5 يناير 2023

الاقتراب من الموت.. إعادة النظر في تناول المدعّمات (3/3)

الاقتراب من الموت.. إعادة النظر في تناول المدعّمات (3/3)

(هذه المقالة، هي الجزء الثالث لسلسة من ثلاثة أجزاء، يتناول فيها الأسير المحرّر علاء الأعرج، الذي سبق له أن خاض تجربة طويلة في الإضراب الفردي، بعضاً من تجربته، يفنّد من خلالها إدعاءات تُساق ضدّ هذا النوع من الإضراب. هنا رابط المقالة الأولى، ورابط المقالة الثانية).

--------

بعد إنهائي الإضراب (الذي استمر 103 أيام)، نُقلت إلى قسم الأسرى الأمنيين في عيادة سجن الرملة، حتّى استردَّ بعضاً من عافيتي وصحّتي التي تراجعت في الإضراب. وهناك في الرملة، تحتشد الأسماء الكبيرة التي جمعت تاريخاً جهادياً عريقاً، وطالتها بلاءاتٌ من المرض المضني. وقد كان من بينهم أسيرٌ متسائِلٌ دوماً، يوردُ عليّ السؤال تلوَ السؤال، وكانت جميعها تدور حول: هل يُعقل أنكم لم تكونوا تأكلون فعلاً؟ هل يعقل أنكم لم تتناولوا المدعّمات؟

وفي هذا الجزء الأخير، أتناول هذه القضيّة الإشكاليّة ومعها ضعف التضامن الشعبيّ وجدوى الإضراب الفردي، لنكون ناقشنا مع الجزء السابق خمسة تحفّظات وإشكاليات تُلقى في وجه الأسير الإداري المُضرب عن الطعام.

اقرؤوا المزيد: عيادة سجن الرملة

ادعاءٌ ثالث: من غير المنطقي أن يعيش الإنسان على الماء فقط مئة يومٍ أو يزيد! بالتأكيد يتناول المضربون الفرديون المُدعِّمات، ولهذا يطول إضرابهم غير آبهين برفع سقف الإضراب.

هذا تماماً ما كنت أعتقِدُه مثلك –صاحبَ الطرح- قبل تجربة الإضراب، لكني أُشهد على نفسي وعلى إخواني الذين أضربوا في الفترة ذاتها (ومنهم: كايد الفسفوس، ومقداد القواسمي، وهشام أبو هواش) أنّنا جميعاً ما عشنا إضرابنا على المدعِّمات، وأنّ قوامنا كان الماء، ولا شيءَ غير الماء.

بل وقد سمعت الدهشة ذاتها من قبل أحد السجّانين الذين يحرسوننا: كيف لإنسانٍ أن يعيش 100 يوم بلا طعامٍ أو تغذية؟! وهو السجّان ذاته الذي كان يرى بأمّ عينيه أن المُضرِبَ لا يعيش إلا على الماء، ولا يملك هو ولا أنا أن نشرح كيف يجري القدر، أو أن نفهمَ تكوين هذا الجسم الذي لا يُحيط به سوى خالقه.

غير أنّ مسألة المُدعِّمات بحاجةٍ إلى تجلية بعض الشيء. 

إنّ المدعّمات المعروضة على المُضرب عن الطعام، والتي يحاول الأطباء صباحَ مساء إقناعَه بتناولها قدْرُها اليوميّ: حبتان من الفيتامينات (لضمان ألّا تنهار الجملة العصبية لديه أو تموت الأعضاء الداخلية في جسمه مبكَِراً)، وحبة من الكاليوم أو كلوريد البوتاسيوم (لضمان ألّا تحدث اضطرابات مفاجئة في عمل القلب)، وسبعون غراماً من السكر (لضمان ألّا تحدث سكتة دماغية مفاجئة).

إذن، فإنّ المُدَعِّمات وظيفتها استبعاد الوفاة المفاجئة للمُضرِب قدر الإمكان، ولهذا يُسمّيها الأطباءُ إضافاتٍ (توسفوت بالعبرية "תוספות"). وهي لا تمنع تآكلَ الجسد، أو ذوبان الدهون في العضلات، أو جفاف المفاصل، أو موات الأعضاء تدريجياً.

سابقاً، كان الأسير يضرب عن الطعام فقط، ويتناول جميع أنواع الأشربة بما فيها الحليب، بل و"الإنشور" (البروتين الوريدي وغير الوريدي)، قبل أن يقرّ الكنيست قانوناً بعدم الاعتراف بهذه الحالة كحالةِ إضراب، بعدما رأوا أنَّ بعض المضربين زاد وزنه بدل أن يقل، وطال إضرابه بدل أن يقصُر! وكان الهدف من هذا التعديل الضغطَ على المضرب وتصعيب الإضراب عليه، في حين بقيت المُدعّمات السابقة متاحة للهدف الذي ذكرناه.

ومع إصراري على عدم العيش على المُدَعِّمات أثناء الإضراب، إلا أنني الآن أدعو إلى إعادة النظر في هذا العُرف الذي توارثناه مضرباً عن مضرب، حتّى صار تناولُها من المحرّمات. وأنا أعترف أنني لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت، لا أملك أن أقول أنني كنت سأقبل بتناول المدعِّمات.

أقول هذا في ظل المعطيات التالية:

  1. ما رأيتُه من انتكاساتٍ حادّة مفاجئة للمضربين، فمثلاً؛ نُقلت إلى المُستشفى مرتين في حالة إغماءٍ كامل لهبوط السكر (29 ثم 16 على التوالي) وفق تقرير مستشفى "أساف هروفيه"، ومرةً ثالثة في حالة عمى جزئي استمرّت زهاء أسبوع لنقص الفيتامينات وفق تقرير مستشفى "كبلان". وقد نُقل هشام أبو هواش إلى المستشفى لاضطرابٍ مُخيف في نبض القلب ترتب عليه إغماءٌ كامل بسبب نقص البوتاسيوم (2.8 والحد الأدنى 3.4 أو 3.5 بحسب المختبر)، وانهارت المناعة مبكراً لدى مقداد القواسمي وضعُفَت لديه عضلةُ القلب، وكذلك الأمر بالنسبة لكايد الفسفوس، إذ ضعُفَت لديه عضلة القلب لديه، والتهب البنكرياس وصار الجسد عرضةً لتجلّطات مفاجئةٍ في أية لحظة.

  2. حالة الإهمال الطبي للمُضربين، فسابقاً كان العرف أن يُنقَل المُضرِبُ إلى المُستشفى بشكلٍ دائمٍ بعد 18 يوماً لمتابعة حالته هناك، ثم صار العرف على الـ 30 يوماً، ثم انتهى الأمر إلى ما عايشناه: إبقاء المضرب نحو 35 يوماً في زنازين السجن الذي خرج منه، ثم نقله إلى عيادة سجن الرملة، فيبقى هناك إلى أن يصل لحالةٍ صحيّة لا يستطيع الأطباءُ فيها ضمان حياته ما لم يُنقل للمشفى، فيصير الأمر مقروناً بالأقدار وقدرة كل جسد على التحمّل. وقد مكثتُ في الرملة حتى نهاية الإضراب، ومثلي من بعدي رائد ريان، ونُقل أبو هواش بعد 4 أشهر إلى المشفى، وقريباً من ذلك خليل العواودة من بعدِه.


والرملة ليست أكثر من سجنٍ معزولٍ فيه عيادة أكثر تطوراً من عيادات السجون، والمكان مكرهة صحيّة بالكامل، فالزنزانة فيه مؤهّلةً لعيش كل كائنٍ حيٍّ إلا البشر، والأطباء يزورون المضربين مرتين في اليوم فقط، ولرفضنا الخضوع للفحص فلا يُقيّم الطبيب حالتَنا الطبية سوى بالنظر، ومع ذلك يملك من الوقاحة ما يجعله يقول أمام المحكمة إنّ المضرب لا خطورة على حياته!

ولولا قدر الله الذي يسّر أن أكون إلى جانب أبو هواش في الحالة التي ذكرتُ آنفاً، فأستدعي الطاقم الطبي على الفور، وأن يكون إلى جانبي في انتكاساتي التي ذكرت فيقوم بالفعل ذاته، لكان كلٌّ منّا شهيداً في آنِهِ، ولَمَا عرف الطاقم بهذا إلا بعد ساعات مع أول جولةٍ روتينيّة له.

  1. المضاعفات المستمرة عقب الإضراب، كضعف العضلات والأوتار، وألم المفاصل، وضعف النظر، وغيره، والتي من شأنها أن تقلّ حدّتها بوجود المُدَعِّمات أثناء الإضراب.

  2. كونه صار مُسَلّماً أن تطول فترة الإضراب، لم تعد مقاطعة المُدعِّمات والفحوص تُجدي نفعاً في تقييم التعامل مع حالة المُضرب، أو في إقناع الطاقم المُشرف بمجهولية الحالة، وبالتالي الدفع بهم لتقديم تقريرٍ طبيّ داعم للأسير في إضرابه.

لهذا كله ينبغي أن نُعيد النظر في مسألة المُدَعِّمات وتناولها أثناء الإضراب.

ادعاءٌ رابع: كثرة الإضرابات تسبّبت في ضعف التضامن الشعبي جرّاء الاعتياد.

وهذا صحيحٌ نسبيّاً، فالكثرة تخلق الاعتياد، والاعتياد مدعاة الخمول، لا في مسألة الإضراب فحسب، بل في كل مسألة، فالناس تستشهد على التلفاز، وفي البث المباشر، ولا تجد التفاعل الذي كُنتَ تشهده أول انتفاضة الأقصى، في استشهاد محمد الدرة مثلاً.

لكنّ السؤال في حالتنا هو سؤال البديل، فمفاد هذا الطرح -حين يوجَّه للمضرب- أن لا بديلَ أمامه سوى تقبّل دوّامة الاعتقال الإداري، كأنها دعوة للرضى والتصالح، أو خمول المرء في بيته وانسجامه مع حالة الوهن والإحجام العامة.

أما إذا كان الطرحُ من باب دراسة أدوات تحريك المجتمع، وترميم تفاعله مع القضايا الوطنية عموماً، ومنها قضية الإضراب، أو كان دعوةً لبرنامجٍ جمعيٍّ مُنظّم يُنهي الفرديّة في المواجهة لصالح مواجهةٍ جماعيّةٍ مُجدية، فهذا غاية المنى، ولعله أحد النتائج الإيجابية الحتمية لنزيف الإضرابات الفرديّة؛ النتيجة التي سنشهدها وفق قناعتي التامة يوماً ما.

إنّ الأحرار الذين هم مظنًّة الرجاء، هم الذين يدركون واجب اللحظة الراهنة، واجب الوقت، وهؤلاء لم يُطَوِّعهم الاعتياد، ولا ترجّلوا عن جياد الواجب، وفيهم كفاية.

ادعاءٌ خامس: لا جدوى من الإضراب في ظل قدرة الاحتلال على إعادة الكرّة باعتقال المضرب من جديد اعتقالاً إدارياً.

هذا التحفّظ منطقيٌّ جداً، فالاحتلال يملك فجوة في القوّة لصالحه، ومسألة إعادة اعتقال الأسير المحرّر مسألة في غاية اليسر عنده، بل إنّ أكثر الأسرى في الاعتقال الإداري معادٌ اعتقالهم مرّات عدة.

لكننا نضيف زاوية أخرى على الصورة، وفقاً لاستقرائنا لغالب الحالات التي اطلعنا عليها (وليست حالتي محل الاستقراء فما زالت تحت الاختبار)، بقولنا إنّ الإضراب شكّل نقطةً هامّةً في الحسبان لدى الاحتلال في مسألة إعادة الاعتقال للمُضرب، ووسّع من هامش التحرّك والظهور له، وما كان مُحاسباً عليه من قبل صار كثيرٌ منه مما هو متجاوَز عنه، وهو ما أطال من فترة الحريّة، وحرّر المُضرِب بشكلٍ ملحوظ من تتابع الاعتقالات الإداريّة التي لا فاصلَ زمنيّاً حقيقيّاً من الحريّة بينها.

وهذا على أهميته وتحقّقه يجب ألّا يكون العامل الأهم في التقييم، فالإنسان ابن لحظته، ولا ينبغي أن يؤجّل أو يتجاوز الرفض اللحظي لِظُلمِ يمسّه في حينه، لأجل جدوى غيبية لهذا الرفض في تجنيبه الظلم ذاته مستقبلاً.

ختاماً، هذه هي المسألة من زاوية نظر المضربين، لا يُلزمون الناس بها، ولا يدّعون قدرتَهم دوماً على تكرار التجربة ذاتها. هم يرونها أَصْلاً وما سواها فرع، لكنهم مع ذاك، قد يلجؤون للفرع لظرفٍ سياسيٍّ عام أو لقرار تنظيميّ أو لحالة صحية تمنعهم من إعادة التجربة. وأثناء ذلك كله، يرفعون باختياراتهم الفردية الصوتَ لضرورة وجود برنامجٍ جماعيّ يتصدّى لمسألة الاعتقال الإداري، حتى لا نظلّ في جدل الوسيلة الوحيدة المتاحة.

شخصياً، إن تكرّرت -لا قدّر الله- الظروفُ المسبّبة للإضراب، وانتفت الموانعُ السابقة، فلن أملك إلاه وسيلة للرفض، وأسأل الله أن يجنّبني والجميع الأسر والنَّصب، وأن يمتلك شعبنا حريّته كاملةً غير منقوصة.

كانت هذه الثلاثية محاولة لوضع لبنة تنظيرٍ غاب طويلاً في المسألة، وإحياءً لنقاشٍ بنّاء حول مسألة الإضراب الفردي رفضاً للاعتقال الإداري، آملاً أن تكتمِلَ بالنقد والنقد المقابل، فمسألة كهذه جديرة باهتمامٍ حقيقي من قبل جميع الفاعلين في الساحة الفلسطينية.