6 يوليو 2020

عند السلطة: أنا مريض، إذاً أنا بحاجة لتحويلةٍ طبيَّة

عند السلطة: أنا مريض، إذاً أنا بحاجة لتحويلةٍ طبيَّة

في مارس/آذار 2019 أعلنت وزارة الصحّة الفلسطينيّة عن وقف التحويلات الطبيّة إلى المستشفيات الإسرائيليّة، احتجاجاً على اقتطاع "إسرائيل" من أموال المقاصة السنويّة، فيما وصفه رئيس الحكومة محمد اشتية لاحقاً "بالانفكاك" عن الجهاز الطبّي الإسرائيليّ.

في المقابل، لم تطرح السّلطةُ رؤيةً أو خطةً واضحةً وحقيقيةً لتطوير المستشفيات الفلسطينيّة وتوفير المعدّات والمؤهلات اللازمة لسدّ الحاجات الطبيّة والاستثمار بالمجال الصحيّ، بل قرّرت توجيه التحويلات الجديدة إلى الأردن ومصر وتركيّا بدلاً من "إسرائيل"، إلا في حالاتٍ استثنائيّة. بذلك لم تتوقف تماماً التحويلات الطبيّة إلى المستشفيات الإسرائيليّة، بل انخفضت من 17% إلى 5%، وزادت مُقابلها نسب التحويلات إلى المستشفيات الخارجيّة الأخرى.

بعد ذلك بحوالي عام، أُغلقت الجسور والمعابر مع انتشار وباء "كورونا"، وأصبح وصول أي مريض للعلاج خارج الضفة أو غزّة أمراً صعباً. ثمّ جاء الإعلان عن وقف التنسيق الأمنيّ كردٍّ على مخططات الضمّ وصفقة القرن. إلا أنّ ما حصل فعلاً، هو وقف "التنسيق المدنيّ"، فتوقف مندوبو وزارة الصحّة عن استصدار التحويلات الطبيّة اللازمة لمئات المرضى ممن ينتظرون الحصول على العلاج في المستشفيات الإسرائيليّة.

أُغلِقت المعابر، و"أُوقف التنسيق"، فيما تركتنا هذه القرارات نقف مرة أخرى أمام واقع هزيل لجهاز الصحة الفلسطينيّ. يحاول هذا المقال أن يرسم بعضاً من ملامح هذا الجهاز المعتمد بشكلٍ واسعٍ على التحويلات الطبيّة، ويوضّح مدى ارتهاننا للعلاج خارج مستشفياتنا، وعلاقة هذا بالمبدأ المركزيّ في عمل السلطة الفلسطينيّة: ضخ الميزانيّات للأمن، وإهمال حياة الفلسطينيّ. 

تداعيات الحاجة المُلحّة

تَقسم وزارةُ الصحَّة التحويلات الطبيَّة إلى قسميْن: تحويلات داخليّة، تلك التي تُحوّل المريضَ للعلاج في مُستشفيات فلسطينيّة غير حكوميّة في قطاع غزة والضفّة الغربيّة والقدس "الشرقيّة". في عام 2018، بلغ هذا النوع من التحويلات النسبّة الأعلى، والتي تقدّر بـ 81.2%. القسم الثاني هو التحويلات الخارجيّة، أي التحويل إلى المُستشفيات غير الفلسطينيَّة، بما فيها المستشفيات الإسرائيليَّة.1تعتمد المادة في أرقامها على إحصائيات وزارة الصحّة، ما لم يرد خلاف ذلك. 

يُشترط في الحصول على تحويلة طبيّة أن يملك المريض أولاً تأمين وزارة الصحّة، أيّاً كان نوعه، وهو ما لا يتوفّر لدى أغلبيَّة الأُسر.2 أنواع التأمين: تأمين إجباري، موظفو القطاع الحكومي، تأمين طوعي، تأمين العاملين داخل الخط الأخضر، تأمين العقود، تأمين التنمية الاجتماعيّة، تأمين الأسرى والمحرّرين، التأمين المجانيّ. بناءً على التأمين، يتسنّى للمريض فرصة الحصول على تحويلة، وإمّا تكون هذه التحويلة مدفوعة كاملة من الوزارة، في حالة الموظّف الحكوميِّ، وإمّا أنْ يُساهم المريض بنسبة تصل إلى 30% من تكلفة فاتورة العلاج، حسب نوع التأمين. في هذه الحالة، فإنّ المريض قد استخدم التأمين لمرضٍ لا يتوفر علاجه داخل المُستشفى الحكوميّ.

لا يكفي أن يملك المريض تأميناً صحّيّاً ليحصل على تحويلةٍ طبيَّة، فيشترط أن تصدرَ التحويلة عن مستشفى حكوميّ- حصراً- بعد تقييم الحالة والموافقة عليها، حتى لو كان المريض في ذلك الوقت على سريرِ مستشفى خاصّ. لكن تُستثنى من هذا الشرط الحالات الطارئة والاستثنائيّة بعد تقييمها، وفقاً لهيثم هدري، مدير التحويلات الطبيَّة في وزارة الصحَّة. 

علاوةً على ذلك، تستلزم التحويلات المرور بإجراءات بيروقراطيّة طويلة وشاقة، ممزوجة بالمُماطلة والتأخير، وأحياناً بالرفض أو التجاهل. ويزيد "الطين بلّة" في حالات التحويل الطبي إلى المشافي الإسرائيليّة، لأنّ المريض سيكون وقتها بحاجة إلى موافقة أمنيّة إسرائيليّة لإعطائه تصريحاً طبيّاً يسمح له باجتياز الحواجز.

اقرأ/ي المزيد: "التصاريح.. أداة "إسرائيل" للعقاب والثواب".

تلجأ الوزارة إلى نظام التحويل لخلل في النظام الصحّي لدينا، يتمثّل في نقصٍ في المعدّات وفي الخبرة الطبيّة والإمكانات وغياب العلاج. إنّ الأمراض العشر الأكثر حصولاً على تحويلات في 2018 هي في معظمها أمراض علاجُها من أساسيّات النظام الصحّيّ، كما أنّها نفسها تقريباً تتجدّد وتتكرّر كلّ سنة. 

في رسالة ماجستير أجرتها الباحثة منيرة حمد على عينة عشوائية من 110 أشخاص، كانوا قد استفادوا من التحويلات الخارجيّة في قطاع غزة. سألتهم حمد عن السبب الذي يعتقدونه لإجراء التحويلة لهم، فكانت الإجابات: 57.3% لعدم توفّر العلاج بالمستشفيات الفلسطينيّة، و17.3% لعدم كفاءة الأطبّاء، و15.5% لقصور في الأجهزة والمعدّات، و7.3% لضعفٍ في مستوى الخدمات الصحيّة. 3حمد، منيرة. 2012. أثر تكلفة العلاج بالخارج على تمويل موازنة وزارة الصحّة الفلسطينيّة. غزّة: جامعة الأزهر.

تعكس النسب أعلاه أمريْن مهمّيْن: أولاً، فشل الحكومة في توفير نظام صحّي، يؤمّن حاجة الناس لعلاج فعّال، وثانياً، انعدام الثقّة لدى الناس بالطبّ الذي عيّنت الحكومة نفسها راعية له. هذا بالتحديد ما خلق الحاجة للتحويلات الطبيّة، فهي من حقّ الناس في ظلّ تدني مُستوى الطبّ من جهة، ومن جهة أخرى هي تعبيرٌ عن مأزق السلطة الفلسطينيّة في هذا القطاع.

إذاً، يفتقر قطاعنا الصحّي، الحكوميّ تحديداً، إلى مُقومات العلاج الأساسيّة؛ فلا موارد بشريّة، يوجد فقط 1.8 طبيب مختص لكلّ 10,000 إنسان، ولا أجهزة للفحص مُتوفّرة بشكل كافٍ. ونظراً لتكلفة مُستشفياتنا الخاصّة، لا يمكن إلّا للغنيّ أن يتلقّى علاجاً سليماً نوعاً ما. يخلق هذا الوضع حاجة مُلحّة للناس، قبلَ الوزارة، لوجود نظام التحويلات الخارجيّة. 

فجوة بين الحكومة والناس

تستثمر الحكومة في الأمن لا في الناس، وإلا فماذا يعني أن تكون الحصّة المُخصّصة للأمن من موازنة السلطة الفلسطينية لعام 2018- 21%، بينما بلغت الحصّة المُخصّصة للصحة 10.8% فقط. من هذه النسبة الصغيرة، تقتطع الصحّة جزءاً كبيراً للتحويلات الطبيّة، وهو ما يُساهم بجزء كبير في إبقاء الوزارة عاجزةً عن تطوير خدماتها. 

في عام 2018، أكلت التحويلات 25% من موازنة لم تتجاوز المليار و788 ألف شيكل. في ذلك العام بلغت التحويلات الطبيّة ما يُقارب 110 آلاف تحويلة، بتكلفة تُقارب 725 مليون شيكل. وهو أمرٌ لا يتوقّف عن التفاقم، فهذا عدد يزيد عن عدد التحويلات في 2017 بنسبة 15.7%، وعن 2016 بنسبة 19.5%. 

لا تُبقي موازنة الصحّة على أي نسبة مُخصّصة للتطوير، أو للسعي نحو اعتماد القطاع الصحّي الحكوميّ على نفسه. تستهلك الرواتب ما نسبته 48% من الميزانيّة، فلا يتبقّى إلا 18% تذهب للأدويّة والمستهلكات الطبيّة، و9% تذهب لنفقات تشغيليّة أخرى.

إنّ سوء التوزيع في الميزانيّة، وإثقالها بالرواتب والتحويلات الخارجيّة، وسوء الإدارة في ضبط ومراقبة القطاع الصحّي- تحديداً نظام التحويلات فيه- إضافةً إلى القصص المتعلقة بالفساد التي لا تنقطع عن مسامعنا، كلّ ذلك هو ما يجعل الفجوة في ميزانيّة وزارة الصحّة، بين احتياجها الفعليّ وبين ما هو مخصّص ماليّاً لها للفترة بين 2017-2022، تصل إلى 260 مليون شيكل. 

الأولويّة في التحويلات

بحسب هيثم هدري، مدير التحويلات الطبيّة في الوزارة، فإنّ الأولويّة في التحويل تكون من مُستشفى حكوميّ إلى مُستشفى حكوميّ آخر. إن لم يكن العلاج مُتوافراً لدى تلك الحكوميَّة، فإنّ مستشفيات القدس الأهليّة هي الأوْلى في التحويل، وذلك "لدعم صمود المقدسيّين"، على حدّ تعبير الوزارة. حاز التحويل لمستشفيات القدس في عام 2018 على النسبة الأعلى من التحويلات الداخليّة بـ 39.4%. تكون الأولويّة في التحويلات تباعاً للمستشفيّات الفلسطينيّة غير الحكوميّة بشكل عام، والمستشفيّات الأهليّة بشكل خاص، ثمّ مستشفيّات الأردن ومصر أو المُستشفيات الخارجيّة عامةً، وفي النهاية المستشفيات الإسرائيليَّة.

وصل عدد التحويلات إلى المشافي الإسرائيليّة لعام 2018 إلى 18,348 تحويلة، بتكلفة تقارب الـ181 مليون شيكلاً، ما يعني 25% من إجمالي نفقات شراء الخدمة. هذه النسبة العالية بالرغم من اكتشاف السلطة لسرقات كبيرة كانت تمارسها "إسرائيل" حين خصم فواتير التحويلات الطبيّة من المقاصة، فالسلطة منذ عام 1994 وحتّى بداية عام 2013 لم تكن تطالب بأية فواتير من "إسرائيل" توضّح تفاصيل شراء الخدمة الطبيّة.

في إحدى تقاريرها تقول وزارة الصحّة: "[خُفِّضت] الفاتورة السنويّة للمشافي الإسرائيليّة بنسبة 30% في العام 2015 مقارنة بالعام 2014، إضافة إلى تخفيض عدد المرضى المحوّلين إلى المستشفيّات الإسرائيليّة بمقدار 1.4% (من 4,439 إلى 4,051 مريضاً)". غير أنّها تُتابع: "مع العلم أنّ مجمل عدد المرضى المحوّلين للعلاج من وزارة الصحّة، إلى كل المشافي الوطنيّة والخارجيّة في عام 2015، قد ارتفع مقارنة مع عام 2014 من 41,603 مرضى إلى 43,802 مريضاً وبنسبة زيادة بلغت 5.3%".

تضعنا هذه الأرقام مرة أخرى أمام واقعٍ تفتخر فيه السّلطة بتخفيض نسبة التحويلات إلى المستشفيات الإسرائيلية، ولكنها في الوقت ذاته رفعت عدد التحويلات خارج مستشفياتها. الاستنتاج هنا واضح: عجز في وزارة الصحة الفلسطينيّة، وإمكانيات ضعيفة تجعلها تعتمد على التحويل، بغض النظر عن وجهة ذلك التحويل.

عملت الوزارة أيضاً على تخفيض التحويلات الطبيّة خارج الأراضي الفلسطينيّة، فمثلاً؛ أُرسل في 2018 للأردن 34 تحويلة، ولتركيّا تحويلتان. غير أنّ الديون تلعب دورها أيضاً في سياسة التحويلات الطبيّة؛ في رفعها وتخفيضها، فالمُستشفيات الداخليّة ربّما بحكم العلاقات والقُرب ومعرفة الأزمة الماليّة، تحتمل الديون التي تتراكم على السلطة، كما يحصل مع تراكم ديون السلطة عند مشافي القدس. بينما تسبّبت التحويلات إلى مشافي الأردن بتراكم ديون على السلطة منذ الـ2010، ما سبّب أزمة أدت إلى رفض الأخيرة الكثير من التحويلات الجديدة. 

تسمّي الوزارة تخفيف التحويل للمُستشفيات الخارجيّة بسياسة "توطين التحويلات الطبيّة". والتي عبّر عنها أبو مازن قبل أقل من سنة بقوله: "بعد عام، يجب ألا نرى إنساناً على أرض هذا الوطن، يعالج في مكان آخر". لكنّه لم ينتبه إلى أنّ الإشكال الأساسيّ ليس في التحويلات خارج الوطن فحسب، إنّما أيضاً في التحويلات نفسها، إذ تزعزع ثقة الناس بقطاعها الصحّي، وتضعف من فاعليّة المُستشفيات الحكومية وتُعرقل تطورها. في المُقابل، هي تُحسّن وتُنمّي أوّل ما تُنمّي المُستشفيات الخاصة وغير الحكوميّة.

تحويلات مجهولة السبب

يعاني بعض المرضى من المُماطلة والتأخير في إصدار التحويلة أو صرفها. كتبت حمد في رسالتها أنّ 71.8% من الأشخاص ضمن العيّنة أفادوا بأنّ التحويلة تستغرق أكثر من أسبوع. يُناقض ذلك ما قاله الهدري، حين يذهب إلى شيء يشبه تحدّي "المواطن" بأنّ التحويلة لا تمكث في دائرة التحويلات أكثر من 8 أيّام. في بعض الأحيان، يرتبط عامل الوقت المستغرق لإصدارها بعامل من له "ظهر" في الوزارة.

التزام الوزارة بموازنة مُحدّدة للتحويلات، هو سبب يجعل المُعدم من المعارف والمال أقل حظاً في الحصول على التحويلة من غيره، ذاك الذي يمتلك النفوذ. أو على الأقل، المعدم هو من "يتمرمط" بين الممرّات وليس غيره. نتائج دراسة حمد، تُخبرنا بالمعايير التي يظّنها الناس سبباً في نجاح استصدار التحويلات الطيبّة: 60.9% أجابوا أنّ الواسطة والمحسوبيّة هما معيار صدور التحويلة، فيما ذهب 23.6% إلى الرشوة كمعيار، أمّا الباقي فأجاب: "الشفافيّة".

تسهل مُمارسة التجارة في القطاع الطبيّ، تحديداً في التحويلات الطبيّة. مثل الحديث عن تفضيل مشفى على آخر كما مع مستشفى النجاح، وتحويلات تمرّ بسبب اسم عائلة مرموق، وأخرى تمنع ليس لها من يُزكّيها. عن ذلك، وجد البنك الدولي أنّ ما يُقارب 71% من حالات التحويل الطبيّة لم يكن سبب التحويل فيها واضحاً.

في ظلّ هذا العجز الذي يخيّم على قطاعنا الصحي، ما هي قدرات الصحّة على احتمال حربٍ ما أو كارثة وبائية كما جائحة كورونا؟ ماذا لو استمرّ إغلاق المعابر في وجوه الناس؟ وماذا لو قرّر المانح وقفَ تمويله؟ على أيّة حال، ما الذي يمكن تأمّله من نظام صحّي يقوم أكبر التمويل فيه على جيوب الناس حرفيّاً، فنسبة مساهمة الأسر المعيشيّة من الإنفاق الجاري على الصحّة تصل إلى 45.5%، وهي نسبة تفوق نسب تمويل الحكومة وشركات التأمين والمؤسسات الخاصّة والأهليّة والعالم.4 الأسرة المعيشية هي وحدة اقتصادية أساسية، تعرّف في الإحصاءات بأنّها شخص أو أكثر يشتركون في السكن والموارد والاستهلاك. غالباً ما تكون الأسرة المعيشية مطابقة للعائلة، لكنّ صلة القرابة ليست شرطاً هنا. ولكنّ الأهم من ذلك، أنّها نسبة تفوق ما تُقدّمه وزارة الصحّة للناس.