27 مارس 2024

التحرّي بالسنتيمتر: أيهما أبعد عن الموت؟

التحرّي بالسنتيمتر: أيهما أبعد عن الموت؟

أدركتُ أخيراً: ما أصعب الكتابة عن الحياة! لو كنا أمواتاً لانتهى الأمر، مثلما تنتهى أطول القصص القصيرة في هذه الحرب، سيروي أحدهم بسطر أو سطرين: "كان يلاعِبُ طفلَه.. قصفوا المنزل على رأسيهما وقضى". لقد قصر حديث الناس، صاروا يختزلون كل كلام عن أفظع الأحداث والمشاعر، يجيب والد شهيد على سؤالٍ عابر: كيف استشهد ولدك البكر؟

يردّ باقتضاب: قدره ونصيبه الحمد لله.

الحسرة علينا نحن إذاً؛ أخطأَنا الموت لليوم الـ 71 بعد المائة، ليس بوسع أحدنا أن يفرح بهدوء لأن؛ "موتاً طائشاً نسي الطريق إليك/ـه من فرط الزحام .. فأجله". لقد جاءنا كالحاً بوجوهٍ أخرى: آخرها أننا تُركنا في المجاعة، مترقبين ساعة الأجل الوشيكة. في شمال القطاع، فهم الناس جميعهم بعدما جربت عليهم "إسرائيل" كل أنواع الموت، قصفاً وحرقاً ودوساً بجنازير الدبابات، ثم تجويعاً وحرماناً من الدواء والعلاج، كم هو محظوظ مَن اتخذه ربُّ السماء إلي جواره شهيداً دفعةً واحدة!  فالذين يُجرِّبون يومياً الموت بالتقسيط، أضحوا لؤماء جداً، فقد فَرُغَت أيادي الجميع مما يمكن أن يتحاسدوا عليه، وصارت عيونهم الفارغة تفكر بحظوظ الشهداء: "فلان استشهد هو وعيلته كلها.. نياله"!

بعد 171 يوماً، حَسَبنا نهاراتها ولياليها بعداد الثواني، تتعقد مهمة البوح والكتابة أكثر، هل سيكون من السهل أن نتكلم عمّا فعله فينا الجوع وتدمير آخر مأوى ومسكن، وفقدان مائة عزيز وحبيب، على أنه المشهد الوحيد في صورة هذه الحرب، سنتحسّس الكلمات ملياً، كي نستطيع اجتراح مساحة توصِّفنا بين ثنائيتي الضحية المهزومة أو البطل الخارق،  سنصرخ ونحن نستذكر كل تفصيلة من تفصيلات النزوح والإذلال والجوع والقهر: "يا أيها البطل انكسر فينا"، ليس سهلاً أن نحكي، و نحن، بل أنا على الأقل، الذي ما زال يؤمن حتى اليوم وغد، أن كل ما تفعله آلة الحرب الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر المجيد، ليس دافعه استعراض القوة، بقدر ما هي، محاولة قد تكون ناجحة، لإخفاء الضعف والخور، وأن الأذى الذي قُسِّم بتساوٍ عجيب على كلِ غزاوي، يريد منا أن ننسى ما تركته فينا الساعة الـ 06:35 من صباح ذاك اليوم من أمل!

قبل قرابة ستة شهور من اليوم، قرر نحو 700 ألفٍ من الناس ألّا يغادروا شمال القطاع إلى جنوبه، آنذاك، كان الموت يحصد أرواح المئات يومياً، ورغم ذلك، بدا أن هذا التشبث البطولي، لم يكن دافعه البحث عن البطولة، إذ يمتلك الأهالي هنا مئات المبررات التي تدفعهم للبقاء، مقابل دافعٍ غريزي واحدٍ يُجبرهم على الرحيل. بعضهم لم يهن عليه ترك بيته وماله ومصالحه، وآخر قرر البقاء إلى جانب أقرب مكان من أبنائه المنخرطين في الملحمة، وآخرون، فكروا بالمنطق المجرد: القطاع كله مستهدف، ولن يذر العدو فيه حجراً على آخر. فيما حمل آخرون في أذهانهم هاجس النكبة والتهجير الجديد. 

الذين بقوا كانوا مقتنعين، أن ثمة أشياء في هذه الدنيا أهم من مصيري الحياة أو الموت، والحقُّ أنّ الجميع كانوا في مواجهة ساعات القصف الرهيبة، مستسلمين لقدرهم راضين بالنتيجة التي سيفضيها قرارهم. ذلك القرار الذي تحوّل فيما بعد، إلى أكبر عُقدة لجنود جيش "إسرائيل". بدا ذلك واضحاً في كل المقاطع المسجّلة التي نشرها الاحتلال، يُكرّر ضباط العدو سؤالاً واحداً على كل مجموع اعتقلوه من المدنيين في المناطق التي عبروها في شمال القطاع: "كلنالكم روحوا ع الجنوب، ليش ما طلعتوا؟"

بالنسبة لدولةٍ يُخلي عُشرُ شعبها مدناً بل مناطق شاسعة في جنوب البلاد المحتلة وشمالها، قبل أن يتعرضوا لمعشارِ ما تعرض له الأهل في جباليا مثلاً، من قذائف وقنابل، يبدو سؤال ضباط العدو، سؤالاً محقّاً بلا شك. هنا يتجلى الفارق، بين صاحب الأرض، الذي لا خطة بديلة لديه عن البقاء وإن كان الثمن روحه، وبين العابر، الذي يمثّل وجوده على هذه الأرض خياراً بديلاً أكثر ترفاً وليس أكثر من ذلك.

عاش شمال غزة أيام حصار طويلة، أياماً دمّرت دبابات "إسرائيل" خلالها كل مستشفيات شمال وادي غزّة، وصار الناس يموتون نتيجة أي خدش تتسبب به شظية تصيب أقدامهم. أياماً سمعنا فيها أصوات مناجاة العالقين تحت الركام وهي تتخافت إيذاناً بأن الروح أخذت تنسل من الأجساد المنهكة، بعد أن أخرج العدو عن الخدمة كل سيارات الدفاع المدني. أيام تنقّلنا فيها بالنساء والأطفال من بيت إلى مركز إيواء، ونحن نتحرى بالسنتميتر، أيهما أبعد عن الموت، بعد أن حاصرت الدبابات كلّ زاوية. أيام دفن الناس أحباءهم في الشوارع والأسواق والطرقات وفي أقبية المنازل بعدما اجتاح جيش العدو ودمر المقابر كلها، فاستحالت البلاد مدينة للأموات!

ها أنا أحاول استجماع مزيدٍ من التفاصيل، لكن الجوع يخمد كل محاولة. جوع أكل فيه الناس أعلاف الدواب والدواجن حتى نفدت، وجمعوا حشائش الأرض ومياه المطر ولا يزالون! 

كلّ شيء سينمحي، أدري ذلك، سيصير شيئاً من الذاكرة، في النهاية، كل الحروب تصير ذكرى تتحدث عنها كتب التاريخ، وحربنا هذه ليست بدعاً منها،  لكن المؤكد، أننا ومنذ 171 يوماً، ندفع ثمن ما قبضناه سلفاً: إنهم يجتهدون لتطهير عقول مستوطنيهم من صورتنا التي اختزنوها في أذهانهم، يوم رأونا نهبط عليهم من السماء، يحاولون غسل أذهانهم من خيالاتنا .. بالدماء.