20 مارس 2023

كلّ ما يخصّنا بدأ في العراق

كلّ ما يخصّنا بدأ في العراق

أنا من جيل نهاية التسعينيّات، لم أدرك من غزو العراق إلا صوراً سريعة مختزلة لا تستقرّ على حال، كمشهد إلقاء القبض على صدّام حسين وصور سجن أبو غريب، لذا توجّهت إلى بعض من كتّاب "متراس"، من الجيل الذي تفتّح وعيه على هذا الحدث، اسألهم سؤالاً يجمع بين الشخصي والعام، فمنذ متى ينفصل الشخصيّ عن الجماعيّ، والسياسيّ عن أكثر الأشياء خصوصيّة فينا:  

  • ما الذي تركته فيك حرب العراق؛ على وعيك وشخصيتك والطريقة التي ترى بها الأشياء من حولك؟ 
  • ثمّ كيف انعكس كلّ ذلك على المنطقة، فأحالها إلى فوضى لا تهدأ؟ 

عبد القدوس الهاشمي 

إنه لسؤال. لا أدري إن كانت عندي إجابة جيّدة، لكنّي أحدثك بما وقع لي. في عام 2003، كنت مراهقاً ألعب في حديقة منزلنا أنا وأخوتي ومعنا والدتي، بأرانب اشتراها لنا الوالد. فجأة علت صرخة من داخل البيت، وخرجت أختي التي تكبرني بسنتين، تصيح وتبكي وتقول: سقطت بغداد، سقطت بغداد! ركضنا كلّنا إلى الداخل، وتسمّرنا أمام المشاهد التي على الشاشة..

ذاك الشعور الذي انتابني وقتها دون أن أعرف ماهيّته، سأفهمه لاحقاً بتفاصيل أكثر عندما نكبُر ونقرأ برنارد لويس، إذ يقول إنّ ضربنا لبغداد سيترك أثراً قوياً على ثقة المسلمين بأنفسهم، لأن بغداد هي عمقهم الحضاري والإسلامي.

ورأينا في بغداد بعد سقوطها، كيف أن الليبراليين العرب لا يمانعون الوصول على الدبابات، كانوا يُصدّعون رؤوسنا بالحريات والديموقراطية والكلام الفاضي. لكن الذي ترسخ في ذهني وقتها، أن أميركا لم تحتج إلى مبررات سياسية قوية، تحتاج فقط إلى كذبة، وإلى كثير من القوة حتى تفرض ما تريد. ومن وقتها وأنا كافر بكل الحلول السلمية في هذه المنطقة؛ أي مشروع ناجح لا بد من أن تسبقه البنادق وحمامات من الدم، هذا هو المنهج الوحيد للتغيير في المنطقة، لا تداولية سلمية ولا انتقال ديموقراطي ولا بطيخ، الحل الوحيد أن يشحذ المؤمنون بنادقهم ويكونوا قوة حقيقية وازنة، وخطة بعيدة المدى يتوكلون فيها على الله. تلك كانت من دروس بغداد.

آذار 2003، أعمدة الدخان تتصاعد في العاصمة العراقية بغداد في الساعات الأولى لقصفها من قوات التحالف الأميركية (Getty Images).

 
ساري عرابي

لا تنفصل في ذاكرتي ووعيي، حرب احتلال العراق في العام 2003، عمّا سمّي في الأدبيات السياسية بحرب الخليج الثانية 1990/ 1991. وإذا كانت المسافة الزمنية بين الحربين غير واسعة، فإنّ الفرق يمكن أن يُحسب، فقط، بالقدر الذي ينمو فيه وعي طفل من العاشرة في عمره، إلى شابّ في الثالثة والعشرين. لكن هل يمكن أن نَغفل عن ذلك الحصار الذي فصل بين الحربين، وكان يأكل قوّة البلد الذي تعلّقت به آمال الفلسطينيين زمناً طويلاً، وكانت بالضرورة تتآكل معه تلك الآمال مُخلّفة وجعاً وألماً وشعوراً عارماً بالخيبة؟!

ليست القضية هنا فحسب، فالتاريخ يبدو وكأنه يلقي مقولته من حيث الزمن الفلسطيني بالنسبة للحربين، فحرب الخليج الثانية جاءت في ذيول الانتفاضة الأولى، وصارت أجواؤها طقساً من طقوس الانتفاضة، بارتقاب الصواريخ العراقية الساقطة على "تل أبيب"، والهتاف لها من على أسطح المنازل وهي تَعبر سماء فلسطين، ورسمها على الجدران، ورفع مجسماتها أثناء المسيرات، لتكون حرب احتلال العراق في ذيول الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي لم تخل بدورها من ملمح عراقيّ تمثّل في حينه في دعم أسر الشهداء. 

الآن بملاحظة هذا التزامن، والنظر إلى المآلات الفلسطينية والعربية، يمكن إدراك الخسارة الهائلة التي كبدتنا إياها الإرادة الاستعمارية والأخطاء الذاتية الفادحة.

قد لا يمكن لفلسطيني مولود في مطالع الثمانينيات، أن يزعم أن وعيه بالحرب منفصل عن العاطفة الفلسطينية العامّة إزاء العراق، كما قد لا يمكنه أن يزعم انفصال عاطفته إزاء العراق عن الحضور الكثيف لبغداد وتاريخ العراق في الثقافة العربية، لكن يمكنه أن يزعم أنّه بنى على تلك المشتركات اهتماماً خاصّاً ببغداد؛ الأمر الذي قد يبعث فيه تصوّراً بأنّ الانكسار في نفسه كان مضاعفاً يوم سقطت بغداد. 

على الأرجح كلّ من عاش حادثة سقوط بغداد في 2003، قد توهّم أنّه الأكثر ألماً وانكساراً، وربما شعوراً بالتيه في فراغ لا حدّ له!

الاختلاط بين العامّ والخاصّ  في قضية العراق، ملفت للغاية. من كونك عربيّاً تعيش نتائج تلك الحرب حتى الساعة، إلى كونك فلسطينيّاً قد بات معلوماً ارتباط مسارات قضيتك بالحروب التي وقعت على العراق، إلى كونك أنت، تفتّح وعيك مع الانتفاضة الأولى وحرب الخليج الثانية، وكان كلّما نما وعيك كلّما توحش الحصار على العراق، ثمّ لما اشتدّ عودك وانغمست في الانتفاضة الثانية، خرجت منها منهكاً، كما انتهى العراق في ذيولها محتلّاً.

 تموز 2003، بغداد، العراق: معتقل عراقي مقيد ومتروك على الأرض، بينما يقف في الخلف جنود من قوات الاحتلال الأميركي. (Getty Images).

بالنسبة لي بوصفي فرداً فلسطينيّاً، ومن حيث حضور العامّ في الخاصّ، فإنّ أربعة أحداث كبرى هي الأعظم أثراً في وعيي وصياغة لعاطفتي: الانتفاضة الأولى التي تبعتها حرب الخليج الثانية، والانتفاضة الثانية التي تبعها سقوط بغداد.

يمكن أن أقول باختصار: هذا أنا، مصنوع من هذه الأحداث التي كانت أشبه بالوعاء الذي يضمّ آلاف التفاصيل. وبعد عشرين عاماً، على الحدثين الكبيرين: الانتفاضة الثانية وسقوط بغداد، ها نحن نعيش في نتائجهما. ثمّ وإن كانت حدثت أهوال عظمى بعد ذلك، فإنّ ما سبق من موقع لتلك الأحداث الأربعة كان يستهلك العاطفة الناشئة مع المرء، بينما الأحداث الأخيرة التي اتسمت بدورها بالهول، كالحروب على غزّة والثورات العربية وانكساراتها، واستعادة مشهدية المقاومة في القدس والضفة الغربية، فقد استقبلناها في طور الكهولة، وتأسيساً على ما سبق من عاطفة مبذولة. لكن ما ينبغي تثبيته في الوعي والذاكرة بعد ذلك كلّه؛ المقاومة العراقية التالية على الحرب، فبقدر ما حضرت بغداد في ذاكرة العرب، لن تزول الفلوجة من ذاكرتهم بعد ذلك أبداً.

هنادي قواسمي

أذكر في فترة الإعدادية، كان ذلك نهاية عقد التسعينيات، مشهداً من مشاهد الذاكرة القليلة التي لم تنمحِ: كرتونة مربعة الشكل، كبيرة جداً، أمام الطابور الصباحيّ، والمعلمة تُذكّرنا بالتبرّع بقلم رصاصٍ لصالح أطفال العراق القابعين تحت الحصار الأميركي، إذ قالت لنا إنّه كان من قائمة الممنوعات هناك.. أو ما يشبه ذلك. 

كان الشعور حينها بالتضامن مع قضية إنسانية مؤثرة، وأيضاً شعوراً بالألم الذي يحمل بعضاً من بذور التساؤل الغاضب: ما الذي يجعل أطفالاً عرباً مثلي مستضعفين إلى الحدّ الذي لا يملكون فيه قلم رصاص؟ أين القوة؟ لماذا لسنا أقوياء؟

عاد هذا التساؤل مُجدداً مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، واختباري لأول مرّة معنى ومركزيّة المسجد الأقصى. لكنّه ألح أكثر وأكثر عندما وقعت الحرب على العراق، وبالذات أمام مشهد سقوط بغداد، فربما كان مشهد سقوط مدينة عربية مسلمة صادماَ ومؤلماً إلى الحدّ الذي أعاد السؤال بقوة أكثر: لماذا يحصل لنا نحن العرب والمسلمون كل ما يحصل؟ لماذا لا نملك القوة للدفاع؟ وما الذي يمكن أن نفعله؟

التقت تلك الأسئلة مع برنامج دعوي كان يُبث على إحدى القنوات المتلفزة، سمعتُ جملتين فيه بشكلٍ عابر، كان الداعية حينها يربط بين ما يحصل في العراق وفي العالم الإسلامي عامةً، وبين الذنوب والبعد عن طريق الله. وكان واحداً من الاستنتاجات يتمحور حول المسؤولية الشخصية لكل فردٍ منا. فهمت حينها أن خياراً قد يتخذه فلان في المشرق يؤثر على مستقبل إخوانه في المغرب، وكأنّه أثر الفراشة.

ومن هنا بدأ يتضح أكثر التزامي بالإسلام على الصعيد الشخصي المتعلق بالإيمان والعبادات، ولكنه كان أيضاً بداية لشعور المرء أنّه ليس فرداً ذا خيارات ذاتية، بل هو جزء من كل، وتطوّرت من ذلك مشاعر بالمسؤولية عن دور الإنسان في هذا الكل، سواءً كان مجتمعه الصغير، أو الكبير، أو أمّته الأوسع. وهذا ما تشكل لاحقاً على شكل أسئلة سياسية الطابع، عن أوضاع الأمة، غياب قوتها، أسباب ذلك، وهي أسئلة قد لا نعيش بما يكفي لنرى إجاباتها النهائية، بقدر ما ترافق الإنسان كهاجس وأمل ورجاء ما كتب الله له الحياة.

وائل عواد 

على المستوى الشخصي، وأظنه ينطبق على جيلي بشكل عام، كانت هناك لحظتان فارقتان شكّلتا وعيي السياسي، وإن كنت حينها في سن صغير، لكنهما انطبعتا في ذاكرتي، هما: استشهاد محمد الدرة في الانتفاضة الثانية عام 2000، واحتلال العراق عام 2003. بالتأكيد لا يمكن القول بأنه كان لدي وعي سياسي آنذاك، لكني لا زلت أذكر ملامح أبي -رحمة الله عليه- يوم إعلان الولايات المتحدة غزو العراق. لم يكن أبي يحبُّ صدام حسين، ولا أي حاكم عربي، لكنه لم يكن يبتسم أبداً في تلك الأيام، وكان كثير الصمت. وبالتالي أصبح لدي شعور بأن الأمر جلل، وأن ما يحدث في فلسطين سينتقل إلى العراق. 

أستطيع أن أقول اليوم، بأثر رجعي، أن لحظات الأسى والخسارة تلك، هي البذرة التي أنبتت وعياً عروبياً لاحقاً، وكراهية وعداء تجاه الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. 

لم يكن احتلال العراق مجرد إسقاط لنظام صدام أو احتلال بلد عربي ونهب موارده وقتل وتشريد الملايين، فالأخطر من ذلك كلّه هو تشظي العراق وتفتيته وإغراقه في دوامة الطائفية والمحاصصة التي تعيد إنتاج نهب الموارد والقتل والتشريد مرة تلو الأخرى. وقد أدى ذلك إلى أفول أهل السنة، وتمدّد إيران في الفراغ الذي خلقه احتلال العراق. غير أن سقوط العراق لم يكن ليتم من دون تواطؤ العرب على إسقاط العراق، ليس فقط عبر السماح لقوات التحالف الدولي قصف العراق من أراضيهم، ولكن أيضاً بالترويج للأكاذيب الأميركية وأحياناً خلقها، مثل الذي ذكره جورج بوش من أنه تلقى أكذوبة امتلاك العراق لأسلحة بيولوجية من الرئيس المصري حسني مبارك. 

بغداد، العراق، 9 نيسان 2003، قوات أميركية تُزيل تمثالاً للرئيس العراقي السابق صدام حسين من دوار الفردوس بعد احتلالها المدينة. (Getty Images).بغداد، العراق، 9 نيسان 2003، قوات أميركية تُزيل تمثالاً للرئيس العراقي السابق صدام حسين من دوار الفردوس بعد احتلالها المدينة. (Getty Images). 

إنّ ما وصل إليه العراق اليوم، يؤكد الحقيقة التي ينبغي أن تبقى في أذهاننا إذا ما أردنا لهذا الوطن العربي أن يستفيق من سكرته، وهي أن الدبابات الأميركية لا يمكن أن تأتي بالحرية والحكم الرشيد، وأنه ينبغي علينا أن نتجاوز ثنائية الاستبداد والاستعمار، فلسنا بحاجة للاختيار بين سجون صدام والدبابات الأميركية. فمن العراق إلى أفغانستان، ومن سوريا إلى ليبيا، تتأكد هذه الحقيقة يوماً بعد يوم، كما تأكدت حقيقة أن العرب لا خلاص لهم دون وعي عروبي يتجاوز كل الارتدادات إلى القوميات القطرية التي خلقها الاستعمار.

طارق خميس

 

كانت المرة الأولى التي سمعت فيها بسقوط بغداد، عندما كنت في المدرسة. دخل معلم اللغة العربية الصف، وقال بشكل مقتضب: "سقطت بغداد"، ثمّ لم يتمالك نفسه فبكى. من آخر الصف، خرجت ضحكة لم تستطع أن تكتم نفسها؛ طالبٌ أبيض البشرة (لن تعود كذلك بعد قليل) وجد انفعال المعلم مُضحكاً فترك العنان لضحكته. وعلى الفور، ركض المعلم نحوه، سحبه من المقعد وألقاه أرضاً وانهال عليه بالضرب، ظلّ يضربه حتى أخرجه من الصف. كنّا أربعين طالباً، حتى الذين لم يكن لديهم أدنى اهتمام بالشأن العام، أدركوا أن سقوط عاصمة عربية أمرٌ مهول.

يبدو أن كلّ ما يخص جيلنا قد بدأ في العراق. صحيح أن هناك بدايات أبعد، لكن سقوط العراق كان تتويجاً فجّاً لخيبة قرن بأكمله.

تفرّغت أميركا وحلفاؤها للمنطقة، انتهى الخطر السوفيتي ولم يبق غير خطرنا، انهار العراق وعوقب الذين قاوموا وضحّوا، وتسلّم الحكم الذين تفرّجوا أو تآمروا، وكان تدمير العراق بوابة لتوسّع المشروع الإيراني. لا يمكن فهم إخفاقنا في سوريا دون فهم انهيار العراق، ولا يمكن فهم هذا كلّه بدون مقولة الإمام عليّ: "ما غُزي قوم في عقر دارهم، إلا ذُلّوا". 

وفي هذه الفترة انتشر الفزع من الإرهاب، الذي توسّع حتى صار يتطابق مع أوصافنا كلنا. قالت لنا أميركا: تمايزوا! فتغيّرت معايير الولاء والبراء. لذلك احتاجت العديد من الجهات أن تُجري تمايزاً عمن هو قريب منها لتصبح أشبه بمن هو بعيد عنها؛ كانت فترة من الهلع وشرّ ما في الهلع أنه يفقد الإنسان اتزانه وثباته على ما يعرف، فمن لم تقنعه الطائرات اقنعته الدعاية، والدعاية شديدة الإقناع على وقع الخوف. 

لكنّنا أيضاً قاتلنا، علينا أن لا ننسى ذلك، وحدها حسابات التُجّار تقيم وزناً منفرداً للربح والخسارة. وهذا القتال الذي لم يحسم المعركة، أنقذ نفوسنا من أن تُسحق هي الأخرى. لكن الهزيمة شكل من أشكال الفتنة، وبمعناها الحرفي؛ هي نارٌ تكشفُ عن معادن الرجال، كيف كان يتحدث الناس قبل الفتنة وكيف أصبحوا يتحدثون بعدها! 

الموصل، العراق، 10 كانون الثاني 2005، عناصر من قافلة عسكرية مشتركة من الحيش الأميركي والعراقي بعد إصابتهم جراء استهدافهم بعبوة ناسفة على جانب الطريق. (وكالة الصحافة الفرنسية).

كان حذيفة بن اليمان -وهو الخبير بهذه المسائل- يقول إذا أحبّ أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا، فلينظر؛ فإن كان رأى حلالاً كان يراه حراماً فقد أصابته الفتنة.. بهذا المعنى، ليس منّا إلا ومن أصابه شيء منها. أفكّر أحياناً بفترة ما بعد العراق وما بعد الثورات العربية، أي فترة "الحرب على الإرهاب" وفترة الثورات المضادة، بوصفها مراحل تكمل بعضها البعض. مثلما يحدث اليوم، حدث وقتها؛ علت أفكار جديدة مشبوهة بعد أن أُسقطت أخرى اتُهمت بالفشل، وهذه عملية لم تجر على وقع المراجعات، بل على وقع التراجعات، وكان هذا درساً مبكّراً لنا، أنّه لا يوجد مسألة فكرية إلا وترتبط بمسألة أمنية ما. 

ومثلما أن للنصر رجالاً فللهزائم رجال، ونحن رجال مرحلة الهزيمة. ليست هذه شتيمة، وليست مدحاً بطبيعة الحال، إنها واقع ورثناه و ساهمنا فيه، تكشّفنا عليه أيام غزو العراق وكشّفنا هو بدوره بعد الثورات المضادة. قال قوم موسى لموسى: "أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِنۢ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ  فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ". 

عَقدان على غزو العراق. لماذا نَعدّ السنوات على جرح يزداد قيحاً كل عام؟ ماذا صنعت 20 سنة مضت على الدكّ العسكري والاجتماعي للعراق، والتدمير المنهجي لبلد كان مبتدأً معرفياً للجملة العربية؟ هذا البلد الذي اقتحم ميادين علمية وهندسية اقتحامَ البوارج، وكان فريداً في المسافة التي بلغها ليحرر ذراعه الصناعية والعسكرية من مذلة التبعية وسطوة الخارج، وتجرّأ على ميادين علمية لم يسبقه لها عربياً أحد. هذا البلد الواقف على منجم من الرمزية التاريخية، والحاملُ لمكانة وجدانية في قلوب ملايين لم يطؤوه يوماً لكنهم يدينون في لغتهم ونحوهم وأدبهم وخيالهم للمعجزة التي كانتها عاصمتُه منذ ألف عام. كان من المستحيل لمحاولة تحرّر حقيقية كهذه ألا تواجه بالأساطيل، وكان من المستحيل أيضاً ألا يَجهد أهل تلك الأساطيل لتسخير منابرهم ومكبرات صوتهم وناشطيهم المستخدَمين، كي يكرروا فرية الغزو الكبرى: أن الغزو يتعلق بنظام البلد السياسي، وليس بطبيعة البلد نفسه. 

ببركة هذا الجهد الغثّ، نعيش اليوم مستنقعا آسناً مليئاً بالمروّجين لهذه الفرية، بدءاً من صحف مستقلة (أي ممولة غربياً) ومروراً بمنصات بديلة (أي ممولة غربياً) وعطفاً على جمعيات غير حكومية (أي تابعة لحكومات غربية) وانتهاءً بحشد هائل من إعلاميي الطفرة النفطية والمثقفين الأُجَراء، الذين -في مجموعهم- يتمّمون الغزو العسكري بالدعاية المأجورة. لم يَكْفِ سدنةَ الاحتلال أن يَقتلوا القتيل، بل استأجروا أيضاً من يشتمه في جنازته ويُعمّي على من فعل الجريمة. 

كان ينبغي للّحظة العراقية -وهي لحظة ممتدة منذ 20 عام- أن تُؤذِن بانتهاء هذا النموذج المدمر: ربط التحرر الداخلي بالغزو الخارجي، والرهان في مواجهة السلطة الحاكمة العربية على وزارة الدفاع الأميركية، وشد كل عمل ميداني معارض صوب وجهة نهائية غير معلنة: استقدام سرب الطائرات الأميركي. لكن النموذج طبعاً لم ينته، بل هو باق ويتمدد. واللافت في هذا النهج أنه يجمع الرذيلتين؛ انعدام القيمة المبدئية، والفشل العملي المدوّي. فلا هو يأتي لأنصاره بدنيا ولا بآخرة، ويفشل بعُرف غرامشي وبعُرف ماكيفلي ضربةً واحدة. خيره الوحيد هو التنفّع الشخصي المباشر لسماسرته السياسيين، وما أكثرهم هذه الأيام.

لكن، ومرةً أخرى، فما نفعُ عدّ السنين أمام حدثٍ كهذا؟ يرى كثير من مؤرخي العالم الإسلامي أن لحظة الغزو المغولي لبغداد كانت إيذاناً بخراب عميق دوّى قروناً -لا عقودا- في كل المشرق الإسلامي. وإذا كان الغزو الجديد أتى هذه المرة من الغرب بدلاً من الشرق، فالأذية الحضارية التي حَمَلها للعراق -وكلِّ ما حولَه- لا تقل فداحة عن الغزو الأول. رحم الله الشهداء.