28 أكتوبر 2021

الأسواقُ في بيت حنينا.. والبلدةُ القديمة كـ"متحف"!

الأسواقُ في بيت حنينا.. والبلدةُ القديمة كـ"متحف"!

ما أن تقتربَ الشّمس من المغيب حتّى تبدأ المحالُّ التجاريّة في بلدة القدس القديمة ومحيطها بإغلاق أبوابها. تدريجياً، تخلو المنطقةُ من المارّة، وتبدو كأنّها مهجورة. هكذا، مع حلول أولى ساعات الظلام يسري في شريان المدينة1 أقصد بذلك بالأساس: البلدة القديمة وشارعي الزهراء وصلاح الدين شمالها، الذي من المُفترض أن يظلّ نابضاً بالحياة، هدوءٌ رتيب. يحصل هذا في الأوضاع "الطبيعية"، وبعيداً عمّا تركته جائحة "كورونا" من آثار. 

في المقابل، وإلى الشّمال من القدس، وتحديداً في حييّ بيت حنينا وشعفاط، تبقى المحلات التجاريّة مفتوحةً إلى ساعاتٍ متأخرةٍ نسبياً، وبعضها -وخاصّةً المطاعم- لا تغلق أبوابها قبل منتصف الليل. جعلَ ذلك بيت حنينا، وبدرجةٍ أقلّ شعفاط، مقصداً لكثيرٍ من الباحثين عن التسوّق أو السّهر في المقاهي والمطاعم.

قد يبدو من الطبيعيّ أن يحدث هذا "التطوّر" العمرانيّ والتجاريّ الذي أصاب بيت حنينا مثلاً، فيحوّلَ القرية إلى ضاحيةٍ سكنية كبيرة، تتنوَّع فيها المحلات التجاريّة والخدمات العامة؛ هو نمطٌ يسري على أحياء وأطراف كثيرٍ من المدن. لكنَّ الأمر يكتسبُ بعداً آخر في القدس، خاصّةً عند ربطه بالمشهد الاقتصاديّ العام للمدينة، وما يقع عليها من سياسات إسرائيليّة تساهم في تهويد بلدتها القديمة وتفريغها من السّكان.

صورة من البلدة القديمة في القدس، تظهر جزءاً كبيراً من المحال، وقد أغلقت أبوابها باكراً.

اقرؤوا المزيد في ملف: من في القدس

على مدار سنواتِ احتلالها منذ عام 1967، نفّذ الاحتلال الإسرائيليّ ما يكفي من الإجراءات والسياسات التي تضمنُ له عزلَ القدس سياسيّاً واقتصاديّاً عن باقي الضفة الغربيّة. بدءاً من توسيعه حدود "بلدية القدس" بضمّ مساحاتٍ واسعة من أراضي قرى القدس للسيادة الإسرائيليّة، مروراً بالتقييدات التي يفرضها على دخول الفلسطينييّن من الضفة الغربيّة إلى القدس وأراضي الـ 1948 منذ مطلع التسعينيّات، ولاحقاً بنائه الجدار الفاصل في خضم الانتفاضة الثانية، وصولاً إلى تطبيقه لخطط الأسرلة والدّمج في المؤسسات الإسرائيلية التي تصل ذروتها أيامنا هذه. 

جدارٌ حول البلدة القديمة

يُرجع كثيرٌ من المقدسيين تراجعَ النشاط التجاري في مدينتهم إلى بناء الجدار الإسرائيليّ، باعتباره العاملَ الماديّ الأبرز الذي شكّل تكثيفاً لسياسات عزل المدينة عن محيطها. بدأ بناءُ الجدار حول مدينة القدس عام 2002، واستُكمل بناؤه في شمال وجنوب المدينة عام 2007 تقريباً. كما ثُبِّت حول المدينة 14 حاجزاً عسكريّاً، أبرزهم: حاجز قلنديا، وحاجز 300 (قبة راحيل).

بذلك، أرست "إسرائيل" منظومةً أمنيّةً سلخت القدسَ عن محيطها الاجتماعيّ والجغرافيّ، وتركت وراءها سلسلةً من التداعيات الاقتصاديّة الخانقة على سكّان المدينة، تُصعّب عليهم العيش مُحَاولةً كسر صمودهم، ثمّ تُريد أن تدفعهم في نهاية الأمر إلى التخلّي عن مدينتهم. 

لم يعنِ تشييد الجدار بالنسبة للتجّار تشديداتٍ على نقل البضاعة من الضفة الغربية إلى القدس فقط، بل عنى أيضاً خسارةَ نسبةٍ كبيرة من القاعدة الاستهلاكيّة لهم. يُشير فلاح بدران، وهو أحد تجّار خان الزيت في البلدة القديمة، إلى أنَّ اعتماد تجّار البلدة القديمة الرئيس ليس على سكّانها، ولا حتّى على سكّان مدينة القدس، بل على المستهلكين من خارج المدينة من سيّاحٍ وزوّار. تدعمُ الأرقام كلام بدران، ففي عام 2012، كان 4% فقط من الفلسطينيين حملة الهويّة الزرقاء والساكنين خلف الجدار لا يزالون يتسوقون في القدس، وهذا مقابل 18% اعتادوا ذلك قبل تشييده. 

اقرؤوا المزيد: أحياء "خلف الجدار".. صراع الديموغرافيا والأمن

كما أشار عزّام أبو السعود، رئيسٌ سابق للغرفة التجاريّة في القدس، في حديث صحفيّ له عقب بناء الجدار، بأنّ عدد المتسوقين في القدس انخفض بنسبة 40% مع بداية نصب الحواجز حول مدينة القدس عام 1994. ويمكن ملاحظةُ أثر الجدار بمراقبة أسواق المدينة حين يدخلُ أهالي الضفّة الغربيّة في الأوقات التي ترتخي فيها التقييدات الإسرائيليّة، إذ نشعر فجأة بانتعاشة خاطفة في السوق، ما تلبث أن تنقضي بتشديد تلك التقييدات مجدداً.

منظر للجدار الإسرائيلي الذي أقامه الاحتلال في بلدة الرام شمال شرق القدس، وفصلها عنها.

مربّعٌ أمنيّ وليس سوقاً تجاريّاً!

يضيّق الاحتلال على أهالي القدس كذلك، وقد تمادى في مُضايقاته بعد هبّة القدس تحديداً. يؤرّخ للهبّة عادةً من أكتوبر\ تشرين الأول 2015، حين نفّذ الشهيد مهند الحلبي عمليّته الفدائيّة في شارع الواد؛ واحدٌ من أبرز الشّوارع التجاريّة في البلدة القديمة، والتي أدّت إلى مقتل مستوطنَيْن. استغلّت "إسرائيل" الهبّة ففرضت تشديداتٍ أمنيّةً صارمةً في منطقة البلدة القديمة ومحيطها لردع الهبّة؛ عُزّز تواجد عناصر "حرس الحدود"، ونُصبت بواباتٌ إلكترونيّة في شوارع البلدة القديمة لفحص المارّة وتفتيشهم كلّما ساور الشك جنديّاً. 

في تلك الفترة خشيَ كثيرون حتى من الوصول  إلى باب العمود؛ مدخلهم الرئيس نحو السّوق. لاحقاً، في يوليو/ تموز 2017، أعلنت وزارة الأمن الداخليّ الإسرائيلية عن "تغييراتٍ غير مسبوقة في نظام الأمن في باب العامود". تبعاً لذلك، ركّبت الطواقمُ الإسرائيلية عشرات الكاميرات المتطوّرة في محيط الباب، وأتمَّت مع مطلع عام 2018 بناء ثلاثة أبراجٍ عسكرية في منطقة باب العامود، يتواجد فيها عناصر شرطة الاحتلال. بعد هذه الإجراءات، لاحظ تُجّار البلدة القديمة تراجعاً في حركة الناس في البلدة، تفادياً لتنكيلات جنود الاحتلال، وبالتالي لجوئهم إلى أسواق أكثر "أماناً" خارج حدود البلدة القديمة. 

فوق ذلك، تفرض "إسرائيل"  ضرائب مختلفة على تُجّار القدس2 الأرنونا هي ضريبة المسقفات، ضريبة القيمة المضافة (17٪؜ من قيمة المبيعات ضريبة الدخل، ضريبة العمال، ضريبة التأمين الوطني، و ضريبة تراخيص. إضافةً إلى المخالفات العديدة، التي تُثقل كاهل التاجر في أسواق البلدة القديمة حتّى تدفعه إلى إغلاق محلّه التجاري. وربّما يكون التجوّل في أسواق البلدة القديمة كفيلاً بإدراك الضرر الواقع على تجّارها، فنرى محلّات كثيرةً موصدة أبوابها، أو حتّى نرى سوقاً بأكمله، كسوقِ الخواجات، أغلق بشكلٍ كامل. 

يقول أحمد الشويكي، وهو أحد التجّار في سوق اللحامين، بأنّ الكثير من التجّار قرّروا إغلاق محالهم التجاريّة والعملَ في مكانٍ آخر بسبب هذا الحمل الملقى على عاتقهم، فبلدية الاحتلال تأتيهم باستمرار وتفرض عليهم دفع الضرائب، كما أنها استغلت ظروف انتشارٍ فيروس "كورونا" لتُحرّر المخالفات لكلِّ من يخفض الكمامة عن وجهه ولو لدقائق. ورغم أنّ المخالفات والضرائب تقع على كاهل جميع التجار أياً تواجدوا، إلا أنّ وقعها في البلدة القديمة أقسى لضعف الحركة التجاريّة فيها.

بيت حنينا تسرق الزبائن

يمرّ من وسط حييّ بيت حنينا وشعفاط شارعٌ تاريخيّ رئيس، يمتدّ من القدس شمالاً باتجاه بيت حنينا، عُرف باسم "شارع القدس - نابلس"3 يُسمّى الشارع اليوم بـ "شارع القدس - رام الله".، حيث سارت فيه المركبات المتجهة من القدس نحو نابلس شمالاً.  في العقد الأخير جدّدت بلديّة الاحتلال الشارع وأضافت إليه الأرصفة، والدواوير، والإنارة، وأوصلته بسلسلةٍ من الشوارع الاستيطانية: شارع بيجن، وشارع رقم 21 الذي يمرّ غرب شعفاط، وشارع 60 الرئيسي الذي يصل بيت حنينا بالشيخ جرّاح والبلدة القديمة

اقرؤوا المزيد: "غارات اقتصادية في القدس: تكتيك إسرائيلي لقمع أهالي باب حُطّة".

ضمن تخطيطها للمنطقة، صنّفت بلديّة الاحتلال الشارعَ الرئيسي الذي يمرّ ببيت حنينا كمنطقةٍ تجاريّة، وهو ما يعني أن يكون الطابق الأوّل في كلّ بناء يُقام فيها خاصّاً بالمحلّات التجاريّة. كما أنّ رحابة أراضيها جعلت التطوّر العمراني فيها مُمكناً، مّما جعل المنطقة في تطوّرٍ تجاريّ مُتزايد.

دفعَ التخطيطُ العمرانيّ الإسرائيليّ لبيت حنينا الكثير من التجّار إلى فتح محالهم فيها، وساهم كذلك في جعلها مقصداً تجاريّاً يُلبّي حاجة كثيرٍ من المستهلكين. إذ يسهّل على الناس، أهالي القدس، الوصول إليها من خلال سيّاراتهم التي تتوفر لها مصفّات كثيرة على طول الشارع، وذلك على العكس من البلدة القديمة التي تُعاني من شحّ في الأرصفة التي تسمح البلدية للسيارات أن تركن بجانبها في الشوارع المحيطة بالبلدة القديمة، بالإضافة إلى بُعد المصفّات المخصصة للسيارات عن الأسواق الرئيسية، ناهيك عن تكلفتها المرتفعة. 

كذلك، توفّر بيت حنينا تسوّقاً "بعيداً عن وجع الرأس"، على خلاف البلدة القديمة التي عنت احتكاكاً مباشراً مع المستوطنين، ونقاطاً عسكريةً على طول الطريق تفتّش المارّة وتسألهم عن هوياتهم. وقد أدّى ذلك إلى أن تُغلق المحال التجاريّة في البلدة القديمة قُرابة الساعة السابعة مساءً، فيما تظلّ المحال التجارية في بيت حنينا مفتوحة حتى وقتٍ متأخر من الليل.

جانب من إحدى تجمعات المحال التجارية في بيت حنينا، والتي تشهد إقبالاً من المقدسيين حتى ساعاتٍ متأخرة من الليل. تصوير: سارة الدجاني

اعتاد المقدسيون قبل عقدين من الزمان قصد البلدة القديمة وأسواقها للحصول على كلّ ما قد يحتاجونه؛ إن احتاجوا لشراء البهارات والتوابل فسوق العطّارين كان وجهتهم، وإن احتاجوا لشراء الملابس والأحذية فسوق الواد يلبّي حاجتهم، كما كان سوق اللحامين وجهتهم الرئيسية لشراء اللحوم والدواجن. 

أمّا الآن، فأصبحت أسواق أخرى خارج مركز المدينة، ومنها سوق بيت حنينا، تغني المستهلكين المقدسيين، خاصّة من سكان بيت حنينا وشعفاط، عن الذهاب إلى البلدة القديمة. على سبيل المثال، يعرض لك شارع بيت حنينا الرئيس، في مقطع قصير منه، 8 ملاحم على الأقل، في حين قلّة يتوجّهون إلى سوق اللحامين في البلدة القديمة، الذي كان يحوي ما يقارب 87 محلاً تجارياً (90% منهم ملاحم)، تبقّى الآن منها أقل من 15 محلاً تجاريّاً (4 منهم فقط ملاحم) بسبب السياسات الإسرائيليّة.

لا يقتصرُ الأمر على المحال التجارية الموزَّعة على طول بلدة بيت حنينا، فتمتلك البلدة أكبر فائضٍ من مساحات الأراضي الخالية، ما جعلها أرضيّة خصبة للمستثمرين في المشاريع الضخمة. فمثلاً، أقيم على أراضيها مشروع "بلدي مول" الفلسطينيّ، والذي يقدم العديد من الخدمات الغذائية والترفيهية، وأقيم مشروع "رامي ليفي" الاستيطانيّ كسوقٍ تجاري يضم محالاً تجارية فلسطينية وإسرائيلية تحت نفس السقف. أمّا الأمر الملفت، والذي يشير إلى "الهجرة" من القدس نحو بيت حنينا، فهي ملاحظة أحد التجار المقدسيين أنَّ الإقبال على فرعه في مجمّع رامي ليفي أعلى من الإقبال على فرعه في شارع الزهراء.

خدمتنا ليست من أولويّات "إسرائيل"

لا تكمنُ المشكلة في وجود محالٍ تجاريّة في منطقة بيت حنينا، ولا في تسهيل الوصول للمستهلكين المقدسيين للمحال التجاريّة، إنّما تكمن المشكلة في السياسات الاسرائيليّة التي قد تبدو من بعيد وكأنها مُسخّرة لخدمة السكّان. فيما تهدفُ هذه السياسات إلى إضعاف تجّار البلدة القديمة وطردهم، وإلى إبعاد أهالي المدينة عن أسواق بلدتهم القديمة، لما لها من أهميّة على المستوى السياسيّ والأمنيّ، كونها تقع في مركز المدينة وتحيط بالمسجد الأقصى. 

ترافقَ مع هذا التوسّع التجاريّ نقلٌ وتوزيعٌ للخدمات الأساسية التي يحتاجها الناس، فبدلاً من المركز الصحيّ الوحيد الذي يقصده الناس في وسط القدس، أضحت الضواحي المحيطة بالقدس مزدحمةً بفروع كثيرة للمراكز الصحيّة تُغنيهم عن الذهاب إلى المدينة. وكذلك الأمر بالنسبة لمراكز البريد الإسرائيلي، وفروع المؤسسات التي يحتاجها الناس في معاملاتهم اليوميّة. أدّى ذلك إلى تحويل الأحياء إلى ما يشبه الأحياء "المكتفية ذاتياً"، وبالتالي قطع صلتها اليوميّة العادية مع المدينة ومركزها.

اقرؤوا المزيد: ماركات إسرائيليّة على الناصية.. "دمجٌ" واختراق لشرقيّ القدس

تسعى "إسرائيل" جاهدةً إلى السيطرة على البلدة القديمة ومحيطها للقضاء على مركزيّة أسواقها، وتتلخّص مجمل سياساتها لتحقيق ذلك بمحاولة إضعاف حركة الأرجل الفلسطينيّة في البلدة القديمة من خلال سياسات جذب السكّان والمستثمرين إلى أطراف المدينة وطردهم من مركزها. في هذه المعركة، يقف تجّار البلدة القديمة في خط المواجهة الأوّل، محاولين الحفاظَ على أسواقها من أن يغدو مصيرها كمجرد "متحفٍ تاريخيّ" يُزار في المناسبات.



20 مارس 2023
كلّ ما يخصّنا بدأ في العراق

أنا من جيل نهاية التسعينيّات، لم أدرك من غزو العراق إلا صوراً سريعة مختزلة لا تستقرّ على حال، كمشهد إلقاء…