16 نوفمبر 2021

أفكار أوليّة: لماذا يقتل بعضُنا البعض؟

أفكار أوليّة: لماذا يقتل بعضُنا البعض؟

يفتح الواحدُ منا عينيه مفزوعاً مشدوهاً أمام سيل الفيديوهات والصور المؤلمة التي توثّق أحداث العنف المجتمعيّ المتصاعد في مختلف مناطق الضفّة الغربيّة. إطلاقٌ مكثّف للنار، واستعراضٌ لأسلحة متطورة ومتنوعة بأيدي شباب العشائر، وإحراقٌ ومحاولات هدم للبيوت والمحلات، وغير ذلك. 

تعزز الأرقام تلك المشاهد، فبحسب جهاز الإحصاء، وصلت معدلات جرائم القتل والشروع بالقتل في الضفة والقطاع العام الماضي إلى 10.5 جريمة لكل 100 ألف شخص (المعدل العالمي 6.1). ورغم صعوبة تقديم تحليل متكامل للظاهرة، يمكننا استقراء عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية تتداخل معها وتؤثر فيها.

بداية، لا شك أن الاحتلال هو الراعي الأساسي للعنف من خلال تثبيته حقائق مادية تحفز الاحتقان الداخلي، كما أنه المستفيد الأول منه إذ يحول طاقات الفلسطينيين عن مواجهته، ويؤيد ذلك تغاضي أجهزته الأمنية عن سلاح الجرائم والذي تتابع انتشاره في الضفة، وربما تسهله كما تفعل في أراضي الـ48. 

وعلى المستوى السياسيّ، يعاني الفلسطينيون من غياب المشروع الوطني الذي يقودهم نحو التحرير، فلا إطار جامع ينظّم طاقاتهم ويستثمرها ويوظّفها في مشروع سياسيّ يُحقق كرامتهم وحريتهم. ويمكن ملاحظة انخفاض معدلات الجرائم والمشاجرات في أوقات الهبّات والمواجهة.

كما أنّ السياسات الاقتصادية التي دفعت باتجاهها السلطة الفلسطينية ساهمت في إعادة إنتاج مجتمع ضعفت فيه شبكات التضامن الاجتماعي بين الناس، واستُهدِفت فيه مقومات الصمود الذاتية، بينما ارتفعت معدلات الإقراض والاستهلاك. وهذا الجو الذي تتراجع فيه أحوال الناس يكون مناخاً مناسباً لازدياد الجرائم.

بالتوازي مع ذلك، عزّزت السلطة البنى الاجتماعية التقليدية لتكون أداتها في ضبط الناس، فصدّرت وجوه العشائر وربطتهم بشبكة مصالح. وجد الناس أنفسهم أمام نفوذ عشائري يطغى في بعض القضايا المجتمعية أو في بعض المناطق، ويغيب أمام تحديات أكبر، وهو نفوذ لا يساهم في حماية الضعفاء منهم.

أما الأجهزة الأمنية فتقف متفرجة حتى في مناطق "أ" التي يفترض أنها المسؤولة عنها أمنياً. والأسوأ من ذلك، أنها تغوّلت فيما تبقى من سلطة قضائية، فلا وزن لقرارات المحاكم في خلافات الناس ولا اعتبار لأي إصلاحات قانونية مدعاة تسارع السلطة لتقديمها للحصول على شهادة اعتمادها من مموليها.

أمام تشابك هذه العوامل بمختلف تفاصيلها؛ احتلال يغذي الجريمة، واقع سياسي متردٍ، مجتمع ضعيف اقتصادياً، وأجهزة أمنية لا تنقصها الأموال لكنها لا تحمي، وقضاء لا يسترد حقّاً، وعشائر مرتبطة بالمصالح، تتولد حلقات العنف وتتصاعد وتتوسع، وفي المقابل يلجأ الناس لاسترداد حقوقهم بـ"أسلحتهم".

أفقدنا مشروع التسوية ودولة الـ67 التي وعدتنا بها السلطة مقومات الانتماء لمشروع تحرري وطني جامع، ومن ثم بسياساتها المتوالية أفقدت الناس أفق العيش تحت سقفها أو الثقة بأجهزتها الأمنية والقضائية. هنا أصبح ضمان "الحق" مرتبطاً بالحظوة التي تبنيها حول نفسك وبالسلاح الذي تملكه عائلتك. وفيما "ماتت" جميع وظائف السلطة التي قالت إنها جاءت لتقوم بها، بقيت وظيفتها الوحيدة التي لم تفقدها حتى الآن: الاستمرار في تقديم المعلومات الأمنية التي تخدم وتحمي "إسرائيل".