينما جيش الاحتلال يمنع اليوم إدخال معدات مثل الكراسي المتحركة والمشايات والعكازات والدعامات والأطراف الصناعية، والتي يدعي أنها "أدوات مزدوجة الاستخدام".

اقرؤوا المزيد: "المواد ثنائية الاستخدام".. كذبة لخنق غزّة

كما خسر 83% من ذوي الإعاقة في قطاع غزة المعدات التي تساعدهم، ولم يتمكن معظمهم من تحمّل تكاليف معدات بديلة على غرار العربات التي تجرها الحمير، وذلك حسب "اللجنة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة" التابعة للأمم المتحدة. في حين لا تتضمن المساعدات الإنسانية التي يتم إدخالها إلى قطاع غزة ما يراعي حاجات ذوي الإعاقات من ضروريات وأساسيات تعينهم على العيش وتحسن من ظروفهم الحياتية، ما يجعلهم يعانون من انقطاعات كبيرة في الأدوية والأدوات، والغذاء المناسب والمياه النظيفة. 

توقّف إطلاق النار في غزة، لكن ناراً مشتعلة في قلوب ذوي الإعاقة لم تخمد بعد. فمن نجا منهم بحاجةٍ إلى أبسط مقومات الرعاية لذوي الإعاقة، وما يطلبونه ليس بالكثير: بطارياتٌ تعينهم على السمع، أو دعمٌ وتأهيل نفسي، أو سفرٌ من أجل العلاج وتركيب أطراف مبتورة. 



19 أبريل 2021
البكاء على أطلال الحارة

حتّى تَصِفَ المكانَ الضيّقَ الذي نشأتَ فيه، عليك أن تستخدم كلمة "الحارة"، فهي أصدقُ تعبيراً من كلمتي الحيّ أو المنطقة.…