11 يوليو 2023

قبرص واليونان: حيث تحاكي "إسرائيل" حربها القادمة

قبرص واليونان: حيث تحاكي "إسرائيل" حربها القادمة

في آذار/ مارس 2023، وقّعت قبرص واليونان مع "إسرائيل"، كلّ على حدة، على برنامجٍ للتعاون الدفاعيّ الثنائيّ لعام 2023. ثم في أيّار/ مايو من نفس العام، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي تنظيم مناورة عسكريّة في قبرص، يشارك فيها سلاح الجوّ وقوّات بريّة لمحاكاة سيناريوهات القتال في لبنان. جاء ذلك الإعلان بعد عامٍ من تنظيم جيش الاحتلال الإسرائيلي لمناورةٍ عسكريّة ضخمة في قبرص لمدة 4 أسابيع باسم "عربات النار"، شملت اشتراك آلاف الجنود الإسرائيليين في تدريبات لمحاكاة الدخول إلى عمق الأراضي اللبنانيّة.

لماذا قبرص واليونان؟

يشير مجموعة من الكتاب اليونانيين والقبرصيين والإسرائيليين، في كتاب "الجغرافيا السياسيّة الجديدة للبحر المتوسط: الشراكات الثلاثية والأمن الإقليمي"، إلى أنّ جيش الاحتلال يُولي عنايةً كبيرةً لتعزيز تعاونه العسكريّ مع قبرص واليونان لعدة أهداف: أولاً؛ تضاريس قبرص تماثل تضاريس لبنان بشكلٍ كبير، مما يجعل التدريبات العسكريّة الإسرائيليّة تجري في ميدانٍ أشبه ما يكون بميدان المعركة الحقيقي. ثانياً؛ تمتلك اليونان أنظمةَ دفاعٍ جويّ روسيّة الصنع من طراز (S-300)، كتلك الموجودة في سوريا وإيران، والتي تمتلكها أيضاً بعض الدول العربيّة، وبالتالي يساهم التدريب في اليونان على تحسين قدرات سلاح الجو الإسرائيليّ في التعامل مع أنظمة الدفاع الجويّ المذكورة، وهو ما يحتاجه خلال غاراته على القواعد الإيرانيّة في سوريا. ثالثاً؛ تتيح مساحة اليونان الأكبر من فلسطين المحتلة، مع وجود جبال مرتفعة فيها، للطيارين الإسرائيليين التحليق لمسافاتٍ طويلةٍ على ارتفاعات منخفضة في المناطق الجبليّة، كما يوفر بيئة تُكسِب الطيارين خبرةً في العمل في مناطق أجنبية غير مألوفة.

ما الذي تكسبه نيقوسيا؟

عبر تاريخها، تمتّعت قبرص بعلاقاتٍ وطيدة مع موسكو، ولكن مع انشغال روسيا بملفاتٍ أخرى، وتوتر العلاقات الروسيّة الأوروبيّة، لم يعد من الكافي لنيقوسيا المتجهة نحو الغرب الاستناد على علاقتها مع موسكو أو الركون إلى تحالفها الدفاعيّ مع اليونان. ورغم عضوية قبرص في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2004، إلا أنها لم تتمكن من الانضمام إلى حلف الناتو بسبب الرفض التركي، إذ يُشترط لانضمام عضو جديد موافقة جميع أعضاء الحلف، وهو ما حرم نيقوسيا من مظلة حماية في ظلِّ محدودية قدراتها العسكريّة.

اقرؤوا المزيد: "إسرائيل" تُلغّم البحر المتوسّط

ونظراً للخلافات بين قبرص وتركيا حول حقوق القبارصة الأتراك، والنزاع حول ترسيم الحدود البحريّة في شرق المتوسط، لجأت قبرص إلى بناء شراكاتٍ مع دول مطلّة على شرق البحر الأبيض المتوسط، بهدف الاحتماء بحلفاء آخرين لموازنة القوة التركيّة. ووجدت نيقوسيا بغيتها في تل أبيب، فضلاً عن مصر التي ظلّت علاقتها مع تركيا متوترة منذ 2013، قبل أن يتم الاتفاق على تبادل الدبلوماسيين بين البلدين مجدداً في عام 2023.

وزير الأمن الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان (يسار) يتحدث في مؤتمر صحفي مع نظيريه القبرصي واليوناني، سافاس أنجليديس (وسط) وبانوس كامينوس (يمين)، خلال مؤتمر للصناعات الدفاعية في مدينة لارنكا الساحلية القبرصية، 22 يونيو/حزيران 2018. (وكالة الصحافة الفرنسية).

ما الذي تكسبه أثينا؟

اليونان هي آخر دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تعترف رسمياً بـ "إسرائيل"، إذ كان ذلك عام 1990، وقد دعمت عبر تاريخها القضية الفلسطينيّة مقابل الحصول على دعمٍ عربيّ في الأمم المتحدة لموقف اليونان في الأزمة القبرصية، فضلاً عن وجود علاقات عربيّة يونانيّة ممتدة تتمثّل في وجود جالياتٍ يونانيّة في دولٍ عربيّة مثل مصر، واعتماد اليونان على النفط العربيّ. 

ولكن مع انخراط الدول العربيّة في مفاوضات مدريد عام 1992، ثم عقد منظمة التحرير الفلسطينيّة لاتفاق أوسلو عام 1993، أخذت العلاقات اليونانيّة الإسرائيليّة تتطّور، وسعت أثينا للحصول على دعم اللوبي اليهودي الأميركي في مشكلة قبرص عبر النافذة الإسرائيليّة. وجاءت زيارة نتنياهو لليونان في آب/ أغسطس 2010، لتعزِّز مسيرة التعاون مع الجانبين في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن، وهو ما تزامن مع تأزم العلاقات التركيّة الإسرائيلية عقب استشهاد  10 مواطنين أتراك وإصابة 60 آخرين خلال هجوم جيش الاحتلال الإسرائيلي على سفينة "مافي مرمرة" ضمن "أسطول الحرية" المتجه نحو غزة في أيّار/ مايو 2010.

تاريخيّاً، اعتمدت اليونان على مظلة حماية الناتو، في ظل الرؤية الأميركية لها كنقطة ارتكازٍ وبوابة بين الغرب والشرق، نظراً لقربها من أبرز نقطتي خنق للملاحة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهما مضيقا البوسفور والدردنيل اللذان يحدّان من النفوذ الروسي، وقناة السويس التي تتحكم في طريق التجارة من أوروبا إلى الخليج وجنوب وشرق آسيا. 

جانب من تدريبات عسكرية برية إسرائيلية يونانية أميركية مشتركة عقدت على الأراضي اليونانية، مطلع عام 2023. (مصدر الصور: موقع جيش الاحتلال الإسرائيلي).

ولكن مع انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفيتي والبلقان، خشيت أثينا من تراجع ​​الأهمية الاستراتيجية لها. ثمّ مع وصول نيكوس كوتزياس، أستاذ العلاقات الدولية، إلى منصب وزير خارجية اليونان عام 2015، صاغ عقيدة جديدة للسياسة الخارجية تهدف إلى تبني سياسةٍ نشطة لمواجهة القوى المعادية لبلاده، وبالأخص بعد اهتزاز المجتمع اليوناني على خلفية الأزمة الاقتصاديّة التي ضربت البلاد عام 2008، والتي كشّفت عن خطورة الاعتماد على الدعم الاقتصاديّ الأوروبيّ المشروط، وعدم فاعلية تبني سياسةٍ خارجيّة خاملة تدور في فلك بروكسل وواشنطن.

اقرؤوا المزيد: المضائق المائيّة تتسع لـ "إسرائيل"!

اعتبر كوتزياس أنَّ اليونان تقع في منتصف مثلثٍ من عدم الاستقرار، تُشكّل أوكرانيا رأسه في الشمال بينما تمثّل سوريا وليبيا طرفي قاعدة المثلث في الجنوب. وطرح مقاربةً تقوم على تقديم اليونان لطرقٍ بديلةٍ لنقل الغاز إلى أوروبا، بدلاً من خطوط الغاز القادمة من روسيا، مما يضع أثينا في قلب رقعة الشطرنج الجيوسياسية لأوروبا، الأمر الذي يتطلّب تعزيز المبادرات الثنائية والمتعددة الأطراف بعيداً عن المظلة الأوروبية، وهو ما وجدته أثينا في الشراكة مع تل أبيب والقاهرة. 

طياران من سلاح الجو اليوناني يقفان بجانب إحدى طائرات التدريب في في مطار كالاماتا في اليونان، بعد افتتاح "مركز التدريب الدولي اليوناني على الطيران" بالتعاون مع دولة الاحتلال، تشرين الأول/ أكتوبر 2022. (وكالة الصحافة الفرنسية).

الساحة والمنصّة

دُشّنت آلية التعاون الثلاثي بين مصر واليونان وقبرص منذ عام 2014، عبر عقد قمةٍ رئاسيّةٍ دوريّة بين رؤساء الدول الثلاثة. ثم في عام 2016، انعقدت القمة الثلاثية الأولى بين "إسرائيل" واليونان وقبرص، ثمّ اشتركت الدول الأربعة في تأسيس "منتدى غاز شرق المتوسط" عام 2019، مع إضافة دول أخرى باستثناء تركيا. ثم سرعان ما امتد التعاون السياسي والاقتصادي ليمتد إلى التعاون العسكري، فبدأ عام 2015 بتنظيم تدريبٍ جويٍّ بحريٍّ مشترك بين اليونان وقبرص ومصر تحت اسم "ميدوزا"، فيما اشترت قبرص عام 2019 طائرات بدون طيار إسرائيلية الصنع لمراقبة حدودها البحرية، ووقّعت "إسرائيل" وقبرص عام 2022 اتفاقاً لبيع نظام القبة الحديدية للدفاع الصاروخي.

اقرؤوا المزيد: مواردنا المنهوبة.. أنابيب إسرائيلية لغاز فلسطيني

تعتبر تل أبيب قبرص ساحةً خلفية، تتيح لها تدريب قواتها الجويّة والبريّة والبحريّة على مهاجمة لبنان وإيران. كما توفر مع اليونان منصة لمراقبة التحركات البحريّة الإيرانيّة في شرق المتوسط باتجاه سوريا ولبنان، وهو ما كاد يؤدي إلى أزمة دبلوماسية عام 2022 بين أثينا وطهران، عقب احتجاز اليونان ناقلة تحمل 115 ألف طن من النفط الإيراني، بحجة تسليم النفط المصادر إلى واشنطن استجابة لطلب القضاء الأميركي، وهو ما ردّ عليه الحرس الثوري سريعاً عبر احتجازه ناقلتين يونانيتين تحملان 300 ألف طن نفط في مياه الخليج، ثم انتهت الأزمة بإصدار محكمة يونانية قراراً بإلغاء مصادرة النفط الإيراني، وتبعه الإفراج عن السفينتين اليونانيتين.

لقد عبّر فيما مضى وزير الخارجية الإسرائيلي السابق يائير لابيد عن أهمية التحالف الإسرائيلي مع قبرص واليونان، قائلاً إنّه "جزءٌ من إطار عمل أوسع تسعى إسرائيل لمد نطاقه إلى البلقان"، فيما أشار الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسياديس إلى أنّ الشراكة بين الدول الثلاثة يمكن أن تؤسس لتحالف إقليمي يقوم على مواجهة التطرّف وتعزيز المصالح الاقتصادية.

هكذا، يُرجّح أن تستمر الشراكة بين دولة الاحتلال وقبرص واليونان دون أن ينعكس عليها تحسن العلاقات الإسرائيلية التركية أو المصرية التركية سلباً، وذلك في ظل تقاطع المصالح الاقتصادية والعسكرية والأمنية بين الدول الثلاث، فضلاً عن انخراط بعض الدول العربية في اتفاقيات للتطبيع، مما يجعل أثينا ونيقوسيا لا تشعران باحتمال تأثر علاقاتهما مع العرب سلباً على خلفية تحالفهما مع "إسرائيل"، وهو ما يوضّح نموذجاً لبعض التداعيات السلبية للتطبيع على القضية الفلسطينيّة.