25 أبريل 2024

الـ"شاباك" والوقوع في المصيدة

الـ"شاباك" والوقوع في المصيدة

ربما جلس زياد حمران (30 عاماً)، من قرية الهاشمية غرب جنين، يفكر في مقابلته المرتقبة وجهاً لوجه مع ضابط في جهاز المخابرات الإسرائيلية "الشاباك"، وربما دارت في رأسه أسئلةٌ كثيرة: أين سأُقابله؟ وماذا سأفعل؟ قبلها كان زياد قد أجرى بضع مكالماتٍ مع الضابط، ولعلّهما تحدّثا عن طبيعة العمل، ونوعية المهام المطلوبة من زياد، والمقابل الذي سيحصل عليه. 

في المكالمة الأخيرة اتفق زياد مع الضابط على اللقاء قرب بلدة بيت فجّار جنوب بيت لحم، في حديقةٍ قريبةٍ من مستوطنة "غوش عتصيون". كان زياد يعرف مناطق الخليل وقراها وطرقها جيّداً، فهو أكمل دراسته الجامعيّة في جامعة الخليل، وسكنها خلال تلك الفترة، ثم إنّه كان قد وجد عملاً فيها قبل فترةٍ وجيزةٍ من اللقاء.  

في 19 آذار/ مارس الماضي، حزم زياد أمتعته وغادر منزله في جنين متوجهاً إلى عمله في الخليل، أو هكذا قال لأهله، في حين أنه كان يُخطّط للقاءٍ خاصّ مع أحد ضباط الـ"شاباك". وصل الضابط إلى المكان المتفق عليه، ومعـه زميل له. وقف زياد أمامهما، ردّد الشهادتين وأطلق النار تجاههما من مسدسه، أصاب الأول بجراح ٍخطيرة، وأصابَه الثاني فارتقى شهيداً. 

تُعيد عملية الشهيد زياد حمران إلى الذاكرة عمليات نوعيّة عديدة استهدف فيها مقاومون فلسطينيّون عناصرَ في جهاز الـ"شاباك"، شرب فيها ضباط أحد أقوى أجهزة المخابرات في العالم من كأس السُّم مراتٍ ومرات. هذا المقال يرصد بعضاً منها. 

بواكير عمليات الاصطياد

كان أحد الذين شربوا كأس السُّم الضابط الإسرائيلي نوعيم كوهين، وكان مسؤولاً عن نشاطات الـ"شاباك" في رام الله. لُقِّب كوهين "بوحش الإسقاط" لنشاطه الواسع في تجنيد الفلسطينيين كعملاء. 

في السادس عشر من كانون الأول/ ديسمبر 1993، اعتقلت قوات الجيش الإسرائيلي الشاب عبد المنعم أبو حميد من منزله في مخيم الأمعري في رام الله، وحوّلته إلى التحقيق. هناك كان ينتظره كوهين، تحدثا مطولاً في غرف التحقيق، ثمّ خرج أبو حميد من السجن بحجة "عدم توفر أدلة كافية لإدانته". في الواقع كان الطرفان قد اتفقا على العمل معاً. 

سرّب أبو حميد، وبالتنسيق مع إحدى مجموعات "كتائب القسّام" في الضفّة، بشكلٍ متواصلٍ معلوماتٍ للضابط كوهين، وفي كلِّ مرّة كان يسعى لكسب ثقة الضابط الذي ظنّ أنّه نجح في تجنيده. نجح عبد المنعم في مسعاه، وتعرّف أكثر وأكثر على أساليب إسقاط العملاء وطرق الاتصال بهم وأماكن اللقاء بهم، وكَوّن صورةً كاملة عن آلية عمل المخابرات الإسرائيلية.

في أحد الأيام، اتصل عبد المنعم بكوهين قائلاً إنّ لديه معلوماتٍ مهمّة وحسّاسة عن مجموعة من "كتائب القسّام"، وإنّ عليهما أن يلتقيا حتى يتحدثا بالتفاصيل وكيف سيحبطان العملية. كان كوهين يثق بأبو حميد، فوافق وقررا أن يكون اللقاء في رام الله، وتحديداً في بلدة بيتونيا.

في 13 شباط/ فبراير 1994 كان اللقاء، جلسا جنباً إلى جنب في المقعد الخلفي من السيارة، وجلس أمامهما نائبا الضابط كوهين، بحركةٍ سريعةٍ ومفاجئة ترجّل أبو حميد من السيارة وأطلق النار بمسدسه تجاه الثلاثة، ثمّ أكمل إطلاقَ النار رفيقاه اللذين كَمنا لسيارة المخابرات في المكان،  حتى قُتل كوهين، وأصيب من معه. بقي أبو حميد مطارداً حتى نهاية أيار/ مايو 1994، إذ اغتالته قوات الاحتلال فارتقى شهيداً.

لم تكن عملية أبو حميد هي الأولى من هذا النوع، بل سبقه إلى ذلك بعام تقريباً الشهيد ماهر أبو سرور، الذي استدرج ضابط الـ"شاباك" حاييم نعماني إلى شقةٍ في القدس، حيث أطلق عليه النار وأرداه قتيلاً، ليصبح بعدها مطارداً. بعدها بخمسة أشهر نفّذ عملية اختطافٍ لحافلة إسرائيلية في القدس رفقة الشهيد محمد الهندي، فارتقيا معاً.  

اقرؤوا المزيد: السابقون السابقون.. عن الأوائل من كلّ فعل.

كما يبدو كانت هذه العمليات النوعية تنفذ بقرار من الخلية نفسها، فـ"كتائب القسام" في التسعينيات كانت لا تزال تبني جسمها العسكري بعتاد ورجال قليلين، بالتالي فهذه العمليات نتجت أول مرة بفعل اجتهاد خلايا كتائب القسام الأولى، التي أدركت لاحقاً مدى تأثير هذا النوع من العمليات. 

حين اتسعت الملاحقة

في انتفاضة الأقصى، أصبح العمل الاستخباري لدى المقاومة أكثر تنظيماً، ولم يقتصر على "كتائب القسام" فحسب، فقد انخرطت فيه كذلك "سرايا القدس" و"كتائب شهداء الأقصى"، فجنّدوا العملاء المزدوجين ونفّذوا عمليات اختراق لجهاز الـ"شاباك" وشعب الاستخبارات الإسرائيلية، أهمّها عملية لـ"سرايا  القدس" نفّذها الشهيد مراد أبو العسل.

خلال مهمةٍ يوميّة كان مراد، وهو أحد كوادر حركة الجهاد الإسلاميّ في بلدة عنبتا، قضاء طولكرم، يزرع عبوةً ناسفةً قرب إحدى المستعمرات في الأراضي المحتلة عام 1948. لكن قوات الاحتلال اعتقلتْه قبل أن يُتِم زرعَ العبوة، وحُوِّل إلى التحقيق وهناك جاءه عرض من الـ"شاباك": اعملْ معنا تخرج غداً. 

وافق مراد على العرض، وما إن خرج من السجن حتى توجّه إلى قيادة السرايا حاملاً لهم الخبر: "أصبحتُ عميلاً لدى الـ"شاباك"، فماذا نفعل؟". كان الردّ هو الاستمرار في "اللعبة"، إذ قرر إياد صوالحة ومعتصم مخلوف، وكانا قائدين في "سرايا القدس"، استغلال الفرصة، والتخطيط بحذرٍ لتشغيل مراد كعميلٍ مزدوج. كان أول ما ركّزوا عليه مسألة كسب الثقة، لذلك أعطوا مراد معلوماتٍ عن عبوات مزروعة في أماكن مختلفة لِيوصِلَها للـ"شاباك"، وفعلاً وجد الـ"شاباك" العبوات ونجح في تفكيكها، فعزّز ذلك من الثقة بمراد لديهم. 

لكن الهدف، بطبيعة الحال، اغتيال الضابط الإسرائيلي. رتّب مراد للقائه في 30 كانون الثاني/ يناير 2002، ولبس حزامه الناسف، الذي أعدّه له الشهيد طارق عز الدين1الشهيد والأسير المحرر طارق عزّ الدين، ابن قرية عرابة قضاء جنين، من مواليد عام 1974، كان قيادياً عسكريّاً في حركة الجهاد الإسلامي، اعتقل لدى الاحتلال عام 2002، ثمّ حُرّر في صفقة "وفاء الأحرار"، وأُبعد إلى غزّة. استشهد  مع طفلين من أطفاله في أيار/ مايو 2023، إثر استهداف الاحتلال له.، ثمّ توجّه إلى حاجز الطيبة، جنوب طولكرم، حيث نقطة اللقاء. ما إن دخل مراد إلى السيارة برفقة اثنين من ضباط الـ"شاباك" حتى ضغط على الزر وفجّر نفسه فيهما، فأصابهما بجراح متوسطة.

وقبل ذلك بعام، تحديداً عام 2001، وفي منطقة بيت لحم، بالقرب من "شارع 60"، نجح الشهيد حسن أبو شعيرة في استدراج الضابط يهودا أدري، مسؤول شعبة الاستخبارات العسكرية في بيت لحم، إلى نقطة بين أشجار الزيتون، بحجة أنه سيعطيه معلومات حساسة عن "كتائب شهداء الأقصى" التي كان أبو شعيرة أحد عناصرها. ما إن وصل الضابط حتى سحب حسن مسدسه وقتل "مُشغّله"، وأصاب من معه، ثمّ انطلق بين أشجار الزيتون حتى تبعه أحد جنود الوحدة فأطلق عليه النار وارتقى. 

وفي غزّة، وبعد تطوّر أدوات المقاومة نُفذت عمليات مشابهة، منها عملية "السهم الثاقب"، التي أشرف عليها الشهيد فوزي أبو قرع، أحد قادة "كتائب القسام" في شمال غزّة، في السابع من كانون الأول/ ديسمبر 20042الشهيد فوزي محمد أبو قرع: من مخيم جباليا في غزّة، أحد مهندسي التصنيع شارك في تصنيع قذائف الهاون وصواريخ القسام، استشهد باغتيال إسرائيلي في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2005، برفقه شريكه في النضال حسن المدهون ابن كتائب شهداء الأقصى.. 

اقرؤوا المزيد: ثقوب في القلب.. آخر أيام الـ"شاباك" في غزّة.

في هذه العملية، سُرِّبت معلومات لجهاز المخابرات الإسرائيلي، الـ"شاباك"، عن نفقٍ للمقاومة يقع شرق مدينة غزّة، في المنطقة الواقعة بين حاجز "كارني" ومستوطنة "ناحل عوز"، وذلك لاستدراج وحدة عسكرية له والهجوم عليها. كانت "كتائب القسّام" قد فخّخت النفق بطن ونصف من المتفجرات، كما كمن في المكان الاستشهاديان مؤمن رجب وأدهم حجيلة واشتبكا مع جنود الاحتلال، فأسقطوهم بين قتيل وجريح.

ما بعد الانسحاب من غزّة.. 

ما بعد الانتفاضة، ومع انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من أراضي قطاع غزّة عام 2005، أخذت فصائل المقاومة الفلسطينية تعزّز قدراتِها العسكريّة والأمنيّة والاستخباراتية، وتحوّل شكل القتال إلى جولات من التصعيد والحروب. وقد ركّزت المقاومة أكثر على حرب المعلومات والاستخبارات لأهميتها وتعقيداتها، وشكّلت وحداتٍ خاصّة تعمل في الظل، وتُدير حرب العقول مع الاحتلال. 

مثال ذلك عندما حاول أحد ضباط الـ"شاباك"، واسمه "كامل" تجنيد شاب من غزّة. توجّه الشاب، واسمه نور، مباشرةً إلى قيادة القسام التي وجدت في هذه العملية فرصة لتوجيه ضربة لجهاز الـ"شاباك"، وعليه بنت خطّةً محكمة تتضمن كسب الثقة وتسريب معلومات وتصوير بعض المواقع والراجمات الوهميّة. 

ظلّ نور يعمل لمدة عامين، ما بين عام 2016 إلى 2018، حتى وصلت شهرتُه إلى رئيس الأركان ورئيس الدولة، أو على الأقلّ هذا ما أخبره به ضابط الـ"شاباك" المسؤول عن قطاع غزّة، والملقّب بـ"أبو صخر"، ربما في محاولة لتشجيعه على العمل أكثر فأكثر. 

حسب ما كان الـ"شاباك" يعتقد، فقد خرّب نور خلال هذه الفترة صواريخ القسام وكشف مواقع الراجمات وتلقى المواد اللازمة لذلك ودُرّب عليها، وثبّت أجهزة "GPS" على الراجمات ليتم تدميرها في أول معركة. 

وبينما كان عناصر الـ"شاباك" يظنّون أنهم اخترقوا كتائب القسام، تكسرت أحلامهم بعد اتصالٍ هاتفيّ جمع بين الضابط الإسرائيلي ونور، صارحه الأخير فيه بحقيقة أنّ "كل شغلكوا كان مضروب وبعلم كتائب القسام". أُطلق على هذه العملية اسم "سراب"، فما كان يلاحقه ضباط الـ"شاباك" خلال العامين ليس إلا وهماً وسراباً. وتقول الكتائب إنها استطاعت من خلال هذه الخطة الكشف عن ضباط في الـ"شاباك" مسؤولين عن قطاع غزّة وغير ذلك من المعلومات.

ومن القسّام إلى السرايا، وفي إحدى حلقات برنامج "ما خفي أعظم" بعنوان "خارج الحسابات"، كشف الجهاز الأمني لسرايا القدس عن عملية استخباراتية معقّدة نجحت خلالها السرايا في زرع عميل مزدوج في جهاز الـ"شاباك" للتعرف على أهدافهم وطرق عملهم. وفي تفاصيل العملية، تواصل أحد عناصر الـ"شاباك" واسمه "آدم" مع "المجند 106"، وهو أحد كوادر سرايا القدس، بهدف اختراق السرايا وتصفية عدد من القادة الميدانيين لديها.

في أحد الأيام طلب "آدم" من "المجند 106" لقاءً وجاهيّاً حتى يتعرف عليه ويُدرّبه على مهماته من تصوير ومراقبة وطرق التواصل وغير ذلك. في الليل توجّه "المجند 106" إلى نقطة اللقاء المتفق عليها قرب السياج الفاصل وتعرّف على الضابط "ادم"، ثمّ بدأ بتعليمه طرق التصوير وكيفية إرسال الصور وأساليب التواصل، كما سأله مشغلوه عن بعض مقاتلي وقادة سرايا القدس. ثمّ بعد عدة لقاءات وجولات تدريب في الأراضي المحتلة عام 1948، عاد المجند "106" إلى قطاع غزّة ليبدأ التنسيق مع الضابط "آدم"، ولكن ما لم يخطر ببال "آدم" أن يرى صورته واسمه على شاشة الجزيرة.  

نجح "المجند 106" في مهمته الرئيسية وهي حماية قادة السرايا وكشف أساليب عمل الـ"شاباك"، بالإضافة إلى تصوير ضابط الـ"شاباك" وفضح صورته وهويته الحقيقية، فوق كل ذلك أخذ يتجول في أراضينا المحتلة وكأنه في رحلة لا مهمة، تعرّف خلالها على البلاد، التي ربما شارك في القتال لأجلها مرةً أخرى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وما بعده. 

الضربة الكبرى

فكّكت قدراتُ المقاومة مراراً عمليات مختلفة للـ"شاباك"، منها ما أعلنت عنه قيادة المقاومة ومنها ما زال خفياً. ولعل عبور السابع من أكتوبر هو إحدى أنجح عمليات التضليل والخداع لمختلف أجهزة العدو، ومن أبرزها جهاز الـ"شاباك"، والمعني بكشف الهجمات المتوقعة قبل حدوثها.

نجحت المقاومة في "طوفان الأقصى" في قتل عشرةٍ من ضباط الجهاز على الأقل، وإصابة الكثيرين خلال العملية وما تبعها، وقد فقد جهاز الـ"شاباك" على إثر الهجوم سمعته وأرواح ضباطه وهيبته. ولعل هذه العملية ألهمت زياد حمران ليكرر ما فعله سابقوه ماهر أبو سرور وحسن أبو شعيرة ومراد أبو العسل مرة أخرى، ويخرج في رحلةٍ متجددة لصيد الـ"شاباك". 



27 أبريل 2023
حارة بسبعة حواجز!

إلى الشرق من وسط مدينة الخليل، وبمحاذاة مقبرةٍ إسلاميّةٍ تُدعى "مقبرة الراس"، تقع حارات: الجعبري، وجابر، والسلايمة وغيث. وعلى مقربة…