31 ديسمبر 2020

"حفلة المقام".. كيف توارى المسؤول؟

"حفلة المقام".. كيف توارى المسؤول؟

اعتقلت السّلطةُ الفلسطينيّة يوم الأحد الماضي سما عبد الهادي عازفة الموسيقى الإلكترونيّة، ثمّ مدّدت اعتقالَها لـ15 يوماً على ذمة التحقيق. التهمة: "تدنيس مكان عبادة"، و"مخالفة تعليمات الطوارئ الخاصّة بكورونا". السّلطة ذاتها كانت قد أعطت سما وفرقتها الموسيقيّة الترخيص اللازم لتنفيذ هذه التهمة في مقام ومسجد النبي موسى. 

بدأ كل شيء عندما مرّ شبان فلسطينيون من مدينة القدس من المكان الدينيّ والمُقدّس ليجدوا أبواباً مغلقة بينما تعلو من داخله أصوات الحفلة، فبادروا بالدخول إليه وإيقافها وإخراج من شارك فيها. لم يخطر ببال السُّلطة أنّ عاصفةً ستثار بعد ذلك، ولكي تستدرك الأمر قدّمَتْ الشّابةَ قُرباناً للناس الغاضبين، كما عملت على ركوبَ الموجة. 

منذ انكشاف الحدث، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعيّ بمحاولاتٍ كثيفةٍ لحرف المسؤولية الأساسيّة عن السّلطة الفلسطينيّة باعتبارها من سمح بهذا الحدث، بعضها كان تصرفاً غير محسوب من الناس، وبعضها كان مقصوداً وموّجهاً. وترافق ذلك مع تأخر السّلطة في الكشف عن المسؤولين، أو كما نعلم جميعاً عدم جدّيتها في ذلك. 

جرت محاولاتُ الحرف تلك من خلال التركيز على الشّابة عبد الهادي وفرقتها، والنبش في صورٍ لحفلاتٍ قديمةٍ شاركت فيها وإعادة نشرها. فتحت هذه الأجواءُ المجالَ لحالةٍ من الخلط والتحريض، جاء بعضها مثلاً على شكل تعليقات تَصِفُ منظمي الحفلة بأنّهم "عبدة شيطان". ومن المفارقة الساخرة، أنّ عضو اللجنة المركزيّة في حركة "فتح" صبري صيدم ساهم في تغذية الاحتقان الشعبيّ الذي أخذ هذه الصّورة من الخلط وحاول ركوبه، فخطب بالناس صارخاً في المقام: "لا ثبات إلا للمسلم في هذا المكان".

السّلطة تواري سوءتها بسما

في وسط كلّ هذا التجييش، يغيب الحديث عن المسؤول الأول عن الحدث الذي استفزّ الناس، فيختفي من ذهنهم المسؤولُ ذو ربطة العنق الذي يجلس في مكتبه ويستهتر بأماكنهم التاريخيّة والمُقدّسة (كما استهتر سابقاً بمقام يوسف في نابلس مثلاً)، والأسوأ أنّه يتنصل كذلك من تحمل المسؤولية حين "تقع الفاس بالراس"، ويبحث عمن يرميها كاملةً عليه. 

أما وزارة السّياحة، فلم تتردد وزيرتُها بالكذب والقول إنّها غير مسؤولة عن ذلك، وألقت المسؤوليةَ على وزارة الأوقاف، فيما تُـثـبِتُ المراسلات المنشورة أنّ وزارتها كانت على علمٍ بحيثية الحفلة وطبيعتها وأهدافها. في وسط هذا يُطرح سؤال - لم تتبين إجابته بشكل كامل بعد - عن المبادر الفعلي لطلب تنظيم هذه الحفلات، فقد صرح رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، عمار الدويك، لموقع BBC أنّ سما أخبرته من مكان احتجازها أنّ وزارة السّياحة هي من اقترح عليها التصوير في مقام النبي موسى.

إنّ اعتقال سما جريمةٌ لا يمكن التلكؤ في إدانتها، ومن يبرر ذلك الاعتقال ويدافع عنه سيجد نفسَه كبشَ فداءٍ قادم لكوارث مسؤولي السُّلطة، وتاريخنا القريب يحفل بكثير من الشواهد عن ذلك. لا تتحلى هذه النخبة التي تحكمنا بأي حسٍّ للمسؤولية أو الأخلاق، ونعلمُ أنّه لم يسبق أن نَتَجَ عن أيّ لجنةِ تحقيق أيّةُ إدانة لأي مسؤول في هذا البلد. 

بل إن الأخبار طالعتنا يوم أمس أنّ مدير دائرة المتاحف والمقتنيات الأثريّة في وزارة السياحة، والذي يظهر أنّه من مثّل وزارة السّياحة في إصدار الترخيص، استُدعي "للإدلاء بإفادته" أمام لجنة التحقيق، لكنه لم يحضر! وليس من المُستبعد أنّ الأمور قد تتجه في النهاية إلى البحث عن كبش فداء آخر غير سما، ربما موظف ما في وزارة السياحة أو غيرها!

مع ذلك لا يُمكن أن تُعفى الفرقة نفسها، أو من يقف وراء تنظيم هذه الحفلة (سواء كانت لأغراض التصوير أو الترويج أو غيره)، من المسؤولية المجتمعيّة، فحتى لو منحتهم وزارةٌ لا تحترم قيم الناس وثقافتهم رخصةً لإقامة حفلهم، كان عليهم أن يتحلوا بسلامة التقدير والاعتبار للمجتمع الذي يتحركون وسطه، أو على الأقل الانتباه البديهيّ لطبيعة المكان الذي هم بصدده واحترام قدسيته وخصوصيته.

في كلّ مرةٍ "يتفاجئون"..

كان يمكن للمقال أن ينتهي هنا. 

لكن متابع الشبكة الواسعة من التعليقات ينتبه أيضاً أنَّ لدينا نخبة اجتماعيّة يبدو أنها تفاجأت بمجتمعها، وأخذت تمارس نوعاً من الاستعلاء الثقافيّ والطبقيّ عليه. ترى عدة وجوه في هذه النخبة بأن أي حساسية دينيّة (وهي متوقعة وطبيعية عند النّاس) ما هي إلا نوعٌ من "الدعشنة"، فتمارس تلك النخبة إرهابَها الثقافيّ عن طريق دمغ كلّ من لديه عقيدة يحترمها ويفكر بموجبها بوصمة التعصب والتخلف والرجعيّة.

تتحرك هذه النخبة في كثيرٍ من الأحيان وتُصدِرُ مواقفَها وكأنّها مشروع تنويرٍ ضدّ مشروع ظلام. وحتى تصبح علاقتُها بمجتمعها صحيّةً، وتستطيع أن تُقدّم ما يفيد مجتمعها، عليها أن تستفيق من وهم مشروع الكهرباء الذي يسكنها، وأن تتخلص من أجواء "الليبرالي طريد المنافي"، وأن لا يجري تفاعلها ضدّ هذا المجتمع بل داخله ومعه.

تبعاً للتصور الذي يحكم تلك النخبة، أشارت رسالةُ التضامن التي تُطالب بالإفراج عن سما (ولا خلاف على ضرورة الإفراج عنها) إلى هوية الموسيقى بوصفها موضوع الخلاف. تقول الرسالة: "وقد تم تمديد اعتقالها... والسبب هو لأن موسيقى التكنو ليست من التراث الفلسطينيّ". ما جاء في هذه الرسالة اختزالٌ وتسطيحٌ بلا شك، وتشويه لأصل الحدث الذي أثار مشاعر الناس بالفعل، فكما هو معروف ما أثار النّاس هو إقامة هذا النوع المخصوص من الموسيقى في ذلك المكان المخصوص والمقدّس بالنسبة لهم. 

ماذا بعد؟

بالعودة إلى مسجد ومقام النبي موسى، فقد وقع هذا المعلم الدينيّ والأثريّ الهام الذي يزيد عمره عن 800 عام، بعد اتفاقية أوسلو ضمن مناطق "ج"، ولكنه كان تحت إدارة وصلاحيات السّلطة الفلسطينيّة.

ولقد ذكّرنا الحدثُ الأخير بالإهمال المتواصل الذي عانى منه المقام على مدار الأعوام الماضية. لم تُعين وزارة الأوقاف مؤذناً للمسجد، ولا إماماً، واكتفت على مدار تلك السنوات بخادمٍ يُشرف على تنظيف الغرفة المسقوفة والمفروشة المحيطة بالضريح هناك، فيما ظلّت بقية مرافق المقام (وهي كلّها جزء منه ومن المسجد) مُهملة وغير مستغلة.1إلا في فترة استخدمت فيها بعض الغرف من قبل مؤسسة المقدسي لعلاج المدمنين على المخدرات. واكتفت محافظة القدس بتعيين حارسين اثنين على أبواب المقام براتب لا يكاد يتجاوز 700 شيكل شهريّاً.

وتحمل ذاكرة من اعتادوا زيارة المكان صورةً عن هذا الإهمال، ففي وسط هذا الغياب الفلسطينيّ، أصبح المكان مقصداً لكثير من المتجولين الإسرائيليين الذين يدخل بعضهم إلى المقام دون احترام لقدسيته أو حرمته. بل إنّ بعضهم خطّ على إحدى جدران المقام مرةً عبارات باللغة العبريّة، وانتشرت في بعض زواياه النفايات.

نُفِض غبار هذا الإهمال مؤخراً بأموال الاتحاد الأوروبي، لكنها أموالٌ فَرَضَت شكلاً مُحدداً مستمداً من نماذج عالميّة لإحياء المكان وتعزيز حضوره. وفق الاتفاقية بين الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي - UNDP، ووزارتي السياحة والأوقاف، ومحافظة أريحا، تُحال مسؤولية تشغيل مرافق المقام إلى شركة فلسطينية خاصّة. يهدف هذا التعاقد- بحسب القائمين إليه – إلى تحويل المقام إلى وجهة سياحيّة مُميّزة تستقطب أكثر من 120 ألف زائر سنويّاً، ويشمل تشغيل 60 غرفة فندقيّة فيه، و14 محلاً مخصصاً للاستغلال التجاري وبيع الأعمال اليدوية الفلسطينية وغيرها من المنتجات السياحيّة.

تُحيلنا هذه المسألة إلى مستوى آخر من الإهمال وغياب الإرادة عن حفظ موروثنا الأثري والشعبي والتاريخيّ والدينيّ. لا خلاف على ضرورة تطوير المقام وتعزيزه والترويج لزيارته، لكن ذلك لا يتم إلا عبر إشراك المجتمع المحلي الأكبر والمجتمع المحليّ الخاص المحيط بالمقام، فلقد عانت المجموعات البدوية المحيطة به من إقصاء في تحديد معالم وشكل هذا النشاط التجاري والفندقي الذي سيجري في المقام. كما أن الاعتماد على نموذج جاهز ومستورد لتشغيل المكان الأثري والديني لم يأخذ بعين الاعتبار أي حساسية مجتمعية في تحويله إلى فندق، وإحالة إدارة ذلك إلى شركة خاصة وما يرتبط بذلك من تبعات.

في الختام، جاءت حفلة التكنو لتُنبهّنا إلى مشهدٍ أوسع تُفرط فيه السّلطة الفلسطينية وتستهر بواحدة من مظاهر وجودنا وتاريخنا الاجتماعيّ والسياسيّ على هذه الأرض، المقامات والأماكن الأثريّة والمُقدسات المجتمعية والدينيّة. وهي حالة تُنبهنا بالضرورة إلى دور النّاس في حماية هذه الأماكن على اختلافها وأهمية الوقوف أمام وجوه مختلفة لإهمالها وتضييعها.