27 أبريل 2023

حارة بسبعة حواجز!

<strong>حارة بسبعة حواجز!</strong>

إلى الشرق من وسط مدينة الخليل، وبمحاذاة مقبرةٍ إسلاميّةٍ تُدعى "مقبرة الراس"، تقع حارات: الجعبري، وجابر، والسلايمة وغيث. وعلى مقربة منهم تقع المستوطنة الأشهر في الخليل "كريات أربع"، يربطها شارع استيطانيّ رئيس بالمسجد الإبراهيمي. تعيش هذه الحارات واقعاً صعباً تُقيّد فيه حريّةُ الحركة لأهلها، ويُصبحون كلّ يومٍ على توجسٍ من اعتداء جديد من مستوطني الخليل وجنود الاحتلال فيها.

توّجهنا تحديداً إلى حارة جابر، وللوصول هناك سرنا في طريقٍ وعرٍ من المقبرة الإسلاميّة إلى مدخل الحارة. لم يصبح ذلك الطريق طريقاً للحارة إلا بعد أن أغلق الاحتلالُ الشارع الرئيس (ما يُعرف بشارع عثمان بن عفان، أو شارع "كريات أربع"، ويصل شمال الخليل بجنونبها من الجهة الشرقية) أمام حركة الفلسطينيين، وذلك لصالح حركة المستوطنين وتنقلهم. 

"ملابس الصلاة" علامة التأهب المستمر

في بيتٍ يقع أول الحارة، شبابيكه مُحصّنة بالشبك الحديديّ؛ تفادياً لأضرار جديدة تُسبِّبها اعتداءات المستوطنين المتكررة، استقبلتنا أمُّ عبد السلام جابر (47 عاماً). من نافذة بيتها الصغير، وعلى التلة المواجهة تظهر أسطح كرميديّة كثيفة مكونةً كتلةً ضخمة ملتفة ومتداخلة هي مستوطنة كريات أربع، ونلمح في الجهة الأخرى أبنيّة قديمة متأصلة تحتضن المسجد الإبراهيميّ.

أم عبد السلام بالقرب من أحد أبرز مفارق الطرق في حارة جابر. (عدسة: ضحى ادكيدك).

تُعرف أم عبد السلام بجرأتها في تخليص الأطفال من قبضة جنود الاحتلال. وما إن تسمع نداءً يقول: "أم عبد السلام، الجيش هجموا" حتى تترك ما بيدها نحو الشارع. تقول: "عشتُ أياماً طويلة وأنا متأهبة للجنود والمستوطنين، أيام ظللت أرتدي فيها "ملابس الصلاة" على مدار الساعة مهيأةً نفسي للخروج للتعامل مع أي اعتداء". 

منذ أكثر من ثلاثين عاماً ما زالت صامدةً في الحارة ومدافعةً عن أطفالها. تقول: "قبل فترة، أجوا الجيش بدهم ياخدوا ابن بنت حماي من أحد المفارق، وأنا حاطة بمخي إني بدي اجيبه منهم، كانوا حاطينه باللند (سيارة جيش الاحتلال)، فتحت الباب، ودفعت الجندي وصرت قاعدة جمبه. أنا بقلهم ابني.. ابني هاد.. وهم يقولوا انزلي يا حجة وإحنا بنزّله (نطلق سراحه) بعدين. وأنا قلت بنزلش إلا لما ينزله الجيش ع الدار.. وفعلاً أعطوني الولد وما اعتقلوه". 

كذلك بادرت أمّ عبد السلام لتشكيل فرّقٍ تطوعيّة نسائيّة لحماية الطلبة أثناء تنقلهم من وإلى المدارس. وبالعموم، فقد تعوّد أهالي الحارة والحارات المجاورة على انتظار بعضهم البعض في حال خروجهم، والمشي في جماعات.

لكن ذلك لا يخلو من تحدياتٍ وأحياناً تخوفات. تقول أم عبد السلام:" الزمن تغير، هلأ المستوطنين كلهم حاملين سلاح، وأنا صرت أخاف على ولادي، زمان كانوا ولادي صغار وما أقلق كتير، حالياً قبل ما أمشي الخطوة أعد للعشرة". 

تشاركها هذا التخوف سوزان جابر، وهي ناشطة في توثيق الاعتداءات بالصور والفيديو. تقول: "لما يكونوا ولادي مش بالدار بنزل وبصور وما بفرق عندي اشي، بس لما يكونوا ولادي موجودين صرت أخاف يجوا ياخذوهم". 

أن تتحول الحارة إلى سجن

بعد توقيع اتفاقية الخليل، أو بروتوكول الخليل - إعادة الانتشار عام 1997، قُسِّمت المدينة إلى  منطقتين؛ منطقة تحت السيطرة الأمنية الفلسطينيّة حملت عدة تسميات: الخليل 1، أو Hebron 1 ، H1، ومنطقة تحيط بالمستوطنات وسُمّيت بالخليل 2، أو منطقة H2، وبقيت تحت السيطرة الأمنية الإسرائيليّة. تُشكّل منطقة H2 ما نسبته 20% من المساحة الإجمالية لمدينة الخليل، ويسكن فيها حوالي 35,000 فلسطينيّ ويستوطن فيها ما يقارب 700 مستوطن إسرائيلي.

تُبيّن الخارطة أدناه منطقة H2، بكلِّ ما تحمله من تعقيداتٍ إسرائيليّةٍ استيطانيّة، ومن خلال تحليلها يمكن ملاحظة سعي الاحتلال ومستوطنيه لوصل مستوطنة كريات أربع بالبؤر الاستيطانيّة المتواجدة في مركز المدينة، والقريبة جداً من المسجد الإبراهيميّ، وهي على الترتيب: أبراهام أفينو (سوق الخضار المركزي - الحسبة قديماً)،  بيت رومانو، بيت هداسا، تل ارميدة (باللون الأزرق). 

وفي الخارطة يظهر الطريق الاستيطاني الذي فتّت المدينة بين المستوطنات الإسرائيليّة والمُمثَّل باللون الأحمر، وهو حكر على المستوطنين وجيش الاحتلال، ويُمنع الفلسطينيون من المرور به سواءً مشياً على الأقدام أو في سياراتهم. بينما نلاحظ الطريق الذي لُوِّن بالبرتقالي، المحاذي في جزءٍ منه لحارة جابر، والذي يُسمح للفلسطينيين بالمشي فيه سيراً على الأقدام، دون استخدام سياراتهم.

تقع حارة جابر كما هو موضح على ما يُسمّى "طريق المصلين" وهو مصطلح استيطانيّ يعبّر عن الطريق الذي يسلّكه المستوطنون في طريقهم "للصلاة" في المسجد الإبراهيمي، والذي يبدأ من كريات أربع مروراً بحارات جابر، السلايمة، غيث. وهكذا فإنّ المستوطنين في طريقهم نحو الجزء المغتصب من مسجد إبراهيم عليه السلام يمرّون من حارة جابر. ليس ذلك فحسب، فموقع الحارة القريب أيضاً من عمارة الرجبي؛ التي تم الاستيلاء عليها عام 2007 وأصبحت بؤرة استيطانيّة تعرّف بـ"بيت السلام"، جعل من الحارة ممرّاً للمستوطنين من كريات أربع إلى عمارة الرجبي، وإلى الحرم والبؤر الاستيطانية وبالعكس.1 عمارة الرّجبي: تبلغ مساحتها 3500 متر ومكونة من 16 محلاً تجارياً و16 شقة سكنية، بالإضافة إلى صالة كبيرة تقع على بعد 500 متر شرق المسجد الإبراهيمي. في العام 2007، احتل المستوطنون العمارة بدعوى شرائها،  فقام صاحب العمارة بتقديم الشكوى، فقررت المحكمة المركزية إخراج المستوطنين من المنزل لعدم استكمال إجراءات البيع والشراء، وأن الأوراق مزورة، لكنها سرعان ما أعادتهم إليه بحجة أن المستوطنين غير مسؤولين عن عملية التزوير. 

بعد العملية الفدائية في وادي النصارى (والذي يقع إلى الشرق من حارة جابر) في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2002، ازدادت هجمات المستوطنين على الفلسطينيّين في المحيط الجنوبي لمستوطنة كريات أربع (وادي النصارى، الحصين، جبل جوهر، حارتي جابر والسلايمة). حينها نصب المستوطنون الخيام لمدة عامين في وادي النصارى، محتشدين فيها، مطالبين بحمايتهم؛ وهو ما تطور نحو الاستيلاء على مزيد من الأراضي لعائلات جابر، دعنا، السلايمة والرجبي. 

عمارة الرجبي (يمين الصورة)، وأمامها الشارع الاستيطاني المعروف بـ"شارع المصلين"، وتظهر أطراف مقبرة "الراس"، وأطراف حارة جابر.

يستذكر الشاب علاء جابر (26 عاماً)، وهو ناشط مجتمعي ويعمل في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، تلك الأيام، ويقول: "الفترة الأصعب التي عشناها كانت فترة عملية وادي النصارى، مناورات، منع تجول لشهور، كنا نروح خلسة للمدرسة، ونعدي بين أزقة البيوت، المدرسة بعيدة عنا 500 متر.. نلف 2 كيلو حتى نوصل المدرسة".

وهكذا شيئاً فشيئاً أصبح الشارع الرئيس المحاذي لشرق حارة جابر حكراً على سيارات المستوطنين، كما أغلقت المنطقة المحيطة بالمستوطنة، ووضعت بوابة حديديّة تفصل ما بين حارة جابر ووادي النصارى وجبل جوهر، وهذا يعني فصل المنطقة الشرقيّة عن الجنوبيّة. واليوم تحيط بحارة جابر وحدها 9 نقاط تفتيش: 7 منها حواجز أو سدّات (تغلق وتفتح حسب تقدير الجنود أو مزاجهم)، ونقطتي تفتيش معززتين بحراسة من الجيش. 2الحاجز هو نقطة عسكرية مكونة من ألواح اسمنتية أو حديدية أو براميل، وتؤدي وظيفة سدّ الطريق وإغلاقه، وقد لا يكون مشغولاً بالجنود، أما نقطة التفتيش فيرافقها دوماً بوابة عسكرية وبرج عسكري، مع تواجد مستمر لجيش الاحتلال.

الوصول إلى بيتك مسموح، ولكن فقط مشياً على الأقدام!

نتيجة إغلاق ذلك الشارع، تُفرض على أهالي حارة جابر معيقات عديدة، تدخل في تفاصيل حياتهم اليوميّة، مثل ركن السيارات بعيداً عن منازلهم، إذ يفرض عليهم ترك سياراتهم قبل الحاجز والمشي على الأقدام، ويسمح لعددٍ قليل منهم وفق تصاريح خاصّة بإدخال المركبات؛ وهي تصاريح يتطلب الحصول عليها تقديم ما يكفي من الأوراق للجيش توّضح اسم مالك السيارة، عنوانه، نوع السيارة، الأفراد المخوّل لهم باستخدامها، وغير ذلك. 

وفي حال حصل أحدهم على تصريح لذلك، فإنه يمنع تشغيل السيارة منذ عصر الجمعة حتى نهاية يوم السبت بشكلٍ مطلقٍ، أي أن تقاليد الحياة اليهودية فُرِضت على مجمل السكان الفلسطينيين في المنطقة.

شوارع خالية من أهلها! (عدسة ضحى ادكيدك).

وبما أنّ السيارات ممنوعة، يستخدم الأهالي عربات صغيرة تجرّها العجلات لنقل حاجياتهم ومشترياتهم، وفي حال كانت تلك الحاجيات كبيرة فإنهم يستخدمون عرباتٍ أكبر تجرّها الحمير يسمّيها الناس  "كارّة". 

لا تنتهي التحديات هنا، فكل تحركٍ، كالخروج العادي من البيت إلى العمل، أو المدرسة، أو الجامعة، أو السوق هناك احتماليّة كبيرة للتعرض للتفتيش من جنود الاحتلال، أو للشتم، أو البصق، أو الضرب أو التحرّش من قبل المستوطنين. فما بالك بالحالات الاستثنائية، كنقل الحوامل والمرضى. تصف سوزان ما حصل معها عام 2002 بعد ولادة توأمها وعودتها من المستشفى إلى بيتها، تقول: "بما إنه كان ممنوع دخول السيارة بتاتاً، حطوني على عربية (عربة) وجروني، وكل ما أطلع ع صرارة أحس روحي طلعت". 

أثر الاستيطان حتى على اختيار زوجتك المستقبلية!

أدّى إغلاق الاحتلال للحارة، وتكرار حوادث اعتداء الجيش والمستوطنين، مُضافاً إليه عجز السلطة الفلسطينية وتقصير المؤسسات الأهلية وعدم اهتمامها بالمنطقة، إلى عزلٍ مضاعف للمنطقة. تقول أم عبد السلام: "هذه المنطقة أصبحت مهمشة لدرجة لا يمكن تصوّرها، بكل الأحوال إن أجى مسؤول زارنا.. رح نعيش.. وإن ما زارنا رح نعيش.. احنا ليل نهار.. بندافع".

 

أمّا علاء جابر فيذكر الدور السلبي لمجمل المجتمع في الخليل وركونهم إلى الأمر الواقع، فيقول: "أغلب الخلايلة عمرهم ما زاروا الحارة، ولا المنطقة، حتى إللي بعيشوا بالقرب منا، خلقوا منها منطقة بعيدة".

وأمام هذا الواقع، يصف علاء بعض التبعات الاجتماعية التي يعيشها جيله، فيقول: "في صعوبة كبيرة من فكرة التقدّم للزواج من فتاة من خارج حارتنا، الفتيات بالحارة بتمنوا يطلعوا منها، بضلهم يستنوا الفرصة المناسبة، فما بالك تيجي بنت تعيش هون؟".

ومن مظاهر تلك التبعات الاجتماعيّة، أنّ بعض العائلات مثلاً تفضّل أن تجعل "طلعة العروس" من بيت من بيوت أقاربها خارج الحارة،  حتى تسهل مشاركة الجميع. ولكن بعض العرائس - وهنّ كثر - يخترن أن تكون الطلعة من بيوت أهاليهن في الحارة، تمسكاً بها وتحدياً لواقعها، كما فعلت بنات أم عبد السلام الأربعة حين تزوجنّ، فمشين بفساتيهن البيضاء على الأسفلت، تنتظرهن السيارة المزيّنة بعد الحاجز.