1 مايو 2021

الانتخابات وقد تأجلتْ.. متى نخرجُ من نفق السُّلطة المُظلِم؟

الانتخابات وقد تأجلتْ.. متى نخرجُ من نفق السُّلطة المُظلِم؟

36 قائمةً بـ 1389 مرشحاً، بروتوكولات ومواثيق "شرف" في القاهرة، وإعلانات ومفاوضات قبلت "إسرائيل" أن تصل إلى أسوار السّجون، تحليلات وتنبّؤات، تسريبات وأجواء مشحونة. ثلاثة أشهر من بحر التفاصيل هذا ذهب أدراج الرياح، بعد أن أدرك حزبُ السّلطة بقيادة محمود عبّاس أنّه قد لا يُحقق فوزاً حاسماً في الانتخابات التشريعيّة، وبعد أن نقلت له "إسرائيل" توقعاتٍ بفوز حركة "حماس" خاصّةً في الضفّة الغربيّة. 

كما بات معلوماً فإنّ قرارَ تأجيل الانتخابات، أو بدقّةٍ أكبر: إلغائها، جاء بسبب خشية النخبة الحاكمة حول عبّاس من توّزع أصوات الفتحاويّين وغيرهم من المؤيدين على ثلاث قوائم: قائمة "فتح" الرسميّة، وقائمة محمد دحلان، وقائمة التحالف بين مروان البرغوثي وناصر القدوة. وكان قرارُ البرغوثي التحالف مع القدوة أولَ ما دقّ ناقوس الخطر في وجهِ تلك النُخبة حول المقاطعة، إذ تُشير بعض المصادر أنّ قرارَ التأجيل اتُخذ منذ مطلع أبريل/ نيسان الماضي، أي بعد أيامٍ قليلةٍ من قرار البرغوثي الترشح.

اقرؤوا المزيد: "مروان البرغوثي.. التأرجح على خلافات فتح".

كان المحرّك الرئيس للإعلان عن هذه الانتخابات هو محاولة النفخ من جديد في "شرعيّة" الرئيس عبّاس، وخاصّةً بعد ضغوطٍ أوروبيّةٍ وأميركيّةٍ بهذا الشّأن. وعندما أدركت تلك النخبةُ الحاكمة أنّ بإمكان الإرادة الشعبيّة الإطاحة بها من خلال صندوق الاقتراع، أقنعت أصحابَ الضغوطات عليها وقرّرت تأجيلها. وكما هو واضح، فإنّ الخوف على الخسارة ليس قلقاً على انتهاء مشروعٍ "فريدٍ" تحمله قيادةُ السّلطة، خاصّة أنّ منافسيها من داخل "فتح" لا يحملون مشروعاً مضادّاً له، وأنّ وصول "حماس" إلى الحكم في الضفّة شبه مستحيل، وإنّما هو خوفٌ على مصالحها وامتيازاتها، من تنفذٍ أمنيّ واقتصاديّ، وتفردٍ سياسيّ، وصولاً إلى الأولوية في لقاح "فايزر". 

الهشاشة!

طوال 15 عاماً دأب عبّاس في محاولاته الحثيثة لتثبيت حكمه وسدّ أيّ ثغرات من الممكن أن يستغلّها خصومه، السياسيّون منهم والشخصيّون كذلك. صار رئيساً للجنة التنفيذيّة في منظمة التحرير فأحكم السّيطرة عليها وعلى مفاصلها، كمثال الصندوق القوميّ الفلسطينيّ، الذي سخّره لمُكافأة من يواليه ومُعاقبة من يُعارضه. نصّب نفسه الآمر الناهي على حركة "فتح"، وصيّر السُلطات الثلاث لخدمة موقعه؛ أبطل المجلس التشريعيّ من خلال المحكمة الدستوريّة التي شكّلها هو بنفسه، وضَمِنَ من خلال سلسلة من التعديلات التي طالت قوانين السّلطة القضائيّة التحكمَ الكامل، له وللمقربين منه، بكلِّ أشكال وأذرع القضاء، ناهيك عن كونه المسيطر التام على السّلطة التنفيذيّة.

اقرؤوا المزيد: "القضاء الفلسطينيّ.. كيف يؤمّن عبّاس نفسه؟".

وعندما أصبح الذهابُ للانتخابات "مساراً" لا بدّ منه، لاحت له ضرورة تجديد مظاهر هذه السّيطرة التامة وإحكامها إحكاماً تاماً لا لضمان ما لديه الآن فحسب، وإنما لضمان أنّه سيبقى له بعد نتائج صناديق الاقتراع. وحتى تكون النتائجُ مفصلةً على مقاس مقاطعة رام الله، فرض عبّاس على حركة "حماس" شروطه على شكل الانتخابات: لا تزامن في التشريعيّة والرئاسيّة والمجلس الوطنيّ، التمثيل النسبيّ فقط ولا قوائم للأفراد، والمرسوم الرئاسيّ سابقٌ على أي دعوة للحوار الوطنيّ. 

ثمّ أصدر قراره المتعلق بإجراء تعديلات على قانون الجمعيات الأهليّة بما يضمن تغولاً واضحاً للسلطة التنفيذيّة عليها، إضافةً إلى القرار بإرجاء انتخابات النقابات والاتحادات والمنظمات الشعبيّة لمدة 6 أشهر لضمان عدم وقوع أي انشقاقات جديدة داخل حزبه. 

طفل فلسطينيّ يلهو بالقرب من جداريّة تحث على المشاركة في الانتخابات، 28 أبريل/ نيسان 2021. (محمد عبد/ AFP)

يُضاف إلى ذلك تاريخٌ طويل من الاشتغال على تفكيك البنى الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة للمُجتمع؛ من ربط الناس بمعاشات تتأخّر وبنوك تُطالب بأقساط، ومُحاربة العمل الخيريّ والمؤسسات الأهليّة الفاعلة، ومحاربة الأحزاب المعارضة وإقصائها عن المشهد والتنكيل بها، وضمان أحزابٍ بشرائِها بوزارات هُنا ووظائف هناك.

بعد كلّ ما في هذا من تفريغٍ للمشهد السياسيّ ليصبح لأبو مازن وزمرته، إلا أنّه ما زال يخشى الخسارة في الانتخابات أمام منافسيه من حركة "فتح"، وأمام حركة "حماس" التي هي في أضعف أحوالها في الضفّة الغربيّة، ويرمي لنا عوضاً عنها فكرة إعادة تشكيل الحكومة وكأنّ المشكلة فيها لا في مشروعه ووجوده هو والنخبة الحاكمة من حوله.

اقرؤوا المزيد: "الانتخابات هي الحلّ، ولكن لأي مشكلة بالضبط؟".

من خلال النظر في هذا السّياق، يُمكننا القول إنّه رغم ما قد يُبديه هذا التغوّل من صلابةٍ، إلا أنّ تأجيل الانتخابات يكشف أيضاً ما عند هذه النخبةِ من هشاشةٍ أيضاً، فهي تعلم بأنّ لا حاضنة شعبيّة لها، وأنّ ليس هناك من تعوّل عليه تماماً لضمان بقائها في مواقعها خاصّة أن بذور الانشقاقات فيها لا تُعدُّ ولا تُحصى. 

القُدس بوصفها طُعماً أو "إسرائيل" بوصفها مُنقذاً

وبما أنّ كلّ مظاهر السّيطرة تلك لم تنجح في نفي مخاوف الخسارة، كان لا بد من ذريعة. وهنا استُحضِرَت القدس، المدينة التي فرّطت بها منظمةُ التحرير ومن بعدها السّلطة الفلسطينيّة، لتكون أداتها للخروج من ورطة الانتخابات.

على مدار شهرٍ كامل، لم تُوفّر تلك النخبة الحاكمة وسيلةً إلا واستخدمتها للتمهيد لانسحابها من الانتخابات تحت شعار "لا انتخابات بدون القدس". مظاهرات مفتعلة، وضخٌ إعلاميّ مكثّف قوامه التصريحات المتكررة من مختلف أطراف تلك النخبة، سواء منهم مباشرةً، أو من خلال تعمدهم ترويج أخبار غير دقيقة، سرعان ما يتم نفيها، كما حصل في الخبر عن أن هيئات أسرى "فتح" تدعو لتأجيل الانتخابات لأجل القدس.

هكذا حاولت السّلطة أن يبدو ذلك الشّعار خيارَ النّاس، وأن تلك "القيادة" تسير وراء نبض الشارع. بل لم تخجل حتى من استخدام القدس، وهي في واحدة من أبرز معاركها على هويتها العربيّة، حين حاولت الركوب على هبّة باب العامود، وتلفيق الأخبار أنّ ما يجري هناك هو من ترتيب أبو مازن شخصيّاً،  بل أنّ وكالتها الرسميّة ذهبت إلى نشر صور لتجمع المقدسيين في باب العامود على أنّه "تأييدٌ لقرارات تلك القيادة".

ليست القدس سوى "حجة"، ليس فقط لأن ما يدعو فعليّاً لتأجيل الانتخابات هو مخاوف "فتح" الرسميّة من خسارتها، إنما كذلك لأنّ السّلطة الفلسطينيّة لم تتخذ أي خطوةٍ جديّةٍ من أجل فرضها في القدس. يعلم النّاس ذلك تماماً، كما تعلمه "إسرائيل"، لذلك لم تُعطِ جواباً رسميّاً ومباشراً، وتركت الأمور كما هي حتى ترى مدى جديّة أبو مازن في خطوتِهِ حتى النهاية.

اقرؤوا المزيد: "الانتخابات والقدس: عيوننا إليكِ ترحل هاليومين".

صحيحٌ أنّه من المحتمل جداً أن تمنع "إسرائيل" إقامة الانتخابات في المدينة التي تعتبرها "عاصمةً موحدةً" لها، لكنّ هذا الأمر كذلك يُعطينا صورةً عن "المقاومة الشعبيّة السلميّة" التي طالما تبنّاها أبو مازن في خطابِهِ، والتي اتُفِقَ على تفعيلها كجزء من مسار المصالحة الذي بدأ في يونيو/حزيران الماضي. وهي ذات المقاومة التي استخدمها  في خطابه مساء الخميس، ووصفها بأنّها " الطريق الوحيد لمقارعة هذا العدوان على شعبنا". 

لم يلتزم أبو مازن حتّى بالسقف الذي وضعه لنفسه، فهو لم يُمارس مقاومةً شعبيّة سلميّة واحدة، فلو كان صادقاً لسار في هذا المسار حتى نهايته، وفي حال منعه إسرائيلياً كان يمكن استخدام هذه الوسيلة التي يُقدّس، من خلال التحدي ووضع الصناديق في مختلف المؤسسات الفلسطينيّة في المدينة. كان يُمكن لموضوع الانتخابات في القدس -بغض النظر عن الموقف من الانتخابات نفسها - أن يصبح شكلاً من أشكال مشاغلة "إسرائيل" في سيادتها على المدينة.

لكنّ السّلطة التي لم تثابر حتى لتثبيت مؤسسةٍ وطنيّةٍ واحدة في القدس، ليست معنيّة بطبيعة الحال حتى بتثبيت صندوق اقتراعٍ واحد، إلا إذا جاء بما يرضيها. وهذا ما لم يُغفله الضخّ الإعلاميّ، فالمجدلاني يقول: "صناديق الانتخابات ليست صناديق تبرع لتوضع في المساجد والكنائس" (بينما من العادي وضعها في مراكز البريد الإسرائيلية- كما ينص بروتوكول أوسلو، وكما حصل عام 1996 و2006)، وعزّام الأحمد يخبرنا أنّه لا توجد انتخابات في ظلّ الاحتلال. والأخبار تقول إنّ السّلطة رفضت اقتراحاً أوروبيّاً بوضع صناديق الاقتراع في مقرّات الأمم المتحدة.

شبان يؤدون صلاة التراويح في ساحة باب العامود خلال الاحتجاجات على إغلاقه من قبل شرطة الاحتلال، وهي الدعوة التي لم تدعمها أي مرجعية دينيّة في القدس.

لقد أهمل حزب السلطة القدس إهمالاً تاماً. فعلى مدار السنوات الأربعة الأخيرة لم تتجاوز ميزانية وزارة شؤون القدس فيها المليون والنصف مليون دولار سنويّاً، ودأبت منذ تأسيسها إلى تعزيز رام الله كعاصمتها الأبديّة والثابتة، وهي لا تعلم فعليّاً ماذا يجري في المدينة من سياسات التهويد والأسرلة المكثفة، ولا تتعامل معها إلا ككعكة يجب توزيع الحصص فيها على كلّ طرف لإرضائه. وهكذا نجد عدّة مسميات بإشرافها تعمل "لأجل القدس": المؤتمر الوطني الشعبي للقدس، محافظة القدس، وزارة القدس، دائرة القدس في قسم الرئاسة، إلخ، لكنها ليست سوى توزيعاً للمناصب والامتيازات كما تفعل في جميع القطاعات. 

اقرؤوا المزيد: "بيانات وانشقاقات و"طخطخة": ماذا فعلت الانتخابات بالفصائل؟".

لا "تتمسّك" السلطة بالقدس إلا حين تخشى على نفسها، وهو تمسّك لا يظهر إلا في الخطابات والحجج، فيبدو كأنّه استخفاف بالقدس. لا يُمكن أن تُجرى الانتخابات في القدس من واقع هذا التفريط، ولا من التجمّع في الفنادق (الذي أشار له أبو مازن باعتباره واحدة من الخطوات التي اتخذت لفرض الانتخابات في المدينة)، ولا في تقبّل المهانة من العدو بتركه يمنّ علينا كيفما يشاء، ولا بالاقتصار على اعتبار القدس جزءاً من المنظومة الانتخابيّة، ولا بانتظار الموافقة من "إسرائيل" بالسماح بإجرائها في مراكز بريدها. إنّ المحاولة الجديّة واعتبار القدس مكاناً للمواجهة مع الاحتلال، لا يكون إلا بفرض الانتخابات فيها على الإسرائيليين فرضاً. في هذه الحالة يُمكن أن تصبح الانتخابات في القدس شكلاً من أشكال المواجهة، وحينها يُمكن أن نأخذَ خطابات أبو مازن بقليلٍ من الجديّة.

الأمل بعيداً عن الحزب الحاكم

جاءت خطوةُ تأجيل الانتخابات لتُذكّرنا، وتُقنع من هو مُتشكّك منّا، بأنّ لا أمل يُستجدى من هذه النخبة الحاكمة التي تحمل مشروعاً سياسيّاً همّه الأساس تحقيق مصالحها الضيّقة وحراستها على حساب القضية الفلسطينيّة وتحدياتها، وأنّها غير مستعدة للمواجهة حتى ولو كان شكل تلك المواجهة بضعة صناديق اقتراع في مركز بريدٍ إسرائيليّ.

الأخطر من ذلك، أنّ المشروع السياسيّ لهذه النخبة الفاسدة أصبح على ما يبدو مجال اشتغال السياسة الفلسطينيّة بمختلف فواعلها، وهو مجالٌ على أرضيّة زلِقة، وليس من الطبيعيّ أن لا يبادر أحدٌ من الفصائل الفلسطينيّة، وبالأخصّ تيار المقاومة، على العمل لتغيير هذه الأرضيّة والعمل من خارجها.

لقد كانت الانتخابات خيار أبو مازن كمسارٍ يُراد له - كما زعموا- تحقيق "الوحدة الوطنيّة"، ولأجله صدقته "حماس" ومشت معه وتنازلت عن شروطها السّابقة لإجراء الانتخابات شرطاً بعد الآخر، ثمّ عندما قلق أبو مازن على كرسيه أصدر قراراً بإلغائها. لا يتعلق الأمر بما جرى في العامين الأخيرين فقط، إنما هي ذات "الرؤية" والمسار الذي يكرر نفسه منذ أكثر من عقد، والذي ما فتأت "حماس" تخنق نفسها وخياراتها تحت سقفه.

في ظلّ هذا وغيره، ليس من المعقول أن يظلّ تيّارُ المقاومة مرهوناً للسياسة التي خطّها حزبُ السُّلطة، وألا يجترح ممكناتٍ خارج هذا الخطّ، وهو لديه من الرصيد الشعبيّ ومن الواجب الوطنيّ كذلك، ما يفوق رصيد خطابات المراسيم الانتخابيّة، والذي يؤهله لاشتقاق رؤية سياسيّة جديدة تُعيد الروح للشارع الفلسطينيّ، والذي لا يكفّ عن مفاجئتنا بقدرته على وقف تقدّم الآلة الاستعماريّة.

وكما هو متوقّع، لم تُنهِ الانتخاباتُ (أو السعي لها) الانقسام، بل أعادت إنتاجه. ولم تُرتّب البيت الفلسطينيّ كما قيل إنّها ستفعل، بل زادته كركبةً. كذلك، لم تكن الانتخابات طريقةً لمواجهة الاحتلال، بل على العكس فقد ثبّتت المعادلة التي وضعها. لم يكن هناك سؤال جديّ عن مُشاركة اللاجئين في الانتخابات، ويبدو مُستهجناً الاعتراض على غياب فلسطينيي الـ48، أمّا القدس فهي في طريقها إلى الخروج نهائيّاً من مُعادلة الانتخابات إذا ما بقيت ردود الفعل السياسيّة، وخاصّة من تيار المقاومة وفصائل المعارضة، بهذا المستوى. 

ليس ذلك كلّه دفاعاً عن الانتخابات بوصفها أفقاً لقضيتنا، بل تذكيراً وتنبيهاً على ضيق الأفق السياسيّ الذي وضعنا فيه حزب السُّلطة. وهو أفق ما يفتأ ينخفض سقفه، حتى يهرس أيّ أمل بمشروع وطنيّ تحرّري، ويُعمينا عن النظر إلى أفق واسع، بعيداً عن أنفاق النخبة الحاكمة في رام الله.