4 يونيو 2021

"هندسة المتفجرات": يدٌ عارية تفكّك الموت في غزّة

"هندسة المتفجرات": يدٌ عارية تفكّك الموت في غزّة

عقب كلِّ غارةٍ إسرائيليّة أو قصفٍ مدفعيّ على غزّة خلال العدوان الأخير، كانت طواقمُ جهاز هندسة المتفجرات، التابع للشرطة الفلسطينيّة، تُلازم سياراتِ الإسعاف والطواقم الطبيّة في طريقها لمكان الاستهداف. دورها الأساس: تحييدُ الذخائر والقنابل غير المُنفجرة، وهو الدور الذي يتّسع ويتركّز عادةً بعد انتهاء العدوان.

نتحدثُ في هذا التقرير عن جهازٍ يتولى أخطر المهام وذلك بأقلّ الإمكانيات الممكنة.

"رحلة استشهاديّة" لتحييد الخطر

منذ بدء العدوان الإسرائيليّ على غزّة في 10 مايو/أيار الجاري وحتى نهاية الشهر تقريباً، نفّذَ جهازُ هندسة المتفجرات ما يزيد عن 800 مهمة لتحييد قنابل وذخائر غير مُنفجرة. كان ضغطُ المهمات يُؤخِّرُ المقابلةَ مع رئيس قسم هندسة المتفجرات بمحافظة شمال غزّة، النقيب بلال المبحوح. بعد أن نجحنا أخيراً في الوصول إليه، افتتحنا حديثَنا بسؤال: "بم يُفكر الطاقمُ عند توجّههِ لمهمةٍ جديدةٍ؟". ردَّ المبحوح بصيغةٍ مختلفة: "ماذا يُفكِرُ الاستشهاديُّ الخارجُ لتنفيذ عمليةٍ؟ لا شيء سوى إنجاز هدف المهمة التي قد تخطف روحَهُ".

لم يقل المبحوح ذلك لنقصٍ في الخبرةِ لدى طواقمِ جِهازِه، بل لفقرٍ شَديدٍ في الإمكانيات والمُعدات الضروريّة لعملها. تتعاملُ الطواقم الفنيّة التابعة لجهاز الهندسة مع قنابل وقذائف شديدة الانفجار دون دروعٍ أو مُعداتٍ تُلبي أبسطَ ضرورات الأمان الشخصيّ والمجتمعيّ الذي تتطلبه نوعيةُ العمل.

يحتاجُ التعاملُ مع المُخلَّفات الحربيّة لأجهزةٍ ومعداتٍ خاصّة، لكنّها غير متوفرة تماماً في غزّة إثرَ منع الاحتلال المستمر لدخولها. في ضوء ذلك، يعملُ جهاز هندسة المتفجرات بمعداتٍ وأدواتٍ بسيطة، كانت متوفرة من أيام تشكيله كجهازٍ تابعٍ للسلطة الفلسطينيّة عام 1996.

اقرؤوا المزيد: "أذرع المقاومة الطويلة.. عن صواريخ سيف القدس".

هنا، يشرح النقيب محمد مقداد، رئيس قسم التوعية والإرشاد في هندسة المتفجرات في غزّة، عن المُعدات الخاصّة التي تُمثِّلُ ركناً رئيسياً لعمل أي جهاز مشابه في كلّ العالم، لكنها "تكاد تكون معدومةً في قطاع غزّة".

من جملة تلك المعدات، يقول مقداد: "الروبوت الآلي الخاصّ بتفكيك وتعطيل القنابل والمتفجرات عن بعد، وجهاز فحص المعادن الذي يُستخدم في عمليات المسح الشّاملة للمناطق الواسعة، كالمناطق الزراعيّة"، موضحاً أنّ الجهاز الأخير متوفر في غزّة، لكنه قديمٌ جداً ولا يعمل بالجودة المطلوبة.

فردٌ من طاقم هندسة المتفجرات يحمل بقايا قذيفة من عدوان الاحتلال الاخير على غزة، 21 مايو 2021/ المكتب الإعلامي لوزارة الداخلية.

ومن أهم الأجهزة غير المتوفرة، جهاز التشويش أو قاطع الإرسال الذي يعملُ على تعطيل الدائرة الإلكترونية للقنابل والذخائر العسكريّة، ما يجعل التعاملَ معها وتفكيكها ونقلها أكثر أمناً، خصوصاً القنابل كبيرة الحجم.

أيضاً، لا يستطيع الجهاز استخدام المدفع المائيّ، والذي يساعد على "تشتيت دائرة التفجير، أو إزالة مصدر الطاقة للقنابل"، فبحسب مقداد ثمة "مدفع مائيّ قديم متوفر لدى الجهاز، لكن طلقاته الخاصة غير متوفرة إثر منع الاحتلال دخولها".

إلى جانب ما سبق، لا تتوفر الدروع الكاملة المستخدمة في عمليات تفكيك المتفجرات، ولا السيارات المُخصَّصة لعمليات هندسة المتفجرات. يدفع هذا الوضع الطواقمَ في كثير من المهمات للسير على الأقدام في المناطق الزراعيّة، والتي تحتاج في العادة لسيارات دفع رباعيّ.

اقرؤوا المزيد: "المسموح والممنوع.. معابر تحاصر غزّة".

يتذرّع الاحتلالُ لمنع إدخال هذه المُعدات بالقول إنّها ضمن المُعدات المُصنَّفة "ثنائية الاستخدام" (العسكريّ/المدنيّ)، فيما يؤكد مقداد أنّ استخدامها لا يتجاوز تحييد المخلفات الحربيّة والذخائر العسكريّة، ولا يُمكن استخدامها في سياقاتٍ عسكريّة أخرى. 

طريق الخبرات مُعبّدة بالدم

أثّر غيابُ المُعدات والأجهزة اللازمة على التعامل بشكلٍ دقيقٍ مع مُخلَّفات الاحتلال الحربيّة، وذلك على مستويين: يزيدُ من خطرها في كلّ تصعيدٍ أو عدوان إذ قضى بسببها العديد من الشهداء، ويُطيل من مدة وجهد إزالة المُخلّفات بشكلٍ كبير إذ تستغرقُ عمليات إزالة هذه الأجسام - في بعض الأحيان - أعواماً.

فريق من هندسة المتفجرات خلال عملهم في تفكيك خطر مخلفات الاحتلال، دون معدات ووسائل حماية. 21 مايو 2021

لكنّ جهاز هندسة المتفجرات يُراهن على "حرفية الطواقم الهندسيّة والفنيّة". يقول مقداد إنّ طواقمَ الجهاز راكمت خبراتِها في هذا المجال بالدمِّ والعِلم. وفي هذا الطريق، ارتقى شهداءُ وجرحى كُثر، فمنذ نشأة جهاز هندسة المتفجرات ضمن أجهزة الشرطة الفلسطينيّة عام 1996، ارتقى 20 شهيداً، غالبيتهم بعد عام 2006، وأصيب عشرات آخرون، بفعل غياب المعدات، وفق مقداد.  

من بين العقول التي فقدها الجهاز، كان فارس العشي، الذي استشهد خلال عدوان الاحتلال عام 2008. والعشي (34 عاماً حين استشهد)، كان خبيراً مُتخصِّصَاً في هندسة المتفجرات، ومن ضمن مجموعةٍ من الخبراء الذين تلّقوا تدريباتٍ مُتخصصة  في الولايات المتحدة الأميركية، ضمن دورات كانت تُقدم للأطقم التابعة للسلطة الفلسطينيّة.

بعد سيطرة حركة "حماس" على القطاع، رَفَض العشي مغادرة عمله، وكان يعمل آنذاك، كمُسيّرٍ لهندسة المتفجرات في القطاع. ثمّ قرَّرَ وزيرُ الداخليّة في الحكومة التي شكّلتها حركة "حماس"، سعيد صيام، أن يُرّقي العشي لرتبة نقيبٍ ويُكلِّفَه بإدارة هندسة المتفجرات في غزّة، إلى جانب عددٍ آخر من المهندسين. ثمّ كُلّف العشي لاحقاً بتشكيل فرق عمل إدارة هندسة المتفجرات في كلّ محافظات غزة، إلى جانب تدريب كوادر الجهاز وتأهيلهم.

استفاد جهاز هندسة المتفجرات في غزّة من الخبراء الذين كانوا ضمن كوادر الجهاز التابع للسلطة، في تدريب وتأهيل الكوادر الجديدة. كما أنّ الجهاز يعتمد أيضاً في تحديث مهاراته وخبراته على التجارب الميدانيّة، إلى جانب الدورات التي تُقدِّمها المؤسساتُ الدوليّة المتخصصة، بتنسيق من مؤسسة "الصّليب الأحمر" وغيرها. ويذكر مقداد أنّ كوادر من مُهندسي وفنيّي الجهاز تلقوا تدريباتٍ مُكثّفة في السودان، في عامي 2012 -2013.

فريق من هندسة المتفجرات خلال عملهم في تفكيك خطر مخلفات الاحتلال، دون معدات ووسائل حماية، بعد العدوان الأخير على غزة. 21 مايو 2021

القنابل المُشرَّكة: مجازر مؤجلة

يتعمّد الاحتلال إلقاء القنابل والذخائر الخادعة (المُشَرَّكَة) خلال غاراته على غزّة، وهي ذخائر لا تنفجر فور سقوطها، لكنّها قد تنفجر في حال جرى العبث بها أو خلال محاولة تعطيلها أو نقلها. يريد الاحتلال بهذه السياسة مجازر مؤجلة وغير مباشرة، وتصفية مهندسي القطاع المتخصصين في مجال المتفجرات.

في 13 أغسطس /آب عام 2014، وبينما كان جهاز الهندسة يستعرضُ مُخلّفات الاحتلال الحربيّة في حقلٍ خُصِّصَ لتجميع الذخائر شمال القطاع، انفجر صاروخٌ من المُخلّفات، واستشهد سبعة؛ صحفيان، وثلاثة من رجال هندسة المتفجرات، هم: الرائد تيسير الحوم مدير هندسة المتفجرات شمال قطاع غزّة، ونائبه الرائد حازم أبو مراد، والمساعد بلال السلطان، بالإضافة إلى شخصين آخرين.

وفي 6 أغسطس/آب عام 2015، وبينما كانت عائلةُ أبو نقيرة تعمل على إزالة ركام منزلها الذي قصفه الاحتلال في مخيم الشابورة في رفح، انفجر جسمٌ من مُخلّفات حرب عام 2014، واستشهد إثر ذلك خمسة من العائلة، وأصيب 30 آخرون.

فردٌ من طاقم هندسة المتفجرات يحمل بقايا قذيفة من عدوان الاحتلال الأخير على غزة، 21 مايو 2021

يحاول الاحتلال أيضاً عبر هذه السّياسة، "تفادي اغتنام المقاومة في غزّة للمواد المتفجرة وإعادة تصنيعها"، وذلك وفق مصدرٍ من المقاومة، الذي قال إنّ "الاحتلال يحاول الفتك بـمهندسي المقاومة وكوادرها، دون أن تكون له يدٌ مباشرة في الحدث"، خصوصاً عقب النجاح الذي سجّلته المقاومة خلال السنوات الماضية في إعادة تصنيع المواد المتفجرة من مخلفات الاحتلال الحربية. يضيف المصدر ذاته: "لذا بات الاحتلال يصعّد في سياسة تشريك القنابل بشكلٍ أشدّ من السابق، ما تطلب حرصاً أعلى من جانبنا".

بالعودة لمقداد، فإنّه لا ينفي الخطورة التي تلازم محاولات تعطيل ونقل هذه القنابل وغيرها، ويوضح أنّ "الطواقم الهندسيّة راكمت خبراتِها الميدانيّة في التعامل مع القنابل والصواريخ المُشرَّكة، وأصبحت أكثر خبرة". مشيراً إلى أنّ جهاز الهندسة نجح – حتى نهاية مايو تقريباً، في تحييد ما يزيد عن 300 قنبلة غير منفجرة ألقيت خلال العدوان الأخير.