21 يونيو 2025

الجبهة الخفية.. كيف تُدير "إسرائيل" الحرب النفسية؟ 

الجبهة الخفية.. كيف تُدير "إسرائيل" الحرب النفسية؟ 

هل تساءلت يوماً من يقف وراء الصفحات الإسرائيلية النّاطقة بالعربيّة التي تغزو يومياً منصات التواصل الاجتماعي؟ هل خطر في بالك أنّ "أفيخاي أدرعي" و"المنسّق"1تسميات إعلامية لشخصيات إسرائيلية تهدف إلى كسر الحاجز النفسي بينها وبين الجمهور الفلسطيني والعربي المتلقي. فـ "أفيخاي أدرعي" عقيد في جيش الاحتلال الإسرائيلي يشغل منصب رئيس قسم الإعلام العربي في وحدة الناطق باسم الاحتلال. أما "المنسق"، فضابط برتبة لواء يختاره وزير الجيش الإسرائيلي لإدارة "وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية"، ليسا مجرد شخصيات إعلامية، بل أدوات في معركة عميقة تُشنّ على وعينا نحن؟ قد تبدو منشوراتهم عابرة أو حتى ساخرة، لكنّها في الحقيقة مدروسة وممنهجة، ومصمّمة بعناية لتوجيه إدراكنا.

ليست المسألة مجرّد منشورات أو تغريدات، بل مشروع متكامل يستهدف الوعي الجمعي، ويعيد تشكيل صورتنا عن أنفسنا، وعن عدونا، بل وعن مستقبلنا. في هذا السياق، ربما تصبح "الحرب على الوعي" أخطر من القصف، لأنها تستهدف أعماقنا، بتشكيل صورتنا عن ذواتنا، وعن عدوِّنا.

تنطلق هذه المقالة من دراسة صادرة عن "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)"، بعنوان: "قصة إنشاء مركز عمليات الوعي في الجيش الإسرائيلي". تشرح كيف يُصاغ الخطاب الموجّه لنا نحن الفلسطينيين، وتكشف عن الكواليس التي تقف خلفه. سنتتبّع كيف يفكر هذا المركز، ولماذا يعتبر صانع القرار الإسرائيلي أن السيطرة على الوعي تسبق السيطرة على الأرض.

ما هي "الحرب على الوعي"؟

تشير "الحرب على الوعي" إلى جهود منظّمة تهدف إلى التأثير على الإدراك الجمعي وحسم المعركة نفسياً وإعلامياً، لا ميدانياً فقط. في الحالة الفلسطينية، تتجلى هذه الحرب من خلال صفحات مثل "المنسّق" و"أفيخاي أدرعي"، التي لا تكتفي ببثّ رسائل مباشرة، بل تسعى لصياغة تصوّر معيّن  عن "إسرائيل" والمقاومة.

اقرؤوا المزيد: حين يُصبح الاحتلال مدرّب تنمية بشريّة 

تُوظّف "إسرائيل" هذه العمليات لتكريس صورة ذهنية تُظهرها قوةً أخلاقية ومتفوّقة عسكرياً، بينما تُشوّه صورة المقاومة وتُحمّلها مسؤولية المعاناة. خلال الحروب المتتالية على غزة، ترافقت الغارات مع حملات إعلامية تبرّر أو تنكر الجرائم، بهدف التلاعب بالوعي المحلي والعالمي.

المتحدث باسم جيش الاحتلال بالعربية، افيخاي أدرعي، ينشر صورة له في القنيطرة جنوب سوريا، خلال تنفيذ جيش الاحتلال عمليات عسكرية في المنطقة.
المتحدث باسم جيش الاحتلال بالعربية، افيخاي أدرعي، ينشر صورة له في القنيطرة جنوب سوريا، خلال تنفيذ جيش الاحتلال عمليات عسكرية في المنطقة.

في المقابل، يفرض التصدي لهذه الحرب بناء "المناعة القومية" في المجتمع الفلسطيني وتعزيزها، القائمة على تقوية التوعية النفسية والإعلامية والسياسيّة، لكشف أساليب "التلاعب الإدراكي" الإسرائيلي (التطفيل). وقد برزت خلال معارك مثل "سيف القدس" و"طوفان الأقصى"، جهود فلسطينية لخلق سرديّة مضادة، عززت من الصمود الشعبي، وكرّست الرواية الفلسطينية في مواجهة الدعاية الإسرائيلية.

مركز العمليات الإدراكيّة في الجيش الإسرائيلي

ترى الدراسة أنّ "المعركة على الوعي" بدأت تبرز باعتبارها مجالا مستقلا داخل الجيش الإسرائيلي، إلى جانب مهام "الهاسبراه" التقليدية التي اقتصرت على نقل الرواية الرسمية وتبرير أفعال الجيش أمام الخارج. لكن مطلع الألفية الثالثة شهد تحوّلاً نوعياً، حين بدأ قسم العلوم السلوكية في الجيش دراسة تأثير الخطاب الإعلامي على الإدراك العام، خصوصاً في حالات الطوارئ والحروب، ومع تصاعد التهديدات اللا متماثلة من تنظيمات "شبه دولتية" تستخدم الإعلام والدعاية سلاحاً رئيساً.

اقرؤوا المزيد: "ناس ديلي".. دُمية جديدة لتلميع "إسرائيل"

في هذا السياق، اقتنعت قيادة المنطقة الوسطى بضرورة التأثير الواعي على وعي الفلسطينيين والمستوطنين على حد سواء، متأثرة بالنموذج الأميركي في "إدارة الوعي" لتوجيه سلوك العدو وقراراته. ومع حلول 2004، طُرحت الحرب النفسية والاستخبارات الإدراكية كمجالات تستدعي بناء قدرات فورية، فتم تكليف ضابط متخصص من قسم العلوم السلوكية بقيادة المشروع.

جيش الاحتلال يعلق يافطة يهدد فيها الفلسطينيين بالقرب من منزل الأسير عز المسالمة، في قرية بيت عوا جنوب الخليل، والذي نفذ عملية إطلاق نار أدت لمقتل إسرائيلي وإصابة ثلاثة آخرين في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2024. (تصوير: مصعب شاور/ وكالة فرانس برس)

بدأت رحلة تأسيس "مركز العمليات الإدراكية" (מל"ת) ببناء المفهوم واعتماده رسمياً، ومن ثم إطلاق عشرات العمليات خلال سنواته الأولى. هكذا أُسّس مجال عملياتي جديد داخل الجيش الإسرائيلي، يعتبر الوعي ساحة مواجهة مستقلة، تتطلب أدوات وخططاً واستراتيجيّات تختلف جذرياً عن أدوات الحرب التقليدية.

تأسيس النظرية وبناء النموذج العملياتي

مع انطلاق "مركز العمليات الإدراكية"، برزت الحاجة إلى تطوير تصوّر معرفي شامل عن "الوعي" يتجاوز المهام الميدانية، ويؤسس لاستراتيجية طويلة المدى. تم العمل على ثلاثة مسارات متوازية: صياغة الأساس النظري للمجال، تحليل واقع الجيش في الحرب النفسية والخداع الإعلامي، ومقارنة التجارب القائمة في وحدات مثل "الناطق العسكري" و"المنسق" و"وحدة لبنان".

اقرؤوا المزيد: جنود الاحتلال.. عن وجودهم على "سوشال ميديا" أيضاً

بنى الفريق المؤسس مفهوماً للوعي بوصفه ظاهرة تُشكَّل ثقافياً ونفسياً، لا واقعاً قائماً بحد ذاته. وقد تأثر النموذج بمدارس ما بعد الحداثة التي تعتبر "الواقع" ساحة تنازع بين سرديات متضاربة. وعلى هذا الأساس، طُوّرت مستويات للتأثير الإدراكي تبدأ من البُنى العميقة (المعتقدات، الشعور بالتهديد)، مروراً بالمصالح (مثل بقاء الجماعة)، فالمواقف والسلوك، باعتبارها المعيار النهائي لقياس نجاح أو فشل العمل الإدراكي.

لكن واجه المشروع تحديات كبرى: على رأسها الفجوة في فهم "الآخر"، والنظرة المنحازة الناتجة عن العدسة الثقافية الإسرائيلية، إضافة إلى توظيف المعرفة عن العدوّ بشكل نَفعي يحدّ من إمكانات التعلم. ورغم ذلك، مثّل النموذج قفزة نوعية في فهم الوعي باعتباره جبهة قتال مكتملة الأركان، تُدار فيها المعارك عبر الإدراك.

من المخطط إلى التنفيذ.. كيف بُني مركز الوعي؟

مع تزايد القناعة بأهمية التأثير على الوعي كساحة مركزية في الحرب، وضعت الخطة التنظيمية لـ "مركز العمليّات الإدراكية" حزمة من المهارات الأساسية: القدرة على التخطيط والتنفيذ، استغلال موارد الجيش من دون تغييرات بنيوية، الاستجابة السريعة للظروف، والتأثير المتزامن على جماهير مختلفة. كما شدّدت على ضرورة الإدماج بين خبرات السياسة والأمن والاتصال.

رُبط المركز في البداية بشعبة العمليات لضمان تنسيقه مع قواعد البيانات وموارد بشرية على دراية بالثقافة العربية. لكنّ بناء القدرات، والحاجة إلى الوصول الاستخباراتي والجهوزية المستمرة فرضت نقله إلى إشراف شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، لتتولى تطويره وتشغيله ضمن منظومة "عمليات المعلومات".

المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، دانيال هاجاري، يقيم مؤتمراً صحفياً في تل أبيب، في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، قام خلاله بتبرير قصف واستهداف مستشفى في قطاع غزة ما أدى لاستشهاد وإصابة العشرات، مستعرضاً مجموعة من الخرائط والصور، والتي أثبت عدم صحتها فيما بعد. (تصوير: جيل كوهين ماجن/ وكالة فرانس برس)

تتكوّن الهيكلية من أربع قدرات محورية: بحوث الجماهير، تصميم الحملات الإدراكية، التدريب الداخلي والخارجي، وتفعيل التكنولوجيا المناسبة. أمّا مهامه فشملت إدارة التأثير الإدراكي، وتطوير معرفة دقيقة بجماهير الهدف، ومراقبة الهيئات ذات الصلة، وتمثيل الجيش دولياً، مع اعتماد "منهجية الحملة الإدراكية" بقيادة موزّعة بين المديرين المهنيين وقادة الحملات، خاصة على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية.

اقرؤوا المزيد:  صناعة العداء.. كيف مُهّدت الطريق لـ "إسرائيل"؟

بدأ المركز بإطلاق حملتين: الأولى في لبنان، والثانية في وسط وجنوب الضفة الغربية، ضمن سياقات ميدانية محددة. في كل حملة، شُكلت طواقم استخبارات وقيادة ميدانية تخطط وتنفذ وفق توجيهات هيئة الأركان. وشملت العمليات الإدراكية ثلاثة مستويات: بيضاء (مرسل معروف)، ورمادية (مرسل غير مُصرّح به لكن يُمكن كشفه)، وسوداء (مرسل مجهول).

تركز العمل أوّلاً على العمليات البيضاء لبناء الشرعية داخل المؤسسة، خصوصاً أنّ مجتمع الاستخبارات قابَل المركز بتوجس، لكونه لاعباً جديداً قد يغيّر موازين القوة داخل الجهاز.

اختبارات النار.. أين تدخّل مركز الوعي الإسرائيلي؟

تستعرض الدراسة ثلاث محطات شكّلت تجارب حاسمة لعمليات إعادة تشكيل الوعي، نفّذها "مركز العمليات الإدراكية" في الجيش الإسرائيلي، وهي: 

  1. الانسحاب من غزة (2005):

رأت "إسرائيل" في الخطاب الفلسطيني الذي قدّم الانسحاب باعتباره انتصارا للمقاومة تهديداً لصورتها الردعية، فردّت بحملات إعلامية ونفسيّة لنزع الصفة "الانتصارية" عن الانسحاب، وإضعاف السردية الانتصارية الناشئة، من خلال:

- لافتات وكتيبات: في محاولة لتقديم الانسحاب بصورة "مدنية" و"غير خاضعة للمقاومة"، صمّم مركز الوعي لافتات ضخمة تتحدث عن الحياة الفلسطينية المحتملة بعد الانسحاب، وعلّقها على نقاط مرور استراتيجيّة في غزة وشمال الضفة، كما وُزعت كتيبات رسم للأطفال تتضمن رسائل غير مباشرة عن الاستقرار والمعيشة الطبيعية، وجرى توزيعها على الحواجز الإسرائيلية ومعبر رفح.

- أغنية عربية موجّهة عن "غزة بعد الاحتلال": مشروع إعلامي لم يرَ النور، لكن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي دان حالوتس أوقف المشروع بدعوى أن الرمزية قد تأتي بنتائج عكسية وتخدم دعاية الخصم أكثر مما تنفع.

  1. أسر الجندي جلعاد شاليط (2006):

مثّلت عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط تصعيداً خطيراً فرض على "إسرائيل" رداً مُركّباً عسكرياً وإعلامياً ونفسياً، وكان مركز العمليات الإدراكية حاضراً بقوة، وقد فعّل المركز أدوات متعددة لإعادة توجيه الخطاب:

- اختراق إذاعات حماس والجهاد، لبث رسائل تبرز المعاناة الناتجة عن المقاومة.

- منشورات جوية تحث المدنيين على الابتعاد عن "أهداف حماس"، وتروّج لفكرة "جيش إنساني يحذّر قبل أن يضرب"، وزرع وعي بالخطر المادي المباشر الناجم عن احتضان الفصائل المسلحة، وعرض مكافآت ماليّة لمن يدلي بمعلومات عن مكان شاليط.

جيش الاحتلال يلقي منشورات ساخرة في مناطق متفرقة بقطاع غزة (المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي)

- إجراء الطَرقْ على السطح، طُبّق الإجراء الذي يجمع بين قنبلة صوتية تُلقى على سطح المنزل كتحذير، واتصال هاتفي مباشر بسكان المنزل لدفعهم إلى الإخلاء الفوري قبل الغارة، بهدف خلق صورة جيش متحضّر مقابل فصائل تبدو كأنها تستخدم المدنيين دروعاً بشريّة.

لكن رغم ذلك، لم تُسجّل تحولات تُذكر في دعم الشارع للمقاومة، ما كشف حدود التأثير الإدراكي عند التصادم مع بنى اجتماعية متجذرة، وفق الدراسة. 

  1. حرب لبنان الثانية (2006):

أنتج "مركز الوعي" 47 نوعاً من المنشورات التي وزعت في أماكن القتال، وبلغ عددها نحو 17 مليون نسخة، وتضمنت:

  1. منشورات جويّة تقليدية: تتهم الأمين العام السّابق لحزب الله حسن نصر الله بتدمير لبنان، وتحذّر المدنيين من البقاء في مناطق الاشتباك.
  2. أدوات غير تقليدية: كالبطاقات الساخرة والمعطّرة لكسر الهالة الكاريزمية لنصر الله، كُتب عليها: "نصر الله، دعنا نرحل برائحة طيبة". 
  3. اختراق الشبكات الخلوية: لبث رسائل تحذيرية للمواطنين.
  4. تشويش على فضائيّة "المنار": عبر بث مقاطع تمجّد الجيش الإسرائيلي وتُكذّب سردية الحزب.
  5. نشر قوائم قتلى الحزب: لإحراج القيادة ونقض رواية "الخسائر المحدودة".
  6. دعوات تعاون: منشورات تشجّع مدنيي الجنوب اللبناني على الإبلاغ عن عناصر حزب الله عبر وسائل اتصال سرية.
  7. تمويه إدراكي - عملية بعلبك: استُخدم فيه التضليل الإدراكي غطاءً لعملية ميدانية نوعية.

 

من يربح ساحة الوعي؟

تُدرك "إسرائيل" اليوم أن السيطرة على الوعي ليست مكمّلة للحرب، بل جوهرها. "صهر الإدراك" لم يعد مجرد أداة دعم، بل ساحة قتال رئيسة تُخاض فيها المعركة على سرديات الشعوب وثقتها بنفسها. 

خلال حرب 2023 على غزة، ظهر هذا التوجّه بوضوح: منشورات جوية، لافتات في الشوارع، حملات رقمية، وتصريحات باللغة العربية، جميعها صُمّمت لإرباك الفلسطينيين وشقّ صفوفهم داخلياً.

لكن مقابل هذا السيل من الأدوات، تشكّل خطاب فلسطيني مقاوم مضادّ، أعاد تعريف الوعي بأنه ساحة صمود لا ساحة انكسار. سرديات جديدة نشأت من تحت الأنقاض، لتؤكد أنّ السيطرة على الأرض قد تبدأ بالوعي، لكنها لا تكتمل به وحده، وأنّ ساحة الوعي ساحة مركزية لا يمكن إغفالها.