18 يناير 2019

ثقوبٌ في القلب

آخر أيام الـ"شاباك" في غزّة

آخر أيام الـ"شاباك" في غزّة

في الثامن عشر من يناير/ كانون الثّاني 2005 دوّى انفجارٌ في أحد أكثر المواقع العسكريّة الإسرائيليّة تحصيناً في قطاع غزّة، وتحديداً في الغرفة المخصصة لضباط الـ"شاباك" في موقع أروحان العسكريّ وسط قطاع غزّة. نتج عن الانفجار مقتل أحد أبرز ضباط الـ"شاباك"، عوديد شارون، وإصابة اثنين آخرين بجروحٍ.

ليلة العملية باتَ عمر سليمان طبش (21 عاماً) في منزل نور الدّين بركة. صبيحة اليوم التّالي، ألبس نور عمرَ حزاماً ناسفاً، ثمّ انطلق الأخير باتجاه الشّمال صوب حاجز "أبو هولي". بعد مرور السّيارة التي كانت تقلّ عمر عبر الحاجز الأول، طلب جنودُ الاحتلال من السّيارة التّوقف والذهاب نحو الموقع العسكريّ لتفتيش أفرادها. في تلك اللحظة ظنّ الـ"شاباك" أنّه أوقع صيداً ثميناً، لكنّه على خلاف العادة، كان هو الصّيد.

"أبو هولي" قطعة العذاب اليومي في غزة

يُعدُّ حاجز أبو هولي من أبرز حواجز قطاع غزّة قبل انسحاب جيش الاحتلال في العام 2005. وهو حاجزٌ قديمٌ من فترة التسعينيات -على الأغلب-، جرى توسيعه بشكلٍ كبيرٍ عقب اندلاع الانتفاضة الثّانيّة، وكان يُطلق عليه كذلك "موقع محفوظة". وهو الأبرز، لأنّ له ميزات استراتيجيّة هامّة، إذ يفصل جنوب قطاع غزّة (خانيونس ورفح) عن شمالها (المنطقة الوسطى ومدينة غزّة وشمالها).كما أنّه يقع على مفترق تجمع مستوطنات غوش قطيف، ويُنظّم حركة المستوطنين من وإلى داخل الأراضي المحتلة عام 1948، علماً أنّ تجمع غوش قطيف ضمّ أكبر تواجد استيطانيّ بشريّ في القطاع.

تكوّن الحاجز في فترة الانتفاضة الثّانيّة من أربعة أبراجٍ عسكريّةٍ تُشرِفُ على الحاجز، أيّ تشرف على النقطة التي يقف فيها الجنود ويدققون في سيارات المارّة. إضافةً إلى الأبراج، ضمّت منطقة الحاجز موقعاً عسكريّاً مُحصّناً يُسمّى "أروحان"، يسند الحاجزَ ويبيتُ فيه الجنود. وفي داخل الموقع العسكريّ غرف خاصّة لجهاز الـ"شاباك"، من أجل التّحقيق الميدانيّ مع الموقوفين على الحاجز.

تمثّلت سياسة الحاجز في وقهر الفلسطينيين بإغلاقه لساعاتٍ طويلةٍ، إذ كان يُسمح بالمرور من خلاله ما بين السّادسة صباحاً وحتى السّادسة مساءً، وأيّ اقتراب بعد أو قبل السّاعتين المحددتين معناهُ الموتُ المحقق. إلا أن تلك السّاعات كانت تتخلل فترات إغلاق غير معروفة الأجل، أيّ إغلاق فجائي خلال النهار.

أمنيّاً، كان يُسمح بدخول دفعة من السّيارات لتصبح بين نقطتين عسكريّتين، ومن ثمّ يُغلَق الحاجز، ثم تُـتـرك هذه الدفعة تتحرك حتى تصل للجهة الثّانيّة. وفي حال كانت هناك شخصيّةٌ لابدَّ من اعتقالها أو سيارة تحمل أدوات عسكريّة فيتم إيقافها في هذا المكان، ويطلب من ركابها التوّجه نحو الموقع للتفتيش والتحقيق. في الموقع العسكريّ، حيث يجري التحقيق يقرر الـ"شاباك" إما الحجز والتحقيق أو إطلاق سراح الركاب.

كانت هذه السّياسة فعّالة، وأدّت لإلقاء القبض على عدد من المقاومين الفلسطينيين، مثل إيهاب قنن، أحد المسؤولين عن عملية محمد فرحات الاستشهاديّة، وعماد الدّين صقر، وأسامة أبو العسل، ونبيل المصري، ورامي عنبر، وسعيد صالح، وأحمد أبو جزر، وفوزي المعصوابي، ويوسف أبو سليسل، وقائمة ممتدة من المطلوبين لم تنتهِ إلا بعد الانسحاب من غزة.

حزام ناسف بلا معادن

حسب رواية كتائب عزّ الدين القسّام الرسميّة، جرت دراسة أساليب جيش الاحتلال في اعتقال الفلسطينيين عبر حاجز أبو هولي، ومراقبة إجراءات تفتيشهم وادخالهم للموقع. وبناء عليها تقرر تنفيذ عملية استشهاديّة داخل الموقع عبر تفخيخ أحد المقاتلين.تم تجهيز الحزام الناسف دون اللجوء لأيّة قطعٍ معدنيّةٍ،  لتجنب كشفه عبر جهاز كشف المعادن، وهو الجهاز الذي كان العقبة الأبرز في سبيل وصول الاستشهاديّ لغرفة التحقيق.

يوم 18/01/2005 توّجه عمر سليمان طبش نحو الحاجز، وكان قبلها قد ذهب عدة مرات ليثير ريبة الجيش. في نفس الفترة أجرى مقاتلو كتائب القسّام في شمال القطاع مكالمات هاتفيّة مع زملائهم في جنوب القطاع، لإيهام الإسرائيليين بوصول "أمانة" خاصّة، لعلمهم أن الاحتلال يراقب الاتصالات، وهو الطُعم الذي ابتلعه الـ"شاباك".

على إثر ذلك، أغلق الاحتلال الحاجز طوال اليوم بعدما قام بحجز قافلة السيارات التي تضمّ السّيارة التي تقلّ عمر.  وعندما نودي على عمر للاستجواب توّجه بخطى ثابتة نحو غرفة الـ"شاباك" في الموقع العسكري أورحان. جلس عمر قبالة ضابط التحقيق عوديد شارون، وفي الغرفة جنديان آخران. ما هي إلا لحظات حتّى فجّر عمر نفسَه بمجموعة الضّباط، فوقع عوديد قتيلاً وجُرح الجنديان.

جندي إسرائيلي يتفقد مكان العملية الاستشهادية التي نفذها عمر سليمان طبش في موقع أورحان العسكري في منطقة حاجز أبو هولي. تاريخ الصورة: 19.01.2005

في تلك الضّربة كانت نظرية "الموقع المُحصّن" تنهار. كان الموقع العسكريّ قد رُفعِت فيه نسبة التحصين من فترة ليست بالبعيدة، إذ وقع فيه قبل 6 أشهر من عملية طبش تفجيرٌ عُرِف بـ"عملية محفوظة". في ضوء التحصينات الجديدة، وتجريف المساحات الواسعة قبالة الموقع، كانت فكرة اقتحامه أو إعادة تفجيره عبر أحد الأنفاق مستبعدةً.

لكن هذه المرة كان الجيش هو من أدخل "القنبلة" بيديه إلى أهم غرفة في الموقع وأكثرها أمناً.

لاحقاً لعملية طبش، أوقف الاحتلالُ عمليةَ الاستجواب العشوائيّ للفلسطينيين على الحاجز، واكتفى بمحاولة تصيد المقاومين الذين تأتي عنهم معلوماتٌ محدّدةٌ ودقيقة، كما أزال الـ"شاباك" غرفته الخاصّة داخل الموقع. وبعد العملية التي أطلقت عليها كتائب القسام اسم "ثقب في القلب" بشهور قليلة، جرى تفكيك الموقع بشكل كامل، هو وكتلة غوش قطيف وغيرها من الكتل الاستيطانيّة في غزّة على إثر الانسحاب.

عندما هزّت المعاول الموقع المحصن

لكن لم تكن تلك العملية الأولى التي تستهدف منطقة حاجز أبو هولي. قبل عملية "ثقب في القلب" بحوالي ستة شهور، قامت مجموعة من كتائب القسام عرفت باسم "وحدة مكافحة الإرهاب" بالبدء بحفر نفقٍ تحت الحاجز. بلغت مسافة الحفر 495 متراً، وخلال عدّة شهور جرى تجهيز النفق. تفرّع إلى ثلاثة أفرع، فرع في شرق الموقع وفخخ بـ650 كغم من المتفجرات، وفرع في غرب الموقع وفخخ بـ650 كغم من المتفجرات، وفرع في وسط الموقع وفخخ بـ700 كغم من المتفجرات.

في 27 يونيو/ حزيران 2004 في تمام الساعة 9:43 مساءً، دوّى انفجار كبير هزّ المنطقة ودمّر موقع الحاجز. كانت تلك الضّربة التي تُعرف بـ"عملية نفق محفوظة" ردّاً على اغتيال أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسيّ، من أكثر عمليات المقاومة تعقيداً، وعزّزت مسار الأنفاق كوسيلة ناجعة في هز نظريات العدوّ.

بعد أيامٍ من العملية، نشرت كتائبُ القسّام شريطاً مصوّراً ظهر فيه ملثمان اثنان تحدث أحدهما قائلاً: "لن تمنعكم حصونكم، ولن تمنعكم جدرانكم الفاصلة، فقد سقطت نظرية الجدار الفاصل من قبل، وها نحن بإذن الله سنسقط نظرية المستوطنات والحصون المنيعة".

السّهم الثاقب، ما قبل الضربة الأخيرة

"بعد أن وصلتنا معلومات استخباريّة عن وجود نفق، يصل من شرق الشّجاعية إلى معبر "كارني"، قامت قوّة من الجيش بفحص المكان، وعندما اقتربت من بوابة النفق، تمّ تفجيره بعبوة ناسفة كانت مزروعة بداخله"،  زئيف بويم نائب وزير الحرب الإسرائيلي في حكومة اريئيل شارون الثانية. .

وقبل عملية طبش الاستشهاديّة، قامت مجموعةٌ أخرى من كتائب القسّام بقيادة فوزي أبو القرع بحفر نفق شرق مدينة غزّة، تحديداً في المنطقة الواقعة بين معبر كارني وموقع ناحل عوز، وذلك في مزرعة قريبة من "الحدود". كانت الخطّة مركّبة بحيث يتم استدراج الوحدات الخاصّة لفتحة النفق الذي جرى حفر جزءٍ كبيرٍ منه وتفخيخه هو والمزرعة، ثم يجري تفجيره، وبعدها ينقض الاستشهاديان من مكمنهما ويجهزا على بقية الوحدة الإسرائيلية.

لأجل ذلك، جرى تجنيد عميلٍ مزدوج من قبل القسّام، تكون مهمته إخبار الـ"شاباك" بمعلوماتٍ حول وجود نفق عسكريّ سيصل إلى معبر كارني في أيّ وقت، وإخبارهم كذلك أن هناك قائداً عسكريّاً للمقاومة سيكون في موقع النفق. وعليه، قرر الجيش التوّجه للمزرعة  لتدمير النفق وقتل أفراد المجموعة القسّامية، وذلك في السّابع من ديسمبر/ كانون الأول 2004.


في انتظارهم، كان الاستشهاديان مؤمن رجب وأدهم حجيلة مجهّزيْن بأسلحة خفيفة وعبوات برميلية، بهدف تفجير المزرعة وخوض اشتباك عسكريّ. أدّت تلك العملية حسب اعتراف العدوّ إلى مقتل الضابط نداف كودينسكي وكلبه الخاصّ، وجرح ثلاثة آخرين. وهي العملية التي عُرِفت باسم
السهم الثاقب.

هي إذًا ثقوب في الشاباك

لم تكن ضربتا السهم الثاقب وثقب في القلب، هما الضربتان الوحيدتان في تاريخ الـ"شاباك"، فجهاز المخابرات الحريص على سمعته جيّداً، تلّقى قبل ذلك عدّة ضربات مؤلمة، أهمها استدراج الضابط حاييم نحماني على يد ماهر سرور وقتله في شقته في القدس في 03/01/1993، واستدراج الضّابط نوعم كوهين على يد الشّهيد عبد المنعم أبو حميد وعبد الرحمن حمدان والأسير المحرر علي العامودي وتصفيته بالرصاص في رام الله بتاريخ 14/02/1994.

تجدر الإشارة إلى أن الـ"شاباك" تشدّد كثيراً بإطلاق سراح علي العامودي بناءً على وعد قطعه لأسرة الضابط كوهين بأن أحد قتلة أبنائها لن يخرج من السجن أبداً. لكن في عام 2011 أُطلق سراح العامودي على إثر صفقة شاليط بعدما كان أحد عقد إتمام الصفقة، حيث أدرج اسمه في اللحظات الأخيرة.1

وخلال الانتفاضة الثانيّة، في 31 يناير/ كانون الثاني 2002، قام مراد أبو عسل، أحد مقاتلي الجهاد الإسلاميّ، بتفجير نفسه في مجموعة من ضباط الــ"شاباك" في سيارة على حاجز الطيبة في الضّفة الغربيّة، مُخلّفاً 3 إصابات في صفوف الضباط. حينها، أشرفت سرايا القدس على عملية استدراج نفّذها أبو عسل، بعدما أوهم الـ"شاباك" أنه يُقدّم لهم المعلومات. كما قام حسن أبو شعيرة من كتائب شهداء الأقصى باستدراج يهودا أدري مسؤول الاستخبارات في منطقة بيت لحم وقتله في عام 2001.

ذرية بعضها من بعض

الملثم الذي قرأ البيان في عملية تفجير "محفوظة" في يونيو/ حزيران 2004، وتحدّث عن انهيار نظرية الحصون المنيعة هو الشّهيد عمر أبو عكر. استشهد أبو عكر عام 2008 بعدما رأى بشرى مقولته قد تحققت فعلاً. والذي كان بجانبه -في الشريط المصوّر لتبني عملية محفوظة- هو الشّهيد أشرف المعشر الذي كان له دور كبير في تفجير أول نفق في الانتفاضة الثانيّة أسفل موقع ترميد العسكريّ، وكذلك نفق عملية براكين الغضب. واشترك في عملية الوهم المتبدد التي اختطف فيها الجندي جلعاد شاليط، و استشهد أثناء تصديه لإحدى الاجتياحات في مدينة رفح عام 2006.

أما عملية السّهم الثاقب في ديسمبر/ كانون الأول 2004، فكان المسؤول فيها هو القائد الفذ فوزي أبو القرع، أحد أبرز قادة كتائب القسّام، والمسؤول عن عشرات العمليات الاستشهاديّة، والذي استشهد بعملية قصف استهدفته برفقة حسن المدهون قائد كتائب شهداء الأقصى في غزّة. أما أحد شهداء تلك العملية، وهو أدهم أبو حجيلة، له أخ هو محمد أبو حجيلة، الذي سيكون أحد أبطال عملية ناحال عوز في حرب 2014، وسيستشهد أثناء تصديه لطائرات العدوّ في 12 أبريل/ نيسان 2018.

والشّاب الذي جهّز الاستشهادي عمر سليمان طبش في عملية ثقب في القلب في يناير/ كانون الثاني 2005، وألبسه الحزام الناسف بنفسه، فهو الشهيد نور بركة، استشهد على إثر كشفه مجموعة تتبع لـ"سييرت متكال" في خانيونس في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018.

وبالرجوع إلى عمليات التسعينيات، بعد مطاردته على إثر قتله للضّابط حاييم نعماني، سيقوم ماهر سرور بصحبة صلاح عثمان ومحمد الهندي باختطاف الحافلة 25 في قلب مدينة القدس، بهدف مبادلة الرهائن بالأسرى الفلسطينيين، يستشهد خلال العملية ماهر سرور ومحمد الهندي.

الخلية التي قتلت الضّابط نوعم كوهين ضمّت عبد المنعم أبو حميد، وعبد الرحمن حمدان، وعلي العامودي، وكانت تخطط بعد عملية قتل الضّابط لاختطاف جنديٍّ إسرائيليّ ومبادلته بالأسرى. استشهد عبد الرحمن حمدان في الشّقة التي جهزها لعملية الاختطاف، وذلك بعد اشتباك دام لعشر ساعات ودفنت أشلاؤه في قبرين، الأول في أبو ديس والثاني في خانيونس. أما عبد المنعم أبو حميد فاستشهد بعملية اغتيال، وحُرّر العامودي إلى قطاع غزة بعد صفقة وفاء الأحرار.

وأخيراً، كان القائد الذي جهّز الاستشهادي مراد أبو عسل، هو إياد صوالحة أحد قادة الجهاد الإسلاميّ، استشهد بعد اشتباكٍ مسلّح ٍفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2002.

لم تكن المقاومة إذاً سوى "جدوى مستمرة"، وديمومة متواصلة من القتال والمعاناة والشّهادة.

  1. بحسب معلومات الباحث في شؤون المقاومة حمزة أبو شنب.