11 يناير 2023

نضال أبو دخان.. هراوة أبو مازن الثقيلة

<strong>نضال أبو دخان.. هراوة أبو مازن الثقيلة</strong>

وُلِد في الجزائر، وسَطَع نجمُه في رام الله، سيرته الذاتية على الموقع الرسمي لـ "قوات الأمن الوطني"، التي يتولى قيادتها منذ سنوات، لا تزيد عن بضعة أسطر، وتضيع معلوماتُه الشخصية أمام سيل الدورات العسكرية التي حصل عليها والمناصب التي تولّاها، وهي ما جعلت منه قائداً لأقوى أجهزة السلطة الأمنية، وأكثرها عتاداً وتسليحاً وعناصر بشرية: نضال أبو دخان. 

ضبط المصنع

تعود أصوله إلى مدينة حيفا المحتلة، التي نزحت منها عائلته عقب نكبة عام 1948، لتستقر في قرية فقوعة قضاء جنين. ومن هناك، غادر والده العقيد علي أبو دخان إلى الجزائر، فاستقرّ وعمل في سلك التعليم، ثمّ التحق بصفوف حركة "فتح" والتي أصبح مُمثّلها في ولاية تبسة. أنجب ثلاثة أبناء، أكبرهم نضال الذي ولد عام 1968. وفي الجزائر، حصل نضال على درجة البكالوريوس في العلوم العسكرية من كلية "شرشال"، إلى أن عادت العائلة مجدداً إلى الضفّة الغربية بعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994. 

لا تفاصيل كثيرة في سيرة الرجل، التي تُشبه ما يُعرف عنه من عزوفٍ عن الظهور الإعلامي. لذلك، تُلازمنا فجواتٌ زمنية واسعة في سيرته، تُغطّيها دزينة دسمة من الدورات العسكرية الخاصة التي حصل عليها في الولايات المتحدة وفرنسا، وسرد موجز لعمله في أجهزة السلطة الفلسطينيّة.

بدأت مسيرته العمليّة بانضمامه إلى جهاز الأمن الوقائي على إثر تأسيس السلطة عقب اتفاق أوسلو، ثمّ انتقل إلى جهاز "الحرس الرئاسي" الذي حقّق فيه قفزاتٍ كبيرة؛ من مديرٍ للتدريب والتخطيط، إلى مديرٍ للعمليات، فقائداً لوحدة التدخل السريع، وانتهاءً بقيادته وحدة العمليات الخاصة. وقد تولّى إلى جانب هذه الأخيرة عام 2007، رئاسة الاتحاد العام للرياضات العسكرية.

مَكَث أبو دخان في منصبه هذا حوالي عامين، قبل أن يدخل في عمليّة إعادة هيكلة الأجهزة الأمنيّة، التي شرع فيها محمود عبّاس فور استلامه رئاسة السلطة. وهي العملية التي تشبه ما يُمكن أن نسمّيه "ضبط المصنع" لقيادات الأجهزة الأمنية، إذ أعاد عبّاس بناءها تحت رعايةٍ وإشرافٍ وتدريب أميركي بقيادة الجنرال كيث دايتون، بهدف القضاء على ما تبقّى من انتفاضة الأقصى.

اللواء نضال أبو دخان، قائد قوات الأمن الوطني، خلال احتفالية أقيمت بمناسبة افتتاح أكاديمية للشرطة بتمويل من الاتحاد الأوروبي، في مدينة أريحا، تموز 2012. (أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية).

من الحرس إلى القوّات

تطلّبت هذه المرحلة الجديدة إزاحة عبّاس للقيادات التاريخيّة للأجهزة الأمنيّة، فأصدر في أيلول/ سبتمبر 2009 سلسلة قراراتٍ برزت على إثرها وجوهٌ جديدة مقرّبة منه، كان أبرزها تكليف اللواء ماجد فرج قائد جهاز الاستخبارات العسكرية، بقيادة جهاز المخابرات العامة، وتكليف العقيد أبو دخان من جهاز الحرس الرئاسي بتولي قيادة جهاز الاستخبارات العسكرية خلفاً لفرج، وترقيته إلى رتبة عميد.

تزامنت هذه الترقيات مع تصاعدٍ جنوني في موجة الاعتقالات التي شنّتها أجهزة السلطة الأمنية على مئات الشباب بـ"تهمة" الانتماء لحركة "حماس"، وسُجّلت حالات عديدة من التعذيب (بعضها وصل حدّ القتل) داخل السجون. على إثر ذلك، حمّلت جهات حقوقية مدير المخابرات العامة اللواء ماجد فرج، وقائد الاستخبارات العسكرية العميد نضال أبو دخان، ورئيس جهاز الأمن الوقائي اللواء زياد هب الريح، بـ"المسؤولية المباشرة عن اعتقال المواطنين الفلسطينيين وتعذيبهم في مراكز تقع خارج رقابة القانون". 

في أواخر أيلول/ ديسمبر 2011، وبعد عامين من توليه قيادة جهاز الاستخبارات العسكرية، أصدر أبو مازن قراراً آخر يقضي بترقية العميد نضال أبو دخان إلى رتبة لواء، وتكليفه بقيادة قوات الأمن الوطني خلفاً لذياب العلي الذي أُحيل إلى التقاعد. 

جيش أبو مازن

تشكّل جهاز الأمن الوطني عقب تأسيس السلطة الوطنية، وضمّت في حينه القوات التابعة لـ "منظمة التحرير" القادمة من الأردن (قوات بدر)، والقادمة من مصر (قوات عين جالوت)، والقادمة من العراق  واليمن. ولاحقاً دُمج عدد من الأجهزة تحت مظلة الأمن الوطني، مثل: قوّات حرس الحدود، والشرطة العسكرية.

وفي عام 2007، أي بمرحلة ما بعد "أنابوليس"، أعيدت هيكلة الجهاز بشكلٍ جذريّ، ليتكوّن من 9 كتائب خاصّة جرى اختيار عناصرها وفقاً لمعايير تلائم الرؤية الأمنية الجديدة للسلطة، ودُرّب عناصرها في الأردن تحت إشراف أميركي، كما دُرّبوا أيضاً في أريحا على يد خبراء عسكريين من إيطاليا وبريطانيا، لتكون هذه القوات نواة "الدولة الفلسطينية" المُتخيّلة. واليوم تُشكّل قوات الأمن الوطني أكبر كتلةٍ عسكريّة مُسلّحة ومدرّبة في الضفّة الغربية، إذ تفوق في حجمها وتسليحها أي جهاز آخر، ولا يضطلع الجهاز بأي مهام يومية، إنما تقتصر مهامه في البقاء على أهبة الاستعداد متحفّزاً لقمع أي تمرد.

بعد إعادة الهيكلة، تأسست الكتيبة الأولى في قوات الأمن الوطني، والتي حملت اسم "الكتيبة الخاصة الأولى" عام 2007، وتشكّلت نواتها التي اختيرت "بدقة وعناية" من أفراد وضباط جهاز الأمن الوطني، الذين شاركوا فيما أطلقت عليه السلطة "عملية فرض النظام والقانون في جنين ونابلس". وكان من المقرّر أن تتلقى هذه القوّة تدريبها في الأردن، لكن قيادة السلطة وقتها فضّلت تدريبها في أريحا وبقاءها قيد الخدمة لحاجتها إليها في تلك الفترة. وتوالى لاحقاً إعداد الكتائب التابعة للجهاز، حتى وصلت إلى 9 كتائب منتشرة في مدن الضفة الغربية.

أما آخر كتائب الأمن الوطني، فهي "الكتيبة الخاصّة التاسعة" أو ما يعرف بـ "الكتيبة 101" أو "وحدة العمليات الخاصّة"، والتي تمثّل وحدة النخبة في قوات الأمن الوطني. كان أوّل نشاطٍ لها عام 2013، إذ تواجدت الكتيبة بأكثر من 800 عنصر في مدينة جنين لقمع الاحتجاجات الشعبية والمواجهات مع الأجهزة الأمنية، التي أعقبت اغتيال الاحتلال للمطارد من سرايا القدس الشهيد إسلام الطوباسي، فيما أشارت تصريحات السلطة في حينه إلى أنّ "الكتيبة جاهزة لصد أي محاولات مشبوهة للمساس بالمشروع الوطني وشعبنا". كما نفّذت القوّة عدداً من العمليّات العسكريّة في ضواحي القدس ومخيمات الضفّة ومدنها، كنابلس والخليل وجنين. 

اقرؤوا المزيد: السلطة في مواجهة النّاس: موجز سيرة القمع

ممّا يُميّز الكتيبة 101 هو مظهرها الخارجيّ، فعناصرها مُلثّمون، يرتدون غالباً زيّاً أسود بالكامل، ومعهم كلابٌ بوليسيّة مُدرّبة، وعربات مصفّحة طراز "فورد" (أميركية المنشأ) مزوّدة برشاشاتٍ ثقيلة. تلقّت الكتيبة تدريبها العسكري في الأردن، كما تتخذ من موقع "النويعمة" العسكري بمدينة أريحا مركزاً لها، وتخضع بشكل مباشر لإشراف قائد قوات الأمن الوطني، وتُوجّه لتنفيذ المهام حسب الاحتياجات والضرورات الأمنية التي يقرّرها قائد الجهاز.

يعني ذلك أنّ مهمة الجهاز هي القضاء على أية مظاهر مسلحة تشكّل تهديداً للسلطة، سواء كانت مظاهر متعلقة بتوازنات القوة داخل تيّارات "فتح" أو كانت متعلّقة بسلاح المقاومة، وهو ما تختصره دائماً بمسمّى "الفلتان الأمني". 

عناصر من كتيبة "القوات الخاصة" التابعة لقوات الأمن الوطني، خلال تدريبات في أريحا، 2012. (وكالة الأناضول).
عناصر من كتيبة "القوات الخاصة" التابعة لقوات الأمن الوطني، خلال تدريبات في أريحا، 2012. (وكالة الأناضول).

الهراوة الأثقل

من المعروف عن أبو دخان ولاؤه لأبو مازن، والحظوة التي يكنها له الأخير منذ عمله في الحرس الرئاسي والتي تجلّت ملامحها بمراسيم ترقيات استثنائية، كما يٌعرف بعلاقاته الجيّدة مع الجانب الأميركي، وتوليه قيادة الجهاز الذي نال الحصة الأكبر من الدعم والتمويل والدورات العسكرية الخاصة لأفراده بتمويل وإشراف مباشر من الأميركان، وهو ما لا يخفيه أبو دخان. فهو مثلاً يتباهى في إحدى مقابلاته عام 2013، بأن "المساعدات الأميركية من دعم مالي ودورات تدريبية، ساهمت في رفع مستوى أفراد الأجهزة الأمنية من حيث الجاهزية والأداء الاستخباراتي، وانعكس أثرها الإيجابي على التنمية السياسية في فلسطين".1رسالة ماجستير بعنوان: المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية ودورها في تحقيق التنمية السياسية في الضفة الغربية دعم الجهاز الأمني نموذجاً، إعداد سائد ياسين، نابلس: جامعة النجاح الوطنية، 90.   

تحوّل اللواء أبو دخان إلى هراوة ثقيلة بيد أبو مازن، يفرض بها رؤيته، ويهشّم بها عند الحاجة كل الرؤوس المعارضة له داخل تنظيم "فتح" قبل أي تنظيم آخر. وهو ما دُشِّن عام 2013 بما يُمكن أن نطلق عليه، ولو تجاوزاً، "حرب المخيمات" بنسختها الفلسطينية، والهادفة إلى سحق جيوب التمرّد على صاحب المقاطعة وقراراته، خصوصاً من المجاميع المسلّحة التابعة لـ"فتح" في مخيمات الضفّة الغربية، من الخليل جنوباً إلى بلاطة وجنين شمالاً.

اقرؤوا المزيد: لا صوت لتنظيم غزة داخل حركة فتح

منح أبو مازن قائدَ قوات الأمن الوطني صلاحياتٍ مُطلقة لفرض حضور السلطة، وتجفيف كافة منابع "الفلتان الأمني" كما كانت تصفها البيانات الرسمية، في مواجهات مسلحة استمرت لسنوات متتالية، كان أعنفها ما جرى في البلدة القديمة بمدينة نابلس عام 2016. شهدت البلدة اقتحاماً واسعاً قادته الكتيبة الخاصة 101 وبإشراف ومتابعة مباشرة من أبو دخان. تطوّرت أحداثها إلى اشتباكات مسلحة أسفرت عن مقتل 5 أشخاص: اثنين منهم من أفراد الأمن الوطني وثلاثة من سكّان البلدة القديمة، من بينهم أحمد حلاوة "أبو العز"؛ أحد قادة كتائب شهداء الأقصى ووجهاء البلدة القديمة، والذي قتل ضرباً بعد اعتقاله على يد أفراد الأمن الوطني داخل سجن "الجنيد"، وقد اتهمته السلطة بأنه "العقل المدبر" لمقتل عنصري الأمن شبلي بني شمسة ومحمود  طرايرة، مكتفية بالتعقيب على حادثة تصفيته بالقول: "أبو حلاوة استفز رجال الأمن الذين اعتقلوه بشتمهم، فانهالوا عليه ضرباً حتى قُتل". على إثر هذه الحادثة، طالبت عائلة أبو حلاوة بإقالة أبو دخان، إذ حمّلته المسؤولية عن إعدام ابنها. 

اقرؤوا المزيد: دحلان.. سيرة الأخطبوط

استمرّت علاقة اللواء المتوترة بنابلس، وبمخيم بلاطة تحديداً، لسنوات، وقد تكثّفت حملات جهازه الأمنيّ مع انتشار وباء "كورونا". ففي تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2020، قُتل واحدٌ وأصيب آخرون من السكّان وأفراد الجهاز الأمني. فيما زار اللواء أبو دخان غرفة عمليّات الأمن الوطني في نابلس، وأشاد بـ "الجهود الجبارة لقوات الأمن الوطني في حفظ الأمن والنظام العام، وفرض سيادة القانون". وأشار عدد من المراقبين حينها، إلى أنّ الحملة التي تقوم بها قوات الأمن الوطني تأتي في سياق معركة خلافة أبو مازن، ومحاولة تصفية الجماعات المحسوبة على القيادي المفصول من حركة "فتح" محمد دحلان، وقد رافقت ذلك حملة اعتقالات في مخيم الأمعري.

عناصر من قوات الأمن الوطني خلال "مهمة" في جنين. (الموقع الإلكتروني للقوات).

أوسمة ونياشين وعلاقات عابرة للحدود

ليست الترقيات الاستثنائية، والصعود الصاروخي، وعديد الأوسمة الرئاسية التي تلقاها أبو دخان - كان آخرها نوط الامتياز العسكري الذهبي - هي أبرز ما يميّز سيرة الرجل على الصعيد المحلي، بل يضاف لها شبكة من العلاقات الواسعة العابرة للحدود إقليمياً ودولياً. 

في مخيّمات لبنان، كان لأبو دخان دور برفقة عزّام الأحمد، عضو اللجنة المركزية لـ"فتح" والمشرف على الساحة اللبنانية. في النصف الثاني من عام 2015، وضمن مساعي السلطة لضبط الأوضاع الأمنية في المخيمات، وتحديداً بعد اغتيال قائد كتيبة شهداء شاتيلا طلال بلاونة في مخيم عين الحلوة، أوفد أبو دخان 11 ضابطاً من قوات الأمن الوطني في رام الله إلى لبنان، في مهمة لضبط الحالة العسكرية لحركة فتح في المخيمات، وإعادة هيكلة كتائبها العسكرية إلى وحدات متصلة بغرفة العمليات المشتركة للأمن الوطني، إضافة إلى إجراء دورات عسكرية لرفع كفاءة العناصر وإعادة تأهيلهم. 

أما فيما يخصّ العلاقات الدولية، الغربية منها تحديداً، فقد بدأت بعشرات الدورات العسكرية التي تلقاها أبو دخان في فرنسا والولايات المتحدة. لكنّها امتدت لاحقاً، إذ قلّده القنصل الفرنسي العام نيابة عن الرئيس فرانسوا هولاند في حينه "وسام الشرف من الدرجة الأولى" عام 2017، وهو بذلك أول ضابط فلسطيني يتقلّد أعلى وسام يمنح في فرنسا للشخصيات العالمية. إضافة لعلاقاته المتميزة بالجانب الأميركي، التي بدأت من سلسلة الدورات العسكرية المتخصصة التي تلقاها في الولايات المتحدة، وامتدت بعد توليه مناصب متقدمة في أجهزة السلطة لتشمل المنسقين الأمنيين الأميركيين، من الجنرال كيث دايتون وصولاً إلى الفريق فريدريك روديشايم، الذي تولى سابقاً منصب قائد اللواء الثالث في فرقة المشاة الرابعة بالجيش الأميركي خلال حرب احتلال العراق عام 2003.  

وعلى مرمى حجر من المقاطعة، تنظر "إسرائيل" لنضال أبو دخان كرجل أبو مازن القوي، وتعتبره قائد ما يمكن تسميته بالـ "الجيش الفلسطيني". بيد أنّ الرجل يبدو بعيداً عن معركة خلافة أبو مازن، وقد وُصفت فرص توليه الرئاسة بعد عباس، في تقارير إعلامية للاحتلال، بـ "المعجزة". مع ذلك، فإنّ اسمه كان حاضراً في صدارة التقرير الذي رفعه وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ للرئيس عباس عام 2015، حول اجتماعه (أي الشيخ) مع منسق أعمال حكومة الاحتلال في حينه يؤاف مردخاي، والذي وجه فيه مردخاي شكراً خاصاً إلى قائد قوات الأمن الوطني اللواء أبو دخان، "لما يقدّمه من معلومات أمنيّة بخصوص أوضاع الضفّة الغربيّة، ونشاطاته الاستخباريّة في دول الجوار".