23 مارس 2021

مروان البرغوثي.. التأرجح على خلافات "فتح"

مروان البرغوثي.. التأرجح على خلافات "فتح"

مع الإعلان عن إجراء الانتخابات الفلسطينيّة التشريعيّة والرئاسيّة هذا العام، عاد مُجدداً الحديث عن ترشح الأسير مروان البرغوثي وشكل مشاركته فيها، سواء خارج قائمة "فتح"، أو داخلها. ويبدو أن احتمالية هذا الترشح ونتائجه التي قد "تُغيّر اللعبة" حسب تعبير البعض، ألقت بظلالّها على حركة "فتح" حتى أوفدت حسين الشيخ ليفاوضه في سجنه. في هذا المقال رصد لأبرز محطات البرغوثي من نشاطه صبيّاً في حركة "فتح" إلى دوره وتأثيره من داخل سجون الاحتلال.

وُلِدَ مروان حسيب البرغوثي في كوبر شمال غرب مدينة رام الله عام 1959، وفيها نشأ والتحق في سنٍ مبكرة بالفعاليات الوطنيّة ضمن صفوف حركة "فتح". منذ بلوغه الخامسة عشر من العمر تعرّض للاعتقال من سلطات الاحتلال، وقضى في السجن عدة محكوميات. خلال فترة سجنه أواخر السبعينيات حصل على شهادة الثانويّة العامّة، وبعد خروجه التحق بجامعة بيرزيت إلى أن تخرج منها بدرجة البكالوريوس في التاريخ والعلوم السياسيّة. 

خلال الثمانينيات ساهم البرغوثي في تأسيس منظمة الشبيبة الفتحاويّة في الأراضي المحتلّة، وتوّلى رئاسة مجلس طلاب جامعة بيرزيت لدورات متعاقبة، وتعرّض للمطاردة والملاحقة وموجات من الاعتقالات الإداريّة وفرض الإقامة الجبريّة. بعد انطلاق الانتفاضة الأولى عام 1987، أصدر الاحتلال الإسرائيليّ بحقّه قراراً بالإبعاد إلى الأردن. من هناك توجه إلى تونس لتبدأ رحلة صعوده التنظيميّ والسياسيّ بعد اقترابه من قيادة الصّف الأول في حركة "فتح" وعمله إلى جانب خليل الوزير لفترة وجيزة قبل اغتياله. عام 1989 انتخب البرغوثي عضواً في المجلس الثوريّ للحركة في مؤتمرها الخامس. 

الأمل بـ"أوسلو"

في أبريل/ نيسان 1994 كان مروان البرغوثي ضمن المجموعة الأولى من مُبعدي الأرض المحتلة العائدين عقب توقيع اتفاقيّة أوسلو. بعد عودته، تصاعد حضور البرغوثي على مختلف الجبهات السياسيّة والتنظيميّة والمجتمعيّة، فانتخب نائباً للراحل فيصل الحسيني وتولّى منصب أمين سر حركة "فتح" في الضفة الغربيّة. عام 1996، دخل سباق الانتخابات التشريعيّة الأولى مُرشحاً لحركة "فتح" عن دائرة رام الله، وحصل على 12,716 صوتاً منحته المركز السادس على الدائرة. 

شهدت سنوات ما قبل الانتفاضة الثانيّة نشاطاً وزخماً واضحاً لمروان البرغوثي، إذ سعى لإعادة ترتيب وبناء تنظيم "فتح" في الضفّة الغربيّة، وحرص على زيارة القرى والمخيمات وتطوير البنية التحتيّة فيها بالتنسيق مع المجالس البلديّة والهيئات المختلفة. كما توّسع نشاطه السياسيّ تلك الفترة إلى اتصالات ولقاءات مع ناشطي اليسار الإسرائيلي و"جمعيات السلام" حول العالم، وكان في تلك المرحلة يحمل آمالاً واسعة بأن نهج السّلام وأجواء أوسلو ستقود لإقامة دولة فلسطينيّة على حدود عام 1967. 

بعد شهر واحدٍ على اندلاع الانتفاضة، أعرب البرغوثي عن "الخيبة العميقة" التي تراكمت لدى الفلسطينيين نتيجة عدم ترجمة الاتفاقيات على الأرض، وقال إنه يستحيل التوصل إلى اتفاق يلبي الحدّ الأدنى مع حكومة ايهود باراك، وإن سلاح "فتح" حاضر وستحافظ عليه حتى الحرية والاستقلال.  

ملاحقاً في الانتفاضة

مع تصاعد انتفاضة الأقصى، كان لــ "أبو القسام"، كما يُكنى، حضوره البارز فيها؛ يشارك  في المظاهرات، ويطوف على بيوت عزاء الشّهداء، ودائم الحضور في اللقاءات الصحافيّة. في لقاء مجلة الدراسات الفلسطينيّة مطلع عام 2001، وصف الانتفاضة بأنها ثورة حقيقيّة أسّست لمرحلة تاريخيّة جديدة بمسارين اثنين: المظاهرات الشعبيّة والمواجهات المسلّحة، وهاجم التنسيق الأمنيّ وطالب الأجهزة الأمنية بحماية الشعب الفلسطينيّ وكوادر الانتفاضة واستهداف العملاء. 

البرغوثي خلال تبادل إطلاق نار في رام الله خلال سنوات الانتفاضة الثانية (عدسة: أنطوني جيوري، وكالة Sygma)

لم تكد انتفاضة الأقصى تتم عامها الأول، حتى توالت الاتهامات الإسرائيليّة للبرغوثي بالمسؤولية عن عدد من العمليات التي نفذها الجناح العسكريّ لحركة "فتح". وبعد نجاته من محاولة اغتيال بقصف موكب سيارات ترجّل منه أمام مكتبه في رام الله بتاريخ 4/8/2001 وأصيب فيه مرافقه الشهيد مهند أبو حلاوة، ردّ البرغوثي بتهديد "حكام تل أبيب بدفع الثمن غالياً"، وأن الردّ سيكون بتصعيد المقاومة. 

بعد شهر، أصدرت محكمة إسرائيلية مذكرة توقيف بحقّه، وطلبت حكومةُ الاحتلال من السّلطة الفلسطينيّة رسميّاً تسليمه. ذكر بيان وزارة العدل الإسرائيلية أنّ أمر الاعتقال يستند إلى "الاشتباه بأن البرغوثي ضالع في محاولات القتل وحيازة أسلحة بدون ترخيص والعضوية في تنظيم محظور". نفى البرغوثي تلك الاتهامات في حينه مؤكداً أنّ دوره سياسيّ وليس على أي صلة بالأعمال العسكريّة.

اقرؤوا المزيد: "من الرصاص إلى العفو.. سيرة كتائب شهداء الأقصى".

تركّزت الاتهامات الإسرائيلية للبرغوثي على كونه ضابط الاتصال بين ياسر عرفات وقادة المجموعات المسلحة لحركة "فتح"، وأنه المسؤول المباشر، مع مرافقه الشخصيّ أحمد البرغوثي، عن توفير السّلاح والتمويل الماليّ والمأوى وإعطاء الأوامر لتنفيذ العمليات العسكريّة. لاحقاً، أظهرت الوثائق التي صادرها جيش الاحتلال من مقرات السّلطة أنّ البرغوثي لم ينخرط في أيّ ممارسات عسكريّة على الأرض لا إشرافاً ولا توجيهاً، وأنّ دوره اقتصر على رعاية بعض مجموعات الكتائب بصفته التنظيميّة وكونه حلقة الوصل بينهم وبين عرفات، مساهماً بتمرير ما يصله من طلبات للدعم الماليّ أو العسكريّ إلى مكتب الرئيس، وصرف هذه الأموال على هيئة "معونات ومساعدات ماليّة لبعض الإخوة". 

البرغوثي خلال مثوله أمام أولى جلسات محاكمته في المحكمة المركزية الإسرائيلية في تل أبيب، 2002.

بعد أسابيع من المطاردة، وفي 15 أبريل/ نيسان 2002، اعتقل الاحتلال مروان وذراعه الأيمن أحمد البرغوثي من مدينة رام الله. وبعد أشهر من التحقيق المتواصل، وجلسات المحاكم المتكررة صدر الحكم عليه عام 2004 بالسجن خمسة مؤبدات وأربعين عاماً. كانت التهم الأساسية الموجهة له: الضلوع في قتل 5 إسرائيليين، ومحاولة قتل لإسرائيلي آخر، والمشاركة والمسؤولية عن 4 عمليات أخرى، والنشاط والعضوية في تنظيم "إرهابي". واعتبر القرار أنّه لم توجد أدلة فعلية على مسؤولية البرغوثي عن كل العمليات التي نفذتها كتائب شهداء الأقصى، إلا أنّه -حسب القرار- قدّم لمنفذيها المال ووسائل القتال، وصادق في بعض الأحيان على تنفيذ العمليات. بالإضافة إليه، حُكِم على مرافقه الشخصي أحمد البرغوثي بالسجن لمدة 13 مؤبداً. 

من ذراع أبو مازن إلى منافسته

عام 2003 أعلنت الفصائل الفلسطينيّة وقفاً للعمليات العسكريّة لمدة ثلاثة شهور في مقابل وقف الاحتلال للاغتيالات والاجتياحات. جاءت صيغة الاتفاق التي أعدّها البرغوثي داخل سجنه وحظيت بموافقة حركتي "حماس" والجهاد الإسلاميّ دعماً لجهود الحكومة الفلسطينيّة برئاسة محمود عباس، وشكّلت أولى المحطات في الحضور المتواصل للبرغوثي من داخل سجنه في تفاصيل المشهد الفلسطينيّ. 

واصل الرجلُ من سجنه دعم جهود عبّاس الرامية لوقف "العنف" وإحياء مسار السّلام، ودعمه كمرشح حركة "فتح" لمنصب الرئاسة. لاحقاً، ترأس البرغوثي قائمة الحركة في الانتخابات التشريعيّة عام 2006، وتعهد في دعايته الانتخابيّة باجتثاث الفساد ومحاربته مطالبا الشعب بمنح حركة "فتح" فرصة أخرى. في المقابل سعى عباس ومعه محمد دحلان إلى رد جزء من الجميل للبرغوثي خلال قمة شرم الشيخ عام 2005، والتي تعهدت "إسرائيل" خلالها وفي بادرة حسن نية بالإفراج عن 250 أسيراً فلسطينياً بينهم قسام نجل مروان. لاحقاً قالت "إسرائيل" إن اسمه أُدرج بالخطأ في قوائم المنوي الافراج عنهم. ثمّ جدّدت قيادة السلطة مطالبتها بالإفراج عن البرغوثي خلال قمة عباس – أولمرت في شرم الشيخ 2007، وهي مطالبة أعرب وزير البيئة الإسرائيلي جدعون عزرا عن تأييده لها دعماً لمحمود عباس، قبل أن تحسم وزيرة الخارجية تسيبي ليفني الجدل بالقول إن الإفراج عن البرغوثي غير مطروح للنقاش.1كذلك كرّر عباس المطالبة بالإفراج عن البرغوثي خلال اللقاءات الأمنية التي جمعته كرئيس للوزراء مع نظيره الإسرائيلي أرئيل شارون خلال أعوام 2003 – 2005.

ومن داخل سجنه واصل البرغوثي حضوره، فاستقبل مختلف الوفود، منها وفدٌ دوليٌّ من الصليب الأحمر، ونواب فلسطينيين في الـ"كنيست"، وقيادات في السّلطة الفلسطينيّة، ومسؤولين في الحكومة الإسرائيليّة منهم افرايم سينيه نائب وزير الأمن الإسرائيلي سابقاً. وفي عام 2007، جدّد دعمه لمؤتمر أنابوليس، ووصفه بـ"الفرصة الذهبيّة المحظور تفويتها لتحقيق السلام"، مؤكداً أنّ عباس مخول من الشعب الفلسطيني للتفاوض مع "إسرائيل". كما كان الحضور الأبرز له من داخل سجنه توقيعه عام 2006 نيابة عن حركة "فتح" وثيقة الأسرى، التي عُدلت لاحقاً لتصبح وثيقة الوفاق الوطنيّ، سعياً لحقن دماء الفلسطينيّين بعد الاشتباكات المسلحة التي أعقبت فوز "حماس" بانتخابات 2006.  

اقرؤوا المزيد: "دحلان.. سيرة الأخطبوط".

توالت سنوات الوفاق بين البرغوثي وقيادة السّلطة الفلسطينيّة وحركة "فتح" حتى وصلت بداية نهايتها بعد فوزه بعضوية اللجنة المركزيّة للحركة خلال المؤتمر السادس الذي عقد عام 2009. في ذلك العام، فاز البرغوثي بأعلى عدد من الأصوات في انتخابات اللجنة المركزيّة لحركة "فتح" في مؤتمرها السابع، لكنه أُقصي من تولي منصب نائب رئيس الحركة لصالح محمود العالول. أشعل ذلك المزيد من الشقاق بينه وبين السّلطة، وقد وصفت فدوى البرغوثي يومها هذا الإقصاء بأنّه "انصياع لتهديدات نتنياهو".

وفاق الماضي لم يستمر طويلاً، وكان إضراب البرغوثي و1500 أسير فلسطينيّ عن الطعام عام 2017 واحدة من المحطات التي ظهرت فيها محاربة عبّاس وقيادة السّلطة للبرغوثي ونشاطه. وشهدت فترة الإضراب اتهامات علنية من زوجته فدوى البرغوثي لأطراف من "فتح" والسلطة بالسعي لإفشاله.

ملصق انتخابيّ تظهر فيه صورة الرئيس الراحل ياسر عرفات يحمل صورة مروان البرغوثي، على حائط في رام الله، خلال فترة الدعاية الانتخابية لانتخابات المجلس التشريعي 2006. (عباس المومني/AFP)

ومع احتدام المواجهة الفتحاويّة الداخليّة بين محمود عباس ومحمد دحلان، تعززت الشواهد على عزم دحلان مدعوماً بحلفه الإقليميّ الاستثمار في سيرة واسم البرغوثي في وجه محمود عباس. جاءت أول هذه الشواهد في مقابلة تلفزيونيّة مع دحلان عام 2015 أكدّ فيها دعمه البرغوثي في أي انتخابات رئاسيّة قادمة. وبعد ذلك بعام، زارت فدوى البرغوثي القاهرة -حليفة دحلان- والتقت وزير الخارجية المصريّ سامح شكري، والذي أصدر بعدها بياناً للتعبير عن"تقدير مصر البالغ للسيد مروان البرغوثي، وعزمها مواصلة بذل الجهد من أجل الإفراج عنه". وقد حملت لقاءات فدوى في القاهرة وإجاباتها على أسئلة الصحافيين إشارات واضحة إلى مروان بصفته الزعيم القادم.

ما "الجديد" عند مروان؟

حسم ناصر القدوة قراره بخوض سباق الانتخابات، ودفع ثمن هذا القرار بفصله من اللجنة المركزية لحركة "فتح" وتجميد صرف مخصصات مؤسسة ياسر عرفات التي يديرها، في وقت لم تظهر حتى اليوم أي ملامح واضحة لآليات أو شكل مشاركة تيار محمد دحلان في الانتخابات. وبين هذين المشهدين لم يتضح بعد موقف معلن ونهائي للبرغوثي. تلف هذا المشهد علامات استفهام عن إمكانية تحالفات مستقبليّة بين البرغوثي – دحلان – القدوة في ظل تودد واضح ورغبة من الأخيرين باكتساب البرغوثي إلى صفيهما، ورسائل دعم لا تنقطع ووعود متواصلة بدعمه في خوض سباق الانتخابات. كما تثار الأسئلة حول مدى جدية الرجل أولاً في الثبات على قراره، وعن مآلات هذا القرار والبرنامج الذي يحمله وما سيقدمه للقضية الفلسطينية ثانياً بالاختلاف عن منافسيه.

اقرؤوا المزيد: "انتخابات 2021.. المزيد من الأكسجين لمسار التسوية".

تُقدّم سيرة البرغوثي بمحطاتها المختلفة صورةً متشابكة للرجل الذي يعتبر امتداداً للخط العرفاتي، فهو أحد وجوه الانتفاضة الثانية والقيادي البارز في "فتح"، والأسير الذي دفع عقوداً من عمره في سجون الاحتلال منحته حضوراً في الشارع الفلسطينيّ. وفي الوقت ذاته، هو البرلمانيّ والسياسيّ الذي يحظى بعلاقات تمتد من بعض القوى الإسرائيليّة إلى المحيط الإقليميّ ويحظى بقبولٍ دوليّ، ويجهر بإيمانه بالحل السلميّ واعتماد المفاوضات وسيلة وفرصة ذهبيّة لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، ويقدم مع ذلك خطاباً لا يُجرّم المقاومة ولا ينكرها. 

وعلى صعيد البيت الفتحاويّ فهو القائد الأكثر شعبيّة في التنظيم الذي حظي بمراكز متقدمة في اللجنة المركزية، ورجل عرفات وذراعه الأيمن. كما أنّه لم يدخر جهداً في دعم محمود عباس ومباركة مساعيه السلميّة في سنواته الرئاسيّة الأولى، فهندس اتفاقيات الهدنة مع الاحتلال في الانتفاضة الثانية، وبارك مؤتمر أنابوليس. وذلك قبل أن ينقلب عليه في عدد من الملفات ويشهر سيف الانشقاق الانتخابيّ في وجهه مُسلحاً بكل ما سبق من معطيات في سيرته. 

ويبدو أنّ تلك المعطيات دفعته ليؤسس لمستقبله السياسيّ ويرى في ذاته القادر على إعادة هيكلة حركة "فتح" ولملة صفوفها، والتفاهم مع القوى والفصائل الفلسطينيّة، والاعتماد على القوى الإقليمية والدولية من أجل الوصول إلى صيغة حلٍّ حالم ترى إمكانية إنهاء الصراع الفلسطيني مع الاحتلال وإقامة دولة. 

يحدث ذلك دون طرح أي استراتيجية معلنة لهذا الحلّ الافتراضي، وفي ظلّ الشواهد التاريخيّة على النهاية التي وصلت إليها سياسةُ سلفه عرفات القائمة على إمساك العصا من المنتصف وأرجحتها بين الحل السلميّ والمقاومة المسلحة، مع إبقاء الباب موارباً للتراجع تحت مظلة الشروط والمطالب المنتظر تلبيتها. ولا زالت حادثة انسحاب البرغوثي من ترشيح نفسه للرئاسة عام 2004 حاضرة في الأذهان كواحدة من انعكاسات هذا التأرجح.